fbpx

صرت أماً… وها أنا أنظر إليّ من بعد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أرى طفلي وأرى نفسي وكأنني على مسافة، كالبعيدة منّا الاثنين، أراقب وأسجّل، أقلق وأخاف وأترقّب، وأنا لست أنا.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يتغيّر شيء وتغيّر كل شيء. تكمل الحياة كما كانت، المشاغل هي هي والهوايات هي هي والعلاقات هي هي. ولكنّها في الوقت عينه حياة جديدة، الوقت فيها يمرّ سريعاً، كلّ أسبوع يأتي بجديد، كلّ نهار يكلّله فرح صافٍ، حب عارم يجعل من كلّ يوم، مهما كان شكله، يوماً جميلاً. ومع ذلك، فثمة قلق حاضر دائماً، خافت ولكنّه عنيد، يأبى أن يتركني. 

رافقني القلق منذ الحمل ولكنّه تحوّل عملاقاً عند الولادة، حتى أغرق المشاعر الأخرى كلها في الأسابيع الأولى. كنت قرأت الكثير عن الأطفال والتربية والأمومة فظننت أنّني جهزّت نفسي للآتي. غير أنّ الصعوبة الفعليّة لم تكمن كما ظننت في تنظيم النوم والأكل أو حتّى التوفيق بين الأمومة والعمل. الصعوبة الفعليّة كانت صعوبة وجوديّة. ما لم أتحضّر له كان كمّ الهشاشة الذي أتى مع هذه الحياة الجديدة، هشاشة أحاطتني وأسقطت دفاعاتي الاعتيادية. فخفت وتساءلت إن كان بوسعي إعادة بناء دفاعات جديدة، عساها تحمي هذا الكائن الصغير الجميل وتحميني معه. 

راودني الكابوس نفسه في الأسابيع الأولى. ابني يغفو إلى جانبي وأنا أنقلب فوقه. أمدّ يدي أدسّ زوجي ظانّة أنّه ابني. تمر ثوان طويلة قبل أن أفيق ويعود إليّ الإدراك. أفتح عيناي لأطمئنّ على أنّ ابني في سريره وأعود لأنام. ثمّ أستيقظ مجدّداً، هذه المرّة على صوت بكاء أخشاه ولكنّني أيضاً أشعر معه بنوع من الارتياح، ارتياح بأنّ الحياة تكمل ونحن نائمون، بأنّنا على تواصل، نحن الذين ما زلنا في مرحلة التعارف ولسنا أكيدين ماذا يفعل كل واحد منّا عندما يحلّ الظلام والسكون. 

كنت قرأت أنّ أمّهات كثيرات يشعرن برابط قوي ونوع من التفاهم التلقائي عند الولادة. أنا لم أشعر بشيء من هذا، فقط شعرت بإنهاك شديد بعد 26 ساعة من المخاض. رأيت زوجي يقع في الحب عندما حمل طفله أوّل مرّة. أمّا أنا فلمّا وضعوه على صدري، خفت أن أمسكه فينزلق من بين يديّ. ثمّ انتابني في الأيّام الأولى نوع من التعجّب المستمرّ من فكرة أن هذا الكائن كان داخلي وخرج منّي، تعجّب رأيته تافهاً ولكنّه طال رغماً عنّي. كنت كالمشاهدة وقتها، أرى طفلي وأرى نفسي وكأنني على مسافة، كالبعيدة منّا الاثنين، أراقب وأسجّل، أقلق وأخاف وأترقّب، وأنا لست أنا.   

ولكنّ الأيّام تمرّ سريعاً، كلّ أسبوع يأتي بجديد، وحب عارم يجعل من كلّ يوم، مهما كان شكله، يوماً حلواً، يوماً صافياً

هذا الإحساس الذي أفسّره اليوم بأنّه كان نوعاً من الـimpostor syndrome، شعور بأنّني كنت ألعب دور الأم من دون أن أكون فعلياً أمّاً حقيقيّة، استمر أسابيع. أتذكّر كم كانت صعبة زيارتنا إلى السفارة الأميركية في لندن ثلاثة أسابيع بعد الولادة. كان ذلك أوّل مشوار بعيد وطويل لنا مع ابننا، جاءت سيارة الأجرة فجراً، وكنّا طبعاً لم ننم كثيراً، وأبينا أن نغفو في السيّارة بدافع حراسة ابننا الغارق في مقعده في السيّارة. في السفارة انصرف زوجي إلى معاملات الباسبور وأنا حملت ابني وأغراضه وجلست على مقعد محاولة أن أجد طريقة لائقة لإرضاعه من دون أن يفلت منّي. كنت أتخيّل أنّ الناس حولي يراقبونني ويلاحظون ارتباكي. وأخيراً، بعدما أكملت الرضاعة، طلبت من زوجي تبادل الأدوار، هو حمل ابننا وأنا أكملت المعاملات ووقّعت الأوراق. تخيّلت أيضاً أنّ الناس يراقبوننا ويجدون أنّ زوجي كان واثقاً من نفسه أكثر منّي، وشعرت بالخجل. شعرت بالخجل كذلك لمّا سافر زوجي لبضعة أيام بعد هذه الزيارة وخفت أن أحمّم ابني وحدي. لو لم تتدخّل صديقتي وتقترح مساعدتي لم أكن لأجرؤ. وبالفعل لم أحمّمه وحدي إلّا بعد مرور شهرين أو أكثر.

ولكنّ الأيّام كرّت بعدها. قالت صديقة لي، لما أخبرتها أنّني كنت غير قادرة على تخطّي أعجوبة الولادة، أنّ ابني ليس هو فعلاً الطفل نفسه الذي كان بداخلي. أعجبتني الفكرة لكنّها بدت هي نفسها عجيبة. لم تقنعني فعلاً إلّا مع مرور الوقت، كبر فيه ابني وكبرت المسافة بين فعل الولادة وأيّام الرضاعة الأولى وهذا الصبي كبير الخدّين الذي برزت شخصيّته مع مرور الأشهر. تبلورت علاقتنا منذ الابتسامة الأولى، تلتها تغريدات وضحكات وأحاديث كثيرة. أصبحنا مع مرور الوقت كصديقين قديمين، نخرج كلّ يوم، أجرّه في شوارع أوكسفورد أو نجلس في المقاهي. في البيت، نأكل معاً ونلعب. وأحيانا آخذ قيلولة إلى جانبه من دون قلق. بتّ أميّز بين بكاء الجوع وبكاء الملل. وأعرف أنّه يحبّ أن يلصق وجنته بوجنتي عندما يكون منزعجاً، وأن أربتّ على ظهره لينام. 

ما زلت لا أثق بـ”غريزتي” الأمومية وأحتكم إلى الكتب في معظم قراراتي. وما زلت أحياناً أنظر إلينا من بُعد، بخاصة عندما يعبّر هو عن تعلّق يفاجئني فيعيدني إلى شيء من حالة التعجّب الأولى. وما زلت أتساءل يومياً إن كانت الحياة تسع لهذا القدر من السعادة. 

ولكنّ الأيّام تمرّ سريعاً، كلّ أسبوع يأتي بجديد، وحب عارم يجعل من كلّ يوم، مهما كان شكله، يوماً حلواً، يوماً صافياً.

20.03.2020
زمن القراءة: 4 minutes

أرى طفلي وأرى نفسي وكأنني على مسافة، كالبعيدة منّا الاثنين، أراقب وأسجّل، أقلق وأخاف وأترقّب، وأنا لست أنا.

لم يتغيّر شيء وتغيّر كل شيء. تكمل الحياة كما كانت، المشاغل هي هي والهوايات هي هي والعلاقات هي هي. ولكنّها في الوقت عينه حياة جديدة، الوقت فيها يمرّ سريعاً، كلّ أسبوع يأتي بجديد، كلّ نهار يكلّله فرح صافٍ، حب عارم يجعل من كلّ يوم، مهما كان شكله، يوماً جميلاً. ومع ذلك، فثمة قلق حاضر دائماً، خافت ولكنّه عنيد، يأبى أن يتركني. 

رافقني القلق منذ الحمل ولكنّه تحوّل عملاقاً عند الولادة، حتى أغرق المشاعر الأخرى كلها في الأسابيع الأولى. كنت قرأت الكثير عن الأطفال والتربية والأمومة فظننت أنّني جهزّت نفسي للآتي. غير أنّ الصعوبة الفعليّة لم تكمن كما ظننت في تنظيم النوم والأكل أو حتّى التوفيق بين الأمومة والعمل. الصعوبة الفعليّة كانت صعوبة وجوديّة. ما لم أتحضّر له كان كمّ الهشاشة الذي أتى مع هذه الحياة الجديدة، هشاشة أحاطتني وأسقطت دفاعاتي الاعتيادية. فخفت وتساءلت إن كان بوسعي إعادة بناء دفاعات جديدة، عساها تحمي هذا الكائن الصغير الجميل وتحميني معه. 

راودني الكابوس نفسه في الأسابيع الأولى. ابني يغفو إلى جانبي وأنا أنقلب فوقه. أمدّ يدي أدسّ زوجي ظانّة أنّه ابني. تمر ثوان طويلة قبل أن أفيق ويعود إليّ الإدراك. أفتح عيناي لأطمئنّ على أنّ ابني في سريره وأعود لأنام. ثمّ أستيقظ مجدّداً، هذه المرّة على صوت بكاء أخشاه ولكنّني أيضاً أشعر معه بنوع من الارتياح، ارتياح بأنّ الحياة تكمل ونحن نائمون، بأنّنا على تواصل، نحن الذين ما زلنا في مرحلة التعارف ولسنا أكيدين ماذا يفعل كل واحد منّا عندما يحلّ الظلام والسكون. 

كنت قرأت أنّ أمّهات كثيرات يشعرن برابط قوي ونوع من التفاهم التلقائي عند الولادة. أنا لم أشعر بشيء من هذا، فقط شعرت بإنهاك شديد بعد 26 ساعة من المخاض. رأيت زوجي يقع في الحب عندما حمل طفله أوّل مرّة. أمّا أنا فلمّا وضعوه على صدري، خفت أن أمسكه فينزلق من بين يديّ. ثمّ انتابني في الأيّام الأولى نوع من التعجّب المستمرّ من فكرة أن هذا الكائن كان داخلي وخرج منّي، تعجّب رأيته تافهاً ولكنّه طال رغماً عنّي. كنت كالمشاهدة وقتها، أرى طفلي وأرى نفسي وكأنني على مسافة، كالبعيدة منّا الاثنين، أراقب وأسجّل، أقلق وأخاف وأترقّب، وأنا لست أنا.   

ولكنّ الأيّام تمرّ سريعاً، كلّ أسبوع يأتي بجديد، وحب عارم يجعل من كلّ يوم، مهما كان شكله، يوماً حلواً، يوماً صافياً

هذا الإحساس الذي أفسّره اليوم بأنّه كان نوعاً من الـimpostor syndrome، شعور بأنّني كنت ألعب دور الأم من دون أن أكون فعلياً أمّاً حقيقيّة، استمر أسابيع. أتذكّر كم كانت صعبة زيارتنا إلى السفارة الأميركية في لندن ثلاثة أسابيع بعد الولادة. كان ذلك أوّل مشوار بعيد وطويل لنا مع ابننا، جاءت سيارة الأجرة فجراً، وكنّا طبعاً لم ننم كثيراً، وأبينا أن نغفو في السيّارة بدافع حراسة ابننا الغارق في مقعده في السيّارة. في السفارة انصرف زوجي إلى معاملات الباسبور وأنا حملت ابني وأغراضه وجلست على مقعد محاولة أن أجد طريقة لائقة لإرضاعه من دون أن يفلت منّي. كنت أتخيّل أنّ الناس حولي يراقبونني ويلاحظون ارتباكي. وأخيراً، بعدما أكملت الرضاعة، طلبت من زوجي تبادل الأدوار، هو حمل ابننا وأنا أكملت المعاملات ووقّعت الأوراق. تخيّلت أيضاً أنّ الناس يراقبوننا ويجدون أنّ زوجي كان واثقاً من نفسه أكثر منّي، وشعرت بالخجل. شعرت بالخجل كذلك لمّا سافر زوجي لبضعة أيام بعد هذه الزيارة وخفت أن أحمّم ابني وحدي. لو لم تتدخّل صديقتي وتقترح مساعدتي لم أكن لأجرؤ. وبالفعل لم أحمّمه وحدي إلّا بعد مرور شهرين أو أكثر.

ولكنّ الأيّام كرّت بعدها. قالت صديقة لي، لما أخبرتها أنّني كنت غير قادرة على تخطّي أعجوبة الولادة، أنّ ابني ليس هو فعلاً الطفل نفسه الذي كان بداخلي. أعجبتني الفكرة لكنّها بدت هي نفسها عجيبة. لم تقنعني فعلاً إلّا مع مرور الوقت، كبر فيه ابني وكبرت المسافة بين فعل الولادة وأيّام الرضاعة الأولى وهذا الصبي كبير الخدّين الذي برزت شخصيّته مع مرور الأشهر. تبلورت علاقتنا منذ الابتسامة الأولى، تلتها تغريدات وضحكات وأحاديث كثيرة. أصبحنا مع مرور الوقت كصديقين قديمين، نخرج كلّ يوم، أجرّه في شوارع أوكسفورد أو نجلس في المقاهي. في البيت، نأكل معاً ونلعب. وأحيانا آخذ قيلولة إلى جانبه من دون قلق. بتّ أميّز بين بكاء الجوع وبكاء الملل. وأعرف أنّه يحبّ أن يلصق وجنته بوجنتي عندما يكون منزعجاً، وأن أربتّ على ظهره لينام. 

ما زلت لا أثق بـ”غريزتي” الأمومية وأحتكم إلى الكتب في معظم قراراتي. وما زلت أحياناً أنظر إلينا من بُعد، بخاصة عندما يعبّر هو عن تعلّق يفاجئني فيعيدني إلى شيء من حالة التعجّب الأولى. وما زلت أتساءل يومياً إن كانت الحياة تسع لهذا القدر من السعادة. 

ولكنّ الأيّام تمرّ سريعاً، كلّ أسبوع يأتي بجديد، وحب عارم يجعل من كلّ يوم، مهما كان شكله، يوماً حلواً، يوماً صافياً.

20.03.2020
زمن القراءة: 4 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية