fbpx

عصافير معادية في ليلة عيد الحب في النبطيّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحب في النبطية ينتصر دائماً على الحرب، ويستمر رغم الخسارات والشدائد، كأنه احتفالية أبدية لا يحدها مكان ولا يحددها زمان، يسلمها جيل إلى جيل، والحب متن في النبطية، وكل ما عداه هوامش.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

النبطية، مساء عيد الحب، العاصفة المطرية تهمهم في الخارج، يكاد صوتها يطغى على أصوات الانفجارات التي تأتي من جهة جنوب النهر، وينافس هدير طائرات الاستطلاع التي تقبض على سمائنا وحياتنا منذ أكثر من أربعة أشهر، فتخلف في النفس شيئاً من الطمأنينة، الشوارع شبه خالية، الصقيع مثل الحرب جمّد مشاعر عيد الحب، فلملم وروده ودباديبه الحمراء منسحباً من المشهد، واكتفى العشاق بالرسائل الإلكترونية أو بعض اللقاءات المستعجلة. 

شيء ثقيل يسيطر على الأجواء، أفتح شباك مطبخي، علّ الهواء النظيف يخفف الثقل، فألمح جاري يخرج من سيارته حاملاً قالب حلوى أحمر على شكل قلب، وخلفه ولداه يتقافزان ويصفقان احتفالاً بوليمة السكر، فيخفق قلبي لهما، أغلق الشباك على جرعة الحب المجانية التي تلقيتها للتو، الشارع الذي أقيم فيه اسمه شارع الحب، هو امتداد لقلب المدينة الصغير النابض بالحب وبالحياة، كل شيء في النبطية ينطق بالحب، بخاصة حين يقترب منها الخطر.

الخطر في النبطية مقيم، بينما الأمان عابر، فالمدينة منذ بداية السبعينيات، تعيش تحت رحمة المحتل الإسرائيلي، دمرتها الطائرات المعادية أكثر من مرة، مرة في حربها المفتوحة ضد المنظمات الفلسطينية بعدما دمرت مخيم كسار زعتر الذي كان يؤوي اللاجئين الفلسطينيين، وخلال عمليتي الليطاني وسلامة الجليل، وفي حروب الأيام السبعة وعناقيد الغضب وتموز 2006، خلال هذه العقود المديدة من الاعتداءات خسرت النبطية الكثير من الأنفس والثمرات وتحولت إلى مدينة أشباح، لكنها كانت في كل مرة تعود وتعمر من جديد بشراً قبل الحجر والشجر.

فالحب في النبطية ينتصر دائماً على الحرب، ويستمر رغم الخسارات والشدائد، كأنه احتفالية أبدية لا يحدها مكان ولا يحددها زمان، يسلمها جيل إلى جيل، والحب متن في النبطية، وكل ما عداه هوامش، منذ قرر القس وديع أنطون جعل مجموعة الكتب التي اشتراها وجمعها بماله الخاص مكتبة عامة للباحثين عن الشعر والأدب والثقافة، منذ كتب سمير فياض قصيدة غزل لصاحبة الفستان الأزرق، منذ طارت لوحات زعل سلوم من مرسمه المتواضع في حي السراي إلى معارض بيروت وباريس، منذ أدّى حسام صباغ أول أدواره الدرامية في مسرحية عاشوراء، منذ كانت صديقتي تنشر تنورتها الليلكية على السطح ليعرف حبيبها أن الوقت مناسب للقاء، مروراً بالظريف علي بوتو المصاب بعمى الألوان وأشياء أخرى يلحق صبية تلبس الأزرق في السوق ويقول لها يقبرني الزهر، إلى سيداتها اللواتي يدرن جلسات النقاش في صالوناتها الأدبية التسعة، إلى مغتربيها في أفريقيا الذين يتكفلون بتسديد فواتير العائلات المستورة، إلى  مدارسها التي تحمل أسماء الجيل الأول من نسائها المتعلمات: فريحة الحاج علي وليلى نصار وسلمى علي أحمد، إلى إرثها اليساري المعارض المستمد من شخصية عادل صباح “بي العامل والفلاح”، إلى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الهرم الثقافي الصامد بوجه رياح الإلغاء، وصولاً إلى كل ما يشهد على أصالتها وتوغلها في التاريخ والجغرافيا، من السرايا العثمانية إلى الحسينية ومدرسة الراهبات ونادي الشقيف وتل العسكر وحي الجزائر ونهر البراغيث وبير القنديل والبيدر وسوق الاثنين وفرن اللوز وفول الكومودور وفلافل الأرناؤوط وحلويات السهجوني وبيوت الحجر التراثية بقراميدها الحمراء المضيئة مثل هدايا عيد الحب.

الخطر في النبطية مقيم، بينما الأمان عابر، فالمدينة منذ بداية السبعينيات، تعيش تحت رحمة المحتل الإسرائيلي.

على بعد أمتار قليلة من منزلي، في الشارع الذي يحمل اسم مرجعيون، قرب محطة فلسطين للمحروقات، أوى الطفلان محمود وحسين عامر إلى النوم باكراً، بعدما نالا حصتهما من سكر العيد، غداً يوم دراسي عادي، والمدرسة الإنجيلية قريبة، لا يحتاجان كي يصلا إليها إلى وسيلة نقل، سيمران في طريقهما على مكتبة فرح يشتريان دفاتر وأقلام تلوين، ثم يعرجان على فرن التنور ليتناولا منقوشتي زعتر، زحمة الصباح ستكون في ذروتها، والقلق أيضاً، مذ دخلت النبطية في دائرة الاستهداف، قبل أسبوع تقريباً، لكن إرادة الحياة تغلب دائماً. 

قرابة التاسعة، يحدث ما كان في الحسبان، تنكسر إرادة الحياة فجأة، غارة جوية معادية تهز سكينتنا الهشة، طائرة مسيرة تقذف صاروخين على مبنى سكني، فتقتل سبعة مدنيين، عائلة حسين برجاوي بكالمها، وتجرح ستة آخرين، بعد أربع ساعات ينتشل المسعفون الطفل حسين البالغ من العمر 4 سنوات، مصاباً في رأسه إصابة طفيفة، وينقلونه إلى المستشفى ليرقد في جوار والده المصاب أيضاً، وكلاهما يسأل ماذا حدث وأين البقية؟ والفاجعة تنتظرهما في الخارج.

صباحاً، كان المسعفون لا يزالون يبحثون عن ضحايا تحت الركام، المبنى على وشك السقوط، بسبب الأضرار الفادحة التي خلفتها الغارة، لكن المسعفين مصرون على مواصلة عملهم، رغم الخطورة، فاطمة برجاوي وابنتها غدير لا تزالان تحت الأنقاض، أحد المسعفين قال إنه سمع صوتاً خفيضاً، ويتمنى أن يكونا على قيد الحياة. 

غالبية الناس في النبطية مؤيدون للمقاومة، ويشكلون سنداً قوياً لها، في الانتخابات النيابية يحصد نواب “حزب الله” أعلى معدل تصويت في لبنان، “يتجاوز أحياناً عدد الناخبين”؛ كما يتهكم البعض، والنبطية سواء المدينة أو المحافظة بأقضيتها الأربعة، تضم أكبر تجمع عددي للشيعة في لبنان، مدينة النبطية القائمة على مساحة لا تتعدى الـ 8 كيلومترات مربعة بكثافة سكانية تصل إلى 150 ألفاً، ما عدا المقيمين الدائمين من القرى المجاورة، واللاجئين السوريين والنازحين من قرى جنوب النهر في الوقت الحالي، يشكل الشيعة 94 في المئة من سكانها والباقي يتوزعون على أقلية كاثوليكية وأقل منها سنية وعائلة درزية واحدة.

هذه الكثافة الشيعية هي البيئة المتماسكة والمتجانسة التي تشكل قاعدة صلبة لـ”حزب الله”، والتي يرتكز على دعمها في قراراته واستراتيجياته، هذا الواقع يفهمه العدو جيداً، لذلك يحاول أذية البيئة، عبر استهداف المدنيين وإرعابهم لعلهم ينقلبون على حزبهم، هذا الكلام يتداوله الناس هنا، وليس كلاماً صادراً عن العدو أو عن محللي الشاشات والفضائيات، ويقولون إنهم على استعداد لدفع فاتورة المقاومة كما كانوا دائماً، حتى لو كانت الكلفة هي الإفناء الكامل للأرواح والأرزاق.

في المقابل، ترتفع أصوات ضعيفة وغير مؤثرة، تطالب بالتعقل وعدم المبالغة بادعاء البطولة والحماسة، فالعدو لن يتورع عن تحويل الجنوب كله إلى منطقة غير قابلة للحياة كما فعل في غزة، والمجتمع الدولي لن يعترض، كما حصل في غزة أيضاً، والخاسر الأكبر في المعركة سيكون أهل هذه المنطقة، بينما ستحصد إيران وحدها كل الانتصارات السياسية إذا وجدت، أصحاب هذا الرأي؛ كالعادة، يرشقون بتهمة الخيانة والتخاذل والعمالة وما شابه، حتى أن البعض منهم يتعرض لتهديدات خطرة، تتجاوز إطلاق الاتهامات إلى الخطر المباشر على الحياة.

حتى ساعة الغارة في النبطية، بلغت الخسائر الاقتصادية في الجنوب اللبناني نحو مليار و200 مليون دولار، وهي نتيجة الدمار الذي لحق بالبنى التحتية والطرقات والمباني والأراضي الزراعية، وهناك نحو 300 مليون دولار خسائر غير مباشرة نتيجة إقفال المؤسسات وتوقف الأعمال، وهناك نحو 37 ضحية من المدنيين وأكثر من 200 مقاتل لـ”حزب الله” ومنظمات متحالفة معه، ونحو 85 ألف نازح من 46 بلدة وقرية جنوبية تشكل الحزام الناري الأمامي، وهناك 250 وحدة سكنية دُمّرت كلياً و3300 بشكل جزئي. 

النبطية لم تشيع قتلاها اليوم، ما زالت تحصي أسماءهم وأعدادهم، نجا منهم الطفل حسين بعد أربع ساعات أمضاها تحت الأنقاض، وانضم إليهم عصر اليوم المسؤول في “حزب الله” علي الدبس، الذي قيل إنه نجا من الغارة التي استهدفته منذ أيام في النبطية أيضاً، وما زالت تعيش ذهول ما بعد الخسارة، وتلوح في أفقها “عصافير معادية وغيوم سود ودم ورعود”.

16.02.2024
زمن القراءة: 5 minutes

الحب في النبطية ينتصر دائماً على الحرب، ويستمر رغم الخسارات والشدائد، كأنه احتفالية أبدية لا يحدها مكان ولا يحددها زمان، يسلمها جيل إلى جيل، والحب متن في النبطية، وكل ما عداه هوامش.

النبطية، مساء عيد الحب، العاصفة المطرية تهمهم في الخارج، يكاد صوتها يطغى على أصوات الانفجارات التي تأتي من جهة جنوب النهر، وينافس هدير طائرات الاستطلاع التي تقبض على سمائنا وحياتنا منذ أكثر من أربعة أشهر، فتخلف في النفس شيئاً من الطمأنينة، الشوارع شبه خالية، الصقيع مثل الحرب جمّد مشاعر عيد الحب، فلملم وروده ودباديبه الحمراء منسحباً من المشهد، واكتفى العشاق بالرسائل الإلكترونية أو بعض اللقاءات المستعجلة. 

شيء ثقيل يسيطر على الأجواء، أفتح شباك مطبخي، علّ الهواء النظيف يخفف الثقل، فألمح جاري يخرج من سيارته حاملاً قالب حلوى أحمر على شكل قلب، وخلفه ولداه يتقافزان ويصفقان احتفالاً بوليمة السكر، فيخفق قلبي لهما، أغلق الشباك على جرعة الحب المجانية التي تلقيتها للتو، الشارع الذي أقيم فيه اسمه شارع الحب، هو امتداد لقلب المدينة الصغير النابض بالحب وبالحياة، كل شيء في النبطية ينطق بالحب، بخاصة حين يقترب منها الخطر.

الخطر في النبطية مقيم، بينما الأمان عابر، فالمدينة منذ بداية السبعينيات، تعيش تحت رحمة المحتل الإسرائيلي، دمرتها الطائرات المعادية أكثر من مرة، مرة في حربها المفتوحة ضد المنظمات الفلسطينية بعدما دمرت مخيم كسار زعتر الذي كان يؤوي اللاجئين الفلسطينيين، وخلال عمليتي الليطاني وسلامة الجليل، وفي حروب الأيام السبعة وعناقيد الغضب وتموز 2006، خلال هذه العقود المديدة من الاعتداءات خسرت النبطية الكثير من الأنفس والثمرات وتحولت إلى مدينة أشباح، لكنها كانت في كل مرة تعود وتعمر من جديد بشراً قبل الحجر والشجر.

فالحب في النبطية ينتصر دائماً على الحرب، ويستمر رغم الخسارات والشدائد، كأنه احتفالية أبدية لا يحدها مكان ولا يحددها زمان، يسلمها جيل إلى جيل، والحب متن في النبطية، وكل ما عداه هوامش، منذ قرر القس وديع أنطون جعل مجموعة الكتب التي اشتراها وجمعها بماله الخاص مكتبة عامة للباحثين عن الشعر والأدب والثقافة، منذ كتب سمير فياض قصيدة غزل لصاحبة الفستان الأزرق، منذ طارت لوحات زعل سلوم من مرسمه المتواضع في حي السراي إلى معارض بيروت وباريس، منذ أدّى حسام صباغ أول أدواره الدرامية في مسرحية عاشوراء، منذ كانت صديقتي تنشر تنورتها الليلكية على السطح ليعرف حبيبها أن الوقت مناسب للقاء، مروراً بالظريف علي بوتو المصاب بعمى الألوان وأشياء أخرى يلحق صبية تلبس الأزرق في السوق ويقول لها يقبرني الزهر، إلى سيداتها اللواتي يدرن جلسات النقاش في صالوناتها الأدبية التسعة، إلى مغتربيها في أفريقيا الذين يتكفلون بتسديد فواتير العائلات المستورة، إلى  مدارسها التي تحمل أسماء الجيل الأول من نسائها المتعلمات: فريحة الحاج علي وليلى نصار وسلمى علي أحمد، إلى إرثها اليساري المعارض المستمد من شخصية عادل صباح “بي العامل والفلاح”، إلى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الهرم الثقافي الصامد بوجه رياح الإلغاء، وصولاً إلى كل ما يشهد على أصالتها وتوغلها في التاريخ والجغرافيا، من السرايا العثمانية إلى الحسينية ومدرسة الراهبات ونادي الشقيف وتل العسكر وحي الجزائر ونهر البراغيث وبير القنديل والبيدر وسوق الاثنين وفرن اللوز وفول الكومودور وفلافل الأرناؤوط وحلويات السهجوني وبيوت الحجر التراثية بقراميدها الحمراء المضيئة مثل هدايا عيد الحب.

الخطر في النبطية مقيم، بينما الأمان عابر، فالمدينة منذ بداية السبعينيات، تعيش تحت رحمة المحتل الإسرائيلي.

على بعد أمتار قليلة من منزلي، في الشارع الذي يحمل اسم مرجعيون، قرب محطة فلسطين للمحروقات، أوى الطفلان محمود وحسين عامر إلى النوم باكراً، بعدما نالا حصتهما من سكر العيد، غداً يوم دراسي عادي، والمدرسة الإنجيلية قريبة، لا يحتاجان كي يصلا إليها إلى وسيلة نقل، سيمران في طريقهما على مكتبة فرح يشتريان دفاتر وأقلام تلوين، ثم يعرجان على فرن التنور ليتناولا منقوشتي زعتر، زحمة الصباح ستكون في ذروتها، والقلق أيضاً، مذ دخلت النبطية في دائرة الاستهداف، قبل أسبوع تقريباً، لكن إرادة الحياة تغلب دائماً. 

قرابة التاسعة، يحدث ما كان في الحسبان، تنكسر إرادة الحياة فجأة، غارة جوية معادية تهز سكينتنا الهشة، طائرة مسيرة تقذف صاروخين على مبنى سكني، فتقتل سبعة مدنيين، عائلة حسين برجاوي بكالمها، وتجرح ستة آخرين، بعد أربع ساعات ينتشل المسعفون الطفل حسين البالغ من العمر 4 سنوات، مصاباً في رأسه إصابة طفيفة، وينقلونه إلى المستشفى ليرقد في جوار والده المصاب أيضاً، وكلاهما يسأل ماذا حدث وأين البقية؟ والفاجعة تنتظرهما في الخارج.

صباحاً، كان المسعفون لا يزالون يبحثون عن ضحايا تحت الركام، المبنى على وشك السقوط، بسبب الأضرار الفادحة التي خلفتها الغارة، لكن المسعفين مصرون على مواصلة عملهم، رغم الخطورة، فاطمة برجاوي وابنتها غدير لا تزالان تحت الأنقاض، أحد المسعفين قال إنه سمع صوتاً خفيضاً، ويتمنى أن يكونا على قيد الحياة. 

غالبية الناس في النبطية مؤيدون للمقاومة، ويشكلون سنداً قوياً لها، في الانتخابات النيابية يحصد نواب “حزب الله” أعلى معدل تصويت في لبنان، “يتجاوز أحياناً عدد الناخبين”؛ كما يتهكم البعض، والنبطية سواء المدينة أو المحافظة بأقضيتها الأربعة، تضم أكبر تجمع عددي للشيعة في لبنان، مدينة النبطية القائمة على مساحة لا تتعدى الـ 8 كيلومترات مربعة بكثافة سكانية تصل إلى 150 ألفاً، ما عدا المقيمين الدائمين من القرى المجاورة، واللاجئين السوريين والنازحين من قرى جنوب النهر في الوقت الحالي، يشكل الشيعة 94 في المئة من سكانها والباقي يتوزعون على أقلية كاثوليكية وأقل منها سنية وعائلة درزية واحدة.

هذه الكثافة الشيعية هي البيئة المتماسكة والمتجانسة التي تشكل قاعدة صلبة لـ”حزب الله”، والتي يرتكز على دعمها في قراراته واستراتيجياته، هذا الواقع يفهمه العدو جيداً، لذلك يحاول أذية البيئة، عبر استهداف المدنيين وإرعابهم لعلهم ينقلبون على حزبهم، هذا الكلام يتداوله الناس هنا، وليس كلاماً صادراً عن العدو أو عن محللي الشاشات والفضائيات، ويقولون إنهم على استعداد لدفع فاتورة المقاومة كما كانوا دائماً، حتى لو كانت الكلفة هي الإفناء الكامل للأرواح والأرزاق.

في المقابل، ترتفع أصوات ضعيفة وغير مؤثرة، تطالب بالتعقل وعدم المبالغة بادعاء البطولة والحماسة، فالعدو لن يتورع عن تحويل الجنوب كله إلى منطقة غير قابلة للحياة كما فعل في غزة، والمجتمع الدولي لن يعترض، كما حصل في غزة أيضاً، والخاسر الأكبر في المعركة سيكون أهل هذه المنطقة، بينما ستحصد إيران وحدها كل الانتصارات السياسية إذا وجدت، أصحاب هذا الرأي؛ كالعادة، يرشقون بتهمة الخيانة والتخاذل والعمالة وما شابه، حتى أن البعض منهم يتعرض لتهديدات خطرة، تتجاوز إطلاق الاتهامات إلى الخطر المباشر على الحياة.

حتى ساعة الغارة في النبطية، بلغت الخسائر الاقتصادية في الجنوب اللبناني نحو مليار و200 مليون دولار، وهي نتيجة الدمار الذي لحق بالبنى التحتية والطرقات والمباني والأراضي الزراعية، وهناك نحو 300 مليون دولار خسائر غير مباشرة نتيجة إقفال المؤسسات وتوقف الأعمال، وهناك نحو 37 ضحية من المدنيين وأكثر من 200 مقاتل لـ”حزب الله” ومنظمات متحالفة معه، ونحو 85 ألف نازح من 46 بلدة وقرية جنوبية تشكل الحزام الناري الأمامي، وهناك 250 وحدة سكنية دُمّرت كلياً و3300 بشكل جزئي. 

النبطية لم تشيع قتلاها اليوم، ما زالت تحصي أسماءهم وأعدادهم، نجا منهم الطفل حسين بعد أربع ساعات أمضاها تحت الأنقاض، وانضم إليهم عصر اليوم المسؤول في “حزب الله” علي الدبس، الذي قيل إنه نجا من الغارة التي استهدفته منذ أيام في النبطية أيضاً، وما زالت تعيش ذهول ما بعد الخسارة، وتلوح في أفقها “عصافير معادية وغيوم سود ودم ورعود”.

16.02.2024
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية