fbpx

 عن قبر أبي وشبح التطوير في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نبشتُ في قبور التطوير محاولة لمعرفة لحظة بداية إعلان أن القاهرة مدينة لا تناسب الموتى أوالمقابر أوالجبانات أو”القرافات”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ ما يقرب الخمس سنوات، تشير عليّ أمي بصيغة  الأمر “ما تروح تشوف أبوك”، خوفاً من أن يكون شبح التطوير طال مقبرته. 

للمرة الأولى أشعر بسيطرة التاريخ الذي تحاول صنعه الدولة على تاريخي الذاتي، ثمة تقاطع بين ما تريده الدولة ورمزها “التطوير”، وبين صناعة تاريخ خاص بها، تاريخ يُسمى تاريخ الإزالة، ربما يدفعني هذا إلى نبش قبر أبي، ونبش قبور التطوير، من أين بدأت؟ ومتى بدأت؟ 

هذا التطوير حوّل القاهرة إلى مدينة ذات بوابات شاهقة، نسبة إلى “الكمباوندات” التي تُبنى باستمرار من دون مراعاة للنسبة الأكبر التي تسكن المدينة، أو إلى مدينة تحاول استدعاء النموذج الإماراتي، وأيضاً إلى محاولة فهم علاقتي بأبي، وإلى ما تخلفه الرؤية والمعرفة في تقاطعات تاريخ الفرد، مع ما تريده الدولة من صناعة تاريخ حديث، ولو كان اسمه “تاريخ الإزالة”، ولماذا تقود معاني الرؤية/الإزالة/التطوير/تاريخ الماضي، إلى كلمة واحدة وهي الفجيعة، فجيعة القاهرة ٢٠٥٠.

مدينة الموتى 

نبشت في قبور التطوير محاولة لمعرفة لحظة بداية إعلان أن القاهرة مدينة لا تناسب الموتى أوالمقابر أوالجبانات أو”القرافات”، كل هذه المفردات تحمل معاني مختلفة عن بعضها بعضاً، وإن كانت بين أبناء القاهرة الكلمة الأكثر شهرة هي “القرافة”، أي أنها لا تناسب أبي، وخلال البحث عن فهم اللحظة الآنية، وجدت أن هذه اللحظة مرتبطة بزمنٍ آخر وبسلطةٍ أخرى، وهناك مشروع خاص بسُلطة محمد حسني مبارك طرحه وزير إسكانه أحمد المغربي، في مقال نُشر في عدد أغسطس/آب من عام ٢٠٠٧ في مجلة “وجهات نظر” وكان عنوانه “الخيارات كلها مفتوحة/القاهرة ٢٠٥٠”، هذا المقال كان قد ألقاه الوزير في محاضرة أمام غرفة التجارة الأميركية في القاهرة الشهر السابق لنشرها، بناءً على تصور قامت به هيئة التخطيط العمراني التابعة للوزارة، التي كان يرأسها في ذلك الوقت رئيس الوزراء الحالي، ورأى المغربي أن “منبع المشاكل العمرانية في هذه المدينة هو إصدار قانون منع البناء على الأراضي الزراعية”، واعتبر أن “هذا القانون أضر بالبنية العمرانية لهذه المدينة”، وهذا ليس بالأمر الهين بالنسبة له “فالاقتصاد يتكلف العناء بسبب الازدحام المروري نتيجة هذا القانون، ويجب السماح بالبناء على الأراضي الزراعية، مهما كلف هذا من خسائر في هذا القطاع، لأنه لا يصح أن تكون دبي جاذبة للمستثمرين والاستثمارات في وجود مدينة عملاقة لها تاريخ مثل القاهرة”، ويكمل المغربي طارحاً أسئلة عدة لها علاقة بالأراضي الزراعية والجزر الموجودة في نهر النيل وبجانبه، حالماً بأن تكون القاهرة هي مانهاتن الشرق الأوسط، وينهيها قائلًا: “فليس هناك ما يمنعنا من أن نحلم، وأن نحقق تلك الأحلام في الحقيقة، إن جزءاً كبيراً من القاهرة تشغله مقابر أجدادنا، فهل ينبغي أن يستمر هذا الوضع؟”.

الإجابة أن الوضع لم يستمر، وأضحت القاهرة مدينة الموتى، ليس نسبة إلى مساحة المقابر فيها أو القرارات، بل نسبة إلى سكانها الموتى والمهددين دائماً بعبارة: “فهل ينبغي أن يستمر هذا الوضع؟” لكن الأسئلة المضادة حول هذه الأوضاع، لها علاقة بما تحصل عليه الدولة من بقاء الأوضاع كما هي عليه، أو تغييرها لما يجب أن تكون عليه، وحتى يعي المواطن ذلك، عليه الذهاب إلى صفحة “اليونسكو” ومشاهدة تضاؤل مساحة القاهرة كمدينة سياحية أثرية من لحظة طرح وزير إسكان مبارك وحتى الآن، وما ينتجه هذا التضاؤل من خسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة على صعيدي الدولة ومواطنيها، فالمواطن لم يعد بحاجة إلى الاعتراض على تغيير الأوضاع، بل على بقائها كما هي عليه، ولو لمدة قصيرة للغاية، حتى يعي هزائمه من آثار ما يسُمى التطوير أو تغيير الأوضاع أو تاريخ الإزالة.

سُلطة رمز التطوير

في كتابه “الرمز والسُلطة” يوضح الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو/١٩٣٠-٢٠٠٢، كيف تتكون الرمزية عبر أي سُلطة، ويعرّف ما أسماه ب”السُلطة الرمزية”، ويتقاطع هذا التعريف مع ما ذكره الفيلسوف الفرنسي الآخر إميل دوركهايم/١٨٥٨-١٩١٧ حول هذه الفكرة، لذا كتب في هذا الكتاب “أن السُلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع، وهي تسعى لإقامة نظام معرفي: في المعنى المباشر للعالم؛ والعالم الاجتماعي على الخصوص”، يفترض أن ما يدعوه دوركهايم “المحافظة المنطقية”، وأعني “مفهوماً متجانساً عن الزمان والمكان والعدد والعلة، ذلك المفهوم الذي يسمح للعقول بأن تتفاهم فيما بينها”، وربما المفهوم الذي تحاول تأسيسه السُلطة الحالية، رمزيته هي “التطوير”، عبر استلاب نماذج أخرى بلا أي أسس متشابهة بين الشكل العمراني فيها وبين الشكل العمراني في مصر، وربما يكون الاستلاب حسناً، إذا كان من يسكنون هذه المدن التي نريد استلابها، مثل سكان القاهرة من حيث مصادر الدخل، أي أن ما يغيب عن السلطة في هذا النموذج المستلب هو تقاطع الاقتصاد مع العمران، بالإضافة إلى نسيان السُلطة أن هناك نسبة لا بأس بها من المواطنين يسكنون المقابر، وعبر ما أشار إليه الفرنسيون وما أشارت إليه السُلطات في مصر، يحدث هنا تقاطع لشقي المعادلة التي من المفترض أن يهدف التطوير إلى تحسينها أو الاشتباك معها، وهي الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، والأمنية عبر تصميم شوارع يأمن معها المواطن ألا يُنهب أو يُسرق، وإن كان المقصود من التطوير أن تصبح القاهرة مانهاتن، فإنه يجب أن يكون العمران فيها مراعياً للنساء والسيدات كما هي مانهاتن، وألا تكون مانهاتن الشرق الأوسط عبارة عن مدينة مستوحاة من الموتى الأحياء، يخاف فيها المواطنون من نبّاش القبور.

This picture taken on June 24, 2023, shows a view of graves near the Khanqah (Sufi place of religious gathering) of Qawsun (Qusun), built around 1336, in Sayyida Aisha cemetery in Egypt’s capital Cairo, as part of an ongoing government project to construct new roads and infrastructure. (Photo by Khaled DESOUKI / AFP)

نبّاش القبور

في الأساطير القديمة المصرية هناك مخلوق يُدعى “السلعوة” وعادة ما يُسمى بالفصحى “نبِّاش القبور” وعادة ما كان يُستدعى من قبل الجدات والأمهات لتخويف الأطفال حتى يناموا، وإذا منحنا المجاز أن تكون “السلعة” حاضرة في زمننا الحالي على هيئة شبحي “الإزالة أو التطوير”، فثمة ما هو لافت للنظر في تشابه الموقف مع جماعة تشبه الأطفال، وتنام مثلهم تماماً، عندما تُستدعى السلعة أو التطوير أو أي كان اسمه أو رمزه، وهي جماعة الثوار القدامى أو الجماعة المدركة لآثار هذا التطوير اقتصادياً قبل اجتماعي، عادة ما يكون ردهم هكذا “احفظوا تاريخنا، رموزنا، أو عريضة يوقع عليها الفنانون والكُتاب والعمرانيون للاعتراض؛ لأن هذا يشوه ماضينا” أي أنهم يستخدمون الرمزية ذاتها في الاعتراض، دون أي حياد عنها.

التعامل مع الرمزية بهذا الشكل، يساهم في ترسيخها كعلة بلا دواء، كما أشار دوركهايم وبورديو، عن النظام المعرفي الذي تصنعه وتقيمه أي دولة، لذا؛ ربما علينا إيجاد سردية بديلة أو فهم جديد بعيداً عن الرومنسية، لأهمية القاهرة لا عبر التاريخ، بل عبر المستقبل، لذا؛ ما يلزم هذا النبّاش هو الحياد عن رمزيته، ليس لأنه يجعلنا نائمين، بل لأنه وحده يجعلنا لا ننام، فالنوم وسط نبّاش ليس هو الأزمة، بل الاقتناع بما يردده عن التعامل مع المقابر من رمزية، هو الأزمة الحقيقية، فالنائمون يصحون عندما تتعرض مقبرة رمز أو كاتب أو فنان شهير؛ لأن ذلك فقط يعد تشويهاً للتاريخ، ولا يصحون عندما يصدر قرار إزالة مقبرة عادية لمواطن عادي، عليهم ألا يصحوا عندما يصدر قرار لإزالة مقبرة كاتب أو فنان، ليس لأن هذا يدل على إيمانهم بالعدالة، بل لمجرد أنه من هنا يمكن أن نتناول سردية لرمزية أخرى غير ما تصنعه السلطة.

 في كتاب “القاهرة الكوزموبوليتانية” الصادر عن الجامعة الأميركية في القاهرة كتب إيريك دينس في الكتاب مقالاً بعنوان “مدينة المدن المغلقة” وترجمه أحمد محمود في العدد نفسه الذي كتب فيه وزير إسكان مبارك، عما أسماه “التفاوض في المظاهر”، وأيضاً عن اشتقاق كلمة العشوائيات من العشوائية، كتب دينيس: “لا يعبر العيش في الصحراء عن نفسه، كما ترمز الصحراء إلى أنها أرض الموتى، فهي تظل مرتبطة بالإزاحات المتعاقبة للجبانات وزيارة الموتى”، وربما لن يعرف دينس شعور المصري الذي بات مهدداً دائماً بأن تزال مقبرة أبيه، وربما يكفي ما كتبه الشاعر المصري فؤاد حدّاد (١٩٢٨-١٩٨٥) للتعبير عن هذا الشعور: “وقضيت حياتي في حنين والتفات” ويكفي أن يكون إجابة عن سؤال أمي المعقد.

هاني عضاضة | 29.06.2024

عن الجندي الإسرائيلي ومسار نزع الأنسنة عن الفلسطينيين

ما الذي يقود عدداً متزايداً من الجنود الإسرائيليين، إلى ارتكاب الفظاعات في غزة وتوثيقها بأنفسهم؟ وأية استراتيجيات تتبعها إسرائيل لتشكيل الذات الإنسانية الإسرائيلية وصوغها، لتنتج هذا النموذج للجندي الذي يرتكب أعمالاً مروعة؟
30.05.2024
زمن القراءة: 6 minutes

نبشتُ في قبور التطوير محاولة لمعرفة لحظة بداية إعلان أن القاهرة مدينة لا تناسب الموتى أوالمقابر أوالجبانات أو”القرافات”


منذ ما يقرب الخمس سنوات، تشير عليّ أمي بصيغة  الأمر “ما تروح تشوف أبوك”، خوفاً من أن يكون شبح التطوير طال مقبرته. 

للمرة الأولى أشعر بسيطرة التاريخ الذي تحاول صنعه الدولة على تاريخي الذاتي، ثمة تقاطع بين ما تريده الدولة ورمزها “التطوير”، وبين صناعة تاريخ خاص بها، تاريخ يُسمى تاريخ الإزالة، ربما يدفعني هذا إلى نبش قبر أبي، ونبش قبور التطوير، من أين بدأت؟ ومتى بدأت؟ 

هذا التطوير حوّل القاهرة إلى مدينة ذات بوابات شاهقة، نسبة إلى “الكمباوندات” التي تُبنى باستمرار من دون مراعاة للنسبة الأكبر التي تسكن المدينة، أو إلى مدينة تحاول استدعاء النموذج الإماراتي، وأيضاً إلى محاولة فهم علاقتي بأبي، وإلى ما تخلفه الرؤية والمعرفة في تقاطعات تاريخ الفرد، مع ما تريده الدولة من صناعة تاريخ حديث، ولو كان اسمه “تاريخ الإزالة”، ولماذا تقود معاني الرؤية/الإزالة/التطوير/تاريخ الماضي، إلى كلمة واحدة وهي الفجيعة، فجيعة القاهرة ٢٠٥٠.

مدينة الموتى 

نبشت في قبور التطوير محاولة لمعرفة لحظة بداية إعلان أن القاهرة مدينة لا تناسب الموتى أوالمقابر أوالجبانات أو”القرافات”، كل هذه المفردات تحمل معاني مختلفة عن بعضها بعضاً، وإن كانت بين أبناء القاهرة الكلمة الأكثر شهرة هي “القرافة”، أي أنها لا تناسب أبي، وخلال البحث عن فهم اللحظة الآنية، وجدت أن هذه اللحظة مرتبطة بزمنٍ آخر وبسلطةٍ أخرى، وهناك مشروع خاص بسُلطة محمد حسني مبارك طرحه وزير إسكانه أحمد المغربي، في مقال نُشر في عدد أغسطس/آب من عام ٢٠٠٧ في مجلة “وجهات نظر” وكان عنوانه “الخيارات كلها مفتوحة/القاهرة ٢٠٥٠”، هذا المقال كان قد ألقاه الوزير في محاضرة أمام غرفة التجارة الأميركية في القاهرة الشهر السابق لنشرها، بناءً على تصور قامت به هيئة التخطيط العمراني التابعة للوزارة، التي كان يرأسها في ذلك الوقت رئيس الوزراء الحالي، ورأى المغربي أن “منبع المشاكل العمرانية في هذه المدينة هو إصدار قانون منع البناء على الأراضي الزراعية”، واعتبر أن “هذا القانون أضر بالبنية العمرانية لهذه المدينة”، وهذا ليس بالأمر الهين بالنسبة له “فالاقتصاد يتكلف العناء بسبب الازدحام المروري نتيجة هذا القانون، ويجب السماح بالبناء على الأراضي الزراعية، مهما كلف هذا من خسائر في هذا القطاع، لأنه لا يصح أن تكون دبي جاذبة للمستثمرين والاستثمارات في وجود مدينة عملاقة لها تاريخ مثل القاهرة”، ويكمل المغربي طارحاً أسئلة عدة لها علاقة بالأراضي الزراعية والجزر الموجودة في نهر النيل وبجانبه، حالماً بأن تكون القاهرة هي مانهاتن الشرق الأوسط، وينهيها قائلًا: “فليس هناك ما يمنعنا من أن نحلم، وأن نحقق تلك الأحلام في الحقيقة، إن جزءاً كبيراً من القاهرة تشغله مقابر أجدادنا، فهل ينبغي أن يستمر هذا الوضع؟”.

الإجابة أن الوضع لم يستمر، وأضحت القاهرة مدينة الموتى، ليس نسبة إلى مساحة المقابر فيها أو القرارات، بل نسبة إلى سكانها الموتى والمهددين دائماً بعبارة: “فهل ينبغي أن يستمر هذا الوضع؟” لكن الأسئلة المضادة حول هذه الأوضاع، لها علاقة بما تحصل عليه الدولة من بقاء الأوضاع كما هي عليه، أو تغييرها لما يجب أن تكون عليه، وحتى يعي المواطن ذلك، عليه الذهاب إلى صفحة “اليونسكو” ومشاهدة تضاؤل مساحة القاهرة كمدينة سياحية أثرية من لحظة طرح وزير إسكان مبارك وحتى الآن، وما ينتجه هذا التضاؤل من خسائر اقتصادية واجتماعية كبيرة على صعيدي الدولة ومواطنيها، فالمواطن لم يعد بحاجة إلى الاعتراض على تغيير الأوضاع، بل على بقائها كما هي عليه، ولو لمدة قصيرة للغاية، حتى يعي هزائمه من آثار ما يسُمى التطوير أو تغيير الأوضاع أو تاريخ الإزالة.

سُلطة رمز التطوير

في كتابه “الرمز والسُلطة” يوضح الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو/١٩٣٠-٢٠٠٢، كيف تتكون الرمزية عبر أي سُلطة، ويعرّف ما أسماه ب”السُلطة الرمزية”، ويتقاطع هذا التعريف مع ما ذكره الفيلسوف الفرنسي الآخر إميل دوركهايم/١٨٥٨-١٩١٧ حول هذه الفكرة، لذا كتب في هذا الكتاب “أن السُلطة الرمزية هي سلطة بناء الواقع، وهي تسعى لإقامة نظام معرفي: في المعنى المباشر للعالم؛ والعالم الاجتماعي على الخصوص”، يفترض أن ما يدعوه دوركهايم “المحافظة المنطقية”، وأعني “مفهوماً متجانساً عن الزمان والمكان والعدد والعلة، ذلك المفهوم الذي يسمح للعقول بأن تتفاهم فيما بينها”، وربما المفهوم الذي تحاول تأسيسه السُلطة الحالية، رمزيته هي “التطوير”، عبر استلاب نماذج أخرى بلا أي أسس متشابهة بين الشكل العمراني فيها وبين الشكل العمراني في مصر، وربما يكون الاستلاب حسناً، إذا كان من يسكنون هذه المدن التي نريد استلابها، مثل سكان القاهرة من حيث مصادر الدخل، أي أن ما يغيب عن السلطة في هذا النموذج المستلب هو تقاطع الاقتصاد مع العمران، بالإضافة إلى نسيان السُلطة أن هناك نسبة لا بأس بها من المواطنين يسكنون المقابر، وعبر ما أشار إليه الفرنسيون وما أشارت إليه السُلطات في مصر، يحدث هنا تقاطع لشقي المعادلة التي من المفترض أن يهدف التطوير إلى تحسينها أو الاشتباك معها، وهي الحالة الاقتصادية والاجتماعية للمواطن، والأمنية عبر تصميم شوارع يأمن معها المواطن ألا يُنهب أو يُسرق، وإن كان المقصود من التطوير أن تصبح القاهرة مانهاتن، فإنه يجب أن يكون العمران فيها مراعياً للنساء والسيدات كما هي مانهاتن، وألا تكون مانهاتن الشرق الأوسط عبارة عن مدينة مستوحاة من الموتى الأحياء، يخاف فيها المواطنون من نبّاش القبور.

This picture taken on June 24, 2023, shows a view of graves near the Khanqah (Sufi place of religious gathering) of Qawsun (Qusun), built around 1336, in Sayyida Aisha cemetery in Egypt’s capital Cairo, as part of an ongoing government project to construct new roads and infrastructure. (Photo by Khaled DESOUKI / AFP)

نبّاش القبور

في الأساطير القديمة المصرية هناك مخلوق يُدعى “السلعوة” وعادة ما يُسمى بالفصحى “نبِّاش القبور” وعادة ما كان يُستدعى من قبل الجدات والأمهات لتخويف الأطفال حتى يناموا، وإذا منحنا المجاز أن تكون “السلعة” حاضرة في زمننا الحالي على هيئة شبحي “الإزالة أو التطوير”، فثمة ما هو لافت للنظر في تشابه الموقف مع جماعة تشبه الأطفال، وتنام مثلهم تماماً، عندما تُستدعى السلعة أو التطوير أو أي كان اسمه أو رمزه، وهي جماعة الثوار القدامى أو الجماعة المدركة لآثار هذا التطوير اقتصادياً قبل اجتماعي، عادة ما يكون ردهم هكذا “احفظوا تاريخنا، رموزنا، أو عريضة يوقع عليها الفنانون والكُتاب والعمرانيون للاعتراض؛ لأن هذا يشوه ماضينا” أي أنهم يستخدمون الرمزية ذاتها في الاعتراض، دون أي حياد عنها.

التعامل مع الرمزية بهذا الشكل، يساهم في ترسيخها كعلة بلا دواء، كما أشار دوركهايم وبورديو، عن النظام المعرفي الذي تصنعه وتقيمه أي دولة، لذا؛ ربما علينا إيجاد سردية بديلة أو فهم جديد بعيداً عن الرومنسية، لأهمية القاهرة لا عبر التاريخ، بل عبر المستقبل، لذا؛ ما يلزم هذا النبّاش هو الحياد عن رمزيته، ليس لأنه يجعلنا نائمين، بل لأنه وحده يجعلنا لا ننام، فالنوم وسط نبّاش ليس هو الأزمة، بل الاقتناع بما يردده عن التعامل مع المقابر من رمزية، هو الأزمة الحقيقية، فالنائمون يصحون عندما تتعرض مقبرة رمز أو كاتب أو فنان شهير؛ لأن ذلك فقط يعد تشويهاً للتاريخ، ولا يصحون عندما يصدر قرار إزالة مقبرة عادية لمواطن عادي، عليهم ألا يصحوا عندما يصدر قرار لإزالة مقبرة كاتب أو فنان، ليس لأن هذا يدل على إيمانهم بالعدالة، بل لمجرد أنه من هنا يمكن أن نتناول سردية لرمزية أخرى غير ما تصنعه السلطة.

 في كتاب “القاهرة الكوزموبوليتانية” الصادر عن الجامعة الأميركية في القاهرة كتب إيريك دينس في الكتاب مقالاً بعنوان “مدينة المدن المغلقة” وترجمه أحمد محمود في العدد نفسه الذي كتب فيه وزير إسكان مبارك، عما أسماه “التفاوض في المظاهر”، وأيضاً عن اشتقاق كلمة العشوائيات من العشوائية، كتب دينيس: “لا يعبر العيش في الصحراء عن نفسه، كما ترمز الصحراء إلى أنها أرض الموتى، فهي تظل مرتبطة بالإزاحات المتعاقبة للجبانات وزيارة الموتى”، وربما لن يعرف دينس شعور المصري الذي بات مهدداً دائماً بأن تزال مقبرة أبيه، وربما يكفي ما كتبه الشاعر المصري فؤاد حدّاد (١٩٢٨-١٩٨٥) للتعبير عن هذا الشعور: “وقضيت حياتي في حنين والتفات” ويكفي أن يكون إجابة عن سؤال أمي المعقد.

30.05.2024
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية