fbpx

في سوريا… الشوق إلى الأم شأن سياسيّ! 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تُشعل زيارة سوريا من المحسوبين على المعارضة أو المحايدين، جدلاً في أوساط اللاجئين السوريين، خصوصاً أن البعض، بعد نيله جنسية أوروبية، بدأ يتردّد إلى سوريا. مُبرر بعض هذه الزيارات  هو “الشوق إلى الأم”، الشأن الذي سيّسه النظام السوري، واستفاد منه في بعض الأحيان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أريد أن أعود إلى منزلي

أريد العودة إلى سوريا، أريد رؤية عائلتي، أريد أن أعيش 

مازن آل حمادة (1977- غير معروف) -خرج من سوريا عام 2014 ثم عاد عام 2021 واختفى

يحوي تاريخ سوريا تحت نظام الأسد حادثة شهيرة تخص برهان غليون، الأكاديمي والمعارض السياسي، الذي ترك سوريا منذ السبعينات، ولم يزرها  لاحقاً إلا بعد 26 عاماً، إثر وفاة والدته عام 1996، وبعد لقاء مع السفير السوري في مسقط، الذي قال لغليون إن النظام تبنى”سياسة انفتاح جديدة” إزاء المثّقفين.

هذه الزيارة بالذات تثير الاهتمام، فغليون الممنوع من دخول البلاد، بدأ يتردد إلى سوريا بعد وفاة والدته، وبدأ يجري لقاءات ويلقي محاضرات ويختبر “لقاءات” مع رجال الأمن حيث استعاد “سوريته”، مروراً بربيع دمشق، إلى حين زيارة سوريا للمرة الأخيرة عام 2010، حسبما جاء في كتابه “عطب الذات-2019”.

تبرز الأم في سيرة غليون السابقة، والشوق إليها كمعادل للشوق الى الوطن، ذاك الذي مهّدت السلطة الطريق أمام غليون كي يطفئه، أي الشوق، وأتاحت له نوعاً من النشاط الفكري عبر  سياسة احتواء المعارضين، لتتحول الزيارة الشخصية إلى شأن سياسي، يرتبط بدخول البلاد والخروج منها بموافقة “الجهات المختصة”، والأهم “استعادة سوريا”.

تظهر وفاة الأم أيضاً في سيرة رفعت الأسد الذي بعد “نفيه”، عاد إلى سوريا عام 1992 حين وفاة والدته أنيسة شاليش، وغادر عام 1998، في حين لم يتمكن جمال سليمان من دخول سوريا في عزاء والدته عام 2023، كما لم تتمكن الفنانة يارا صبري من حضور عزاء والدتها ثراء دبسي، حين توفيت عام 2024.

نضرب الأمثلة السابقة، المتناقضة والمختلفة السياقات، للإشارة إلى “الأم” في العلاقة مع النظام السوري، تلك التي تُلخصها أسماء الأسد في الفيلم الترويجيّ “أم الكلّ-2017″، في كلمة أمام أمهات قتلى الجيش السوري بعبارة: “الأم إما تجمع أو تشتت”، أي إما تجمع “الشهداء” الذين قاتلوا إلى جانب النظام، وإما تشتت، أي يُلفظ أبناؤها خارج الوطن أو يُقتلون كإرهابيين.

التوظيف ذاته للأم ظهر في الفيلم الدعائي “بروحك تحمين الياسمين-2019″، الذي تقول فيه أسماء الأسد، بينما تتحدث إلى أمهات الجنود، عن “الغائبين” من الأبناء، هم “من يحملون أرواحهم على كفهم لحماية البلد”.

تستثني أسماء الأسد الغائبين بعيداً خارج سوريا، لتقسم الأمهات إلى “أمهات شهداء ومقاتلين” وفئة خفية لا تُذكر، هن أمهات المنفيين والمهجّرين،  هذا السلوك تصفه ليزا ويدن في كتابها Authoritarian Apprehensions (2019) بـ”محاولات السيدة الأولى التحكم الرمزي بالألم الجماعي”، أي بشكل ما، احتكار العلاقة بين الأم والأبناء وأسلوب الحداد  والفرح، وجهود الدولة في سبيل ذلك.

  أن ندين المشتاق إلى أمه، يعني أن نتحول إلى سلطة اجتماعية في المنفى، تدين المشتاق بسبب العجز عن تلبية شوقنا الذاتيّ.

المصالحة والحرمان من الأمّ

بعد 2011، رحل الكثيرون وتركوا أمهاتهم وراءهم، وأُبعدوا قسراً عنهن، ومع تطور الأحداث ومرور أكثر من 12 عاماً على الثورة، أخذت زيارة سوريا بعد تقسيم البلاد صيغاً متعددة، أحدثها بالنسبة الى “المعارضين” أو “المهددين” علناً، تتمثل بـ”المصالحة” أو بـ”تسوية الوضع” التي بدأت مع تأسيس “وزارة المصالحة الوطنيّة” عام 2012، ثم حلّها وتأسيس “هيئة المصالحة الوطنيّة” عام 2018، ثم أُلغيت عام 2022، وظهر نظام تسوية الوضع،  الذي يتلخص بـ” صالح، لتتمكن من دخول سوريا، ومصيرك ليس مضموناً!”، وغياب الضمان هذا سببه أمنيّ!،كما يشمل كل من خرج من تحت عباءة النظام، سواء أكان معارضاً سياسياً أم مقاتلاً .

معارض، مهدد بالاعتقال، خائف، والكثير من الأسباب التي تمنع أحدهم من دخول مناطق سيطرة النظام، والتي تُعلّق حين الحديث عن الشوق إلى الأمّ، تلك المرتبطة بالمكان الجغرافي الممنوع، وهنا الإشكالية، الشوق المرتبط بالحرمان من اللقاء، محركه سياسي بحت، إما الخوف من النظام، وإما الخوف من خسارة أوراق اللجوء، وإما الموقف السياسي نفسه، وهو عدم التطبيع مع النظام، وهذه الحجج كلها أيضاً، تصبح واهية أمام عبارة “لكني اشتقت إلى أمّي”!

نطرح موضوع الأم بسبب إشكالية زيارة سوريا من “المهجّرين” الذين على اختلاف “عداوتهم” مع النظام، بعضهم يزور سوريا تحت عبارة “لكني اشتقت إلى أمّي”، الحجة التي تشلّ أي نقاش سياسي حول نتائج زيارة سوريا، سواء أكانت لفائدة النظام أم للضرر الذي يصيب اللاجئين،  لكن هل يمكن أن نمنع أحدهم من زيارة أمّه؟ أو حتى ندينه؟

 على المستوى الإنساني الإجابة واضحة، لا، لكن  الشوق إلى “الأمّ”، يعطل الجدل السياسي، الذي في الحالة السورية ونظام الإبادة فيها، يُفترض أن فئة كبيرة ممن هم في الخارج ممنوعون من العودة، ووضعية “الخارج” هذه، هي ما تشكل بينهم رابطة من نوع ما، علاقة أخوة قائمة على تشارك المنفى ومعاناته، والحرمان الذي يحمله.

الإشكالية الأخرى في زيارة سوريا، هي استغلال النظام هذه الزيارات، سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، في محاولة لتطبيع الحياة، والقول “إن الحرب انتهت، وارجعوا إن أردتم”، بشرط “تسوية الوضع” أو “المصالحة”.

الزيارات التي يحركها “الحنين إلى الأم”، تقسم السوريين في “الخارج”، وتحرك الشك بين المهجرين والمنفيين، الذي يصل حد تبادل الاتهامات والتشكيك في الموقف السياسي القائم على أساس “المنفى”، يضاف إلى ذلك الشأن الشخصي، الشوق، إذ لا يخفي أحد غبطته حين يزور أحد ما والدته في سوريا، بينما الآخر المنفيّ محروم!

الحنين إلى الأم، حجة تعطّل النقاش، لا يمكن أن نطلب من أحدهم ألا يفعل المستحيل كي يحضن أمّه، لكن في الوقت ذاته، ماذا عن أمهاتنا، نحن المحرومين من الزيارة، حرماناً لا يفسّر إلا سياسياً، ناهيك بأنه على الصعيد الشخصي، هناك ما يثير الغيظ والحنق، بسبب الشوق نفسه وقدرة البعض على تلبيته، ضمن صيغة تلخص بسؤال، ألم نتفق ولو ضمنياً، على أن نُحرم من أمهاتنا بسبب موقفنا السياسي؟

هناك لا عدالة في السؤال السابق، بل نوع من الأنانية، لكننا أمام معضلة، فتح باب العودة مع “مصالحة” أو من دونها، شأن شديد الإشكالية، خصوصاً أنه يهدد التعاطف، أي أن تضع نفسك في مكان الآخر، لكن، هذا الآخر، لم يعد “محروماً”، فهل يُنفى التعاطفّ؟ خصوصاً أن الكثير من المهجّرين يراهنون في سبيل نيل الجنسية الأوروبيّة على حق لمّ الشمل العائلي، الحق الإنساني الذي تضمنه الحكومات الأوروبية!

الجغرافيا/ الأم الممنوعان

سيّس النظام السوري شوق الأمهات، واحتكرت أسماء الأسد “أمهات الشهداء” من قتلى الجيش السوري، وحرمت أمهات “الآخرين”من العزاء، وغرقت أخريات في حداد طويل بسبب اختفاء أبنائهن.

 نحن إذاً، أمام جغرافيا شديدة القسوة، تسيس العواطف الإنسانيّة نفسها، وتوظفها كعلامة على الطاعة أو القبول بالأمر الواقع، ناهيك بسياسات “منع العودة”؛ تلك التي إن قبلنا “المصالحة” على فداحتها، يعمد النظام السوري إلى تهديد العائدين أو اعتقالهم أو الاستيلاء على أراضيهم، إلا أصحاب الواسطة، أو شديدي الحذر، المحسوبين على الثورة، لكن من دون أثر لنشاط ثوري يتيح للنظام إدانتهم، بصورة ما، أولئك الحذرون الذين يلعبون مع الفريقين.

وإن ابتلينا بـ”الشوق”…

الشوق إلى الأم لا نقاش بعده، ألم ووجع يلتهمان صاحبهما، ونتشارك في المنفى هذا الألم والحرمان، اللذين يدرك النظام السوري “فائدتهما”، فلا ريبة، أمام المشتاق إلى أمّه، إن أراد زيارتها؛ وهنا القسوة، أن يرتبط الموقف السياسي بتلبية الشوق، على الأقل في ما يخص المهجّرين السوريين، خصوصاً أن الزيارة شوقاً، تكسر شيئاً بين الذين اجتمعوا على المنفى، غبطة أو غضباً أو إحساساً بالخسارة.

 لا نراهن على وحدة المنفيين المحرومين ولا منع الشوق إلى الأم، خصوصاً أننا قد نقع في راديكاليّة أخلاقية وسياسية، فأن ندين المشتاق إلى أمه، يعني أن نتحول إلى سلطة اجتماعية في المنفى، تدين المشتاق بسبب العجز عن تلبية شوقنا الذاتيّ.

نطرح الراديكالية هنا كوننا أمام سؤال، هل سيكون الحرمان/ الشوق أبدياً؟، مريعة هي فكرة ألا نرى أمهاتنا ما دام النظام قائماً ويبتزنا بالشوق إليهن، لنبقى أمام سؤال، هل “أصالح” النظام لكي أحتضن أمّي؟ لا أحد يملك إجابة عن هذا السؤال إلا من يطرحه، وبما أن قوة الشوق أشد من السياسة لدى البعض، نقع في الشلل أمام زياراتهم، ليبقى سؤال “لكن ماذا عن أمّي؟ ألا تستحق أن أحضنها؟”.

الاتفاق على الحرمان من زيارة سوريا ومن بقي فيها ومحاولات إنقاذهم، هو أحد العناصر التي تجمع السوريين في الخارج على أطيافهم، خصوصاً أن الهزيمة عامة، والنجاة شخصيّة، كل من وصل أوروبا (بعيداً عن صعود اليمين المتطرف) يسعى الى إنقاذ أمه، أو على الأقل، الى لقائها في بلد وسيط يتيح للسوريين الحركة، لكن يبقى ذاك البلد الرهيب، سوريا، الذي يرى الكثيرون أن العلاقة معه بعد الهزيمة، تقتصر على مستوى شديد الشخصيّة، وشقّين اثنين، الأم والميراث، الثانية سهل التضحية بها، لكن، لا نعلم في التاريخ من ضحّى بأمّه في سبيل موقف سياسي.

21.06.2024
زمن القراءة: 6 minutes

تُشعل زيارة سوريا من المحسوبين على المعارضة أو المحايدين، جدلاً في أوساط اللاجئين السوريين، خصوصاً أن البعض، بعد نيله جنسية أوروبية، بدأ يتردّد إلى سوريا. مُبرر بعض هذه الزيارات  هو “الشوق إلى الأم”، الشأن الذي سيّسه النظام السوري، واستفاد منه في بعض الأحيان.

أريد أن أعود إلى منزلي

أريد العودة إلى سوريا، أريد رؤية عائلتي، أريد أن أعيش 

مازن آل حمادة (1977- غير معروف) -خرج من سوريا عام 2014 ثم عاد عام 2021 واختفى

يحوي تاريخ سوريا تحت نظام الأسد حادثة شهيرة تخص برهان غليون، الأكاديمي والمعارض السياسي، الذي ترك سوريا منذ السبعينات، ولم يزرها  لاحقاً إلا بعد 26 عاماً، إثر وفاة والدته عام 1996، وبعد لقاء مع السفير السوري في مسقط، الذي قال لغليون إن النظام تبنى”سياسة انفتاح جديدة” إزاء المثّقفين.

هذه الزيارة بالذات تثير الاهتمام، فغليون الممنوع من دخول البلاد، بدأ يتردد إلى سوريا بعد وفاة والدته، وبدأ يجري لقاءات ويلقي محاضرات ويختبر “لقاءات” مع رجال الأمن حيث استعاد “سوريته”، مروراً بربيع دمشق، إلى حين زيارة سوريا للمرة الأخيرة عام 2010، حسبما جاء في كتابه “عطب الذات-2019”.

تبرز الأم في سيرة غليون السابقة، والشوق إليها كمعادل للشوق الى الوطن، ذاك الذي مهّدت السلطة الطريق أمام غليون كي يطفئه، أي الشوق، وأتاحت له نوعاً من النشاط الفكري عبر  سياسة احتواء المعارضين، لتتحول الزيارة الشخصية إلى شأن سياسي، يرتبط بدخول البلاد والخروج منها بموافقة “الجهات المختصة”، والأهم “استعادة سوريا”.

تظهر وفاة الأم أيضاً في سيرة رفعت الأسد الذي بعد “نفيه”، عاد إلى سوريا عام 1992 حين وفاة والدته أنيسة شاليش، وغادر عام 1998، في حين لم يتمكن جمال سليمان من دخول سوريا في عزاء والدته عام 2023، كما لم تتمكن الفنانة يارا صبري من حضور عزاء والدتها ثراء دبسي، حين توفيت عام 2024.

نضرب الأمثلة السابقة، المتناقضة والمختلفة السياقات، للإشارة إلى “الأم” في العلاقة مع النظام السوري، تلك التي تُلخصها أسماء الأسد في الفيلم الترويجيّ “أم الكلّ-2017″، في كلمة أمام أمهات قتلى الجيش السوري بعبارة: “الأم إما تجمع أو تشتت”، أي إما تجمع “الشهداء” الذين قاتلوا إلى جانب النظام، وإما تشتت، أي يُلفظ أبناؤها خارج الوطن أو يُقتلون كإرهابيين.

التوظيف ذاته للأم ظهر في الفيلم الدعائي “بروحك تحمين الياسمين-2019″، الذي تقول فيه أسماء الأسد، بينما تتحدث إلى أمهات الجنود، عن “الغائبين” من الأبناء، هم “من يحملون أرواحهم على كفهم لحماية البلد”.

تستثني أسماء الأسد الغائبين بعيداً خارج سوريا، لتقسم الأمهات إلى “أمهات شهداء ومقاتلين” وفئة خفية لا تُذكر، هن أمهات المنفيين والمهجّرين،  هذا السلوك تصفه ليزا ويدن في كتابها Authoritarian Apprehensions (2019) بـ”محاولات السيدة الأولى التحكم الرمزي بالألم الجماعي”، أي بشكل ما، احتكار العلاقة بين الأم والأبناء وأسلوب الحداد  والفرح، وجهود الدولة في سبيل ذلك.

  أن ندين المشتاق إلى أمه، يعني أن نتحول إلى سلطة اجتماعية في المنفى، تدين المشتاق بسبب العجز عن تلبية شوقنا الذاتيّ.

المصالحة والحرمان من الأمّ

بعد 2011، رحل الكثيرون وتركوا أمهاتهم وراءهم، وأُبعدوا قسراً عنهن، ومع تطور الأحداث ومرور أكثر من 12 عاماً على الثورة، أخذت زيارة سوريا بعد تقسيم البلاد صيغاً متعددة، أحدثها بالنسبة الى “المعارضين” أو “المهددين” علناً، تتمثل بـ”المصالحة” أو بـ”تسوية الوضع” التي بدأت مع تأسيس “وزارة المصالحة الوطنيّة” عام 2012، ثم حلّها وتأسيس “هيئة المصالحة الوطنيّة” عام 2018، ثم أُلغيت عام 2022، وظهر نظام تسوية الوضع،  الذي يتلخص بـ” صالح، لتتمكن من دخول سوريا، ومصيرك ليس مضموناً!”، وغياب الضمان هذا سببه أمنيّ!،كما يشمل كل من خرج من تحت عباءة النظام، سواء أكان معارضاً سياسياً أم مقاتلاً .

معارض، مهدد بالاعتقال، خائف، والكثير من الأسباب التي تمنع أحدهم من دخول مناطق سيطرة النظام، والتي تُعلّق حين الحديث عن الشوق إلى الأمّ، تلك المرتبطة بالمكان الجغرافي الممنوع، وهنا الإشكالية، الشوق المرتبط بالحرمان من اللقاء، محركه سياسي بحت، إما الخوف من النظام، وإما الخوف من خسارة أوراق اللجوء، وإما الموقف السياسي نفسه، وهو عدم التطبيع مع النظام، وهذه الحجج كلها أيضاً، تصبح واهية أمام عبارة “لكني اشتقت إلى أمّي”!

نطرح موضوع الأم بسبب إشكالية زيارة سوريا من “المهجّرين” الذين على اختلاف “عداوتهم” مع النظام، بعضهم يزور سوريا تحت عبارة “لكني اشتقت إلى أمّي”، الحجة التي تشلّ أي نقاش سياسي حول نتائج زيارة سوريا، سواء أكانت لفائدة النظام أم للضرر الذي يصيب اللاجئين،  لكن هل يمكن أن نمنع أحدهم من زيارة أمّه؟ أو حتى ندينه؟

 على المستوى الإنساني الإجابة واضحة، لا، لكن  الشوق إلى “الأمّ”، يعطل الجدل السياسي، الذي في الحالة السورية ونظام الإبادة فيها، يُفترض أن فئة كبيرة ممن هم في الخارج ممنوعون من العودة، ووضعية “الخارج” هذه، هي ما تشكل بينهم رابطة من نوع ما، علاقة أخوة قائمة على تشارك المنفى ومعاناته، والحرمان الذي يحمله.

الإشكالية الأخرى في زيارة سوريا، هي استغلال النظام هذه الزيارات، سواء بصورة مباشرة أم غير مباشرة، في محاولة لتطبيع الحياة، والقول “إن الحرب انتهت، وارجعوا إن أردتم”، بشرط “تسوية الوضع” أو “المصالحة”.

الزيارات التي يحركها “الحنين إلى الأم”، تقسم السوريين في “الخارج”، وتحرك الشك بين المهجرين والمنفيين، الذي يصل حد تبادل الاتهامات والتشكيك في الموقف السياسي القائم على أساس “المنفى”، يضاف إلى ذلك الشأن الشخصي، الشوق، إذ لا يخفي أحد غبطته حين يزور أحد ما والدته في سوريا، بينما الآخر المنفيّ محروم!

الحنين إلى الأم، حجة تعطّل النقاش، لا يمكن أن نطلب من أحدهم ألا يفعل المستحيل كي يحضن أمّه، لكن في الوقت ذاته، ماذا عن أمهاتنا، نحن المحرومين من الزيارة، حرماناً لا يفسّر إلا سياسياً، ناهيك بأنه على الصعيد الشخصي، هناك ما يثير الغيظ والحنق، بسبب الشوق نفسه وقدرة البعض على تلبيته، ضمن صيغة تلخص بسؤال، ألم نتفق ولو ضمنياً، على أن نُحرم من أمهاتنا بسبب موقفنا السياسي؟

هناك لا عدالة في السؤال السابق، بل نوع من الأنانية، لكننا أمام معضلة، فتح باب العودة مع “مصالحة” أو من دونها، شأن شديد الإشكالية، خصوصاً أنه يهدد التعاطف، أي أن تضع نفسك في مكان الآخر، لكن، هذا الآخر، لم يعد “محروماً”، فهل يُنفى التعاطفّ؟ خصوصاً أن الكثير من المهجّرين يراهنون في سبيل نيل الجنسية الأوروبيّة على حق لمّ الشمل العائلي، الحق الإنساني الذي تضمنه الحكومات الأوروبية!

الجغرافيا/ الأم الممنوعان

سيّس النظام السوري شوق الأمهات، واحتكرت أسماء الأسد “أمهات الشهداء” من قتلى الجيش السوري، وحرمت أمهات “الآخرين”من العزاء، وغرقت أخريات في حداد طويل بسبب اختفاء أبنائهن.

 نحن إذاً، أمام جغرافيا شديدة القسوة، تسيس العواطف الإنسانيّة نفسها، وتوظفها كعلامة على الطاعة أو القبول بالأمر الواقع، ناهيك بسياسات “منع العودة”؛ تلك التي إن قبلنا “المصالحة” على فداحتها، يعمد النظام السوري إلى تهديد العائدين أو اعتقالهم أو الاستيلاء على أراضيهم، إلا أصحاب الواسطة، أو شديدي الحذر، المحسوبين على الثورة، لكن من دون أثر لنشاط ثوري يتيح للنظام إدانتهم، بصورة ما، أولئك الحذرون الذين يلعبون مع الفريقين.

وإن ابتلينا بـ”الشوق”…

الشوق إلى الأم لا نقاش بعده، ألم ووجع يلتهمان صاحبهما، ونتشارك في المنفى هذا الألم والحرمان، اللذين يدرك النظام السوري “فائدتهما”، فلا ريبة، أمام المشتاق إلى أمّه، إن أراد زيارتها؛ وهنا القسوة، أن يرتبط الموقف السياسي بتلبية الشوق، على الأقل في ما يخص المهجّرين السوريين، خصوصاً أن الزيارة شوقاً، تكسر شيئاً بين الذين اجتمعوا على المنفى، غبطة أو غضباً أو إحساساً بالخسارة.

 لا نراهن على وحدة المنفيين المحرومين ولا منع الشوق إلى الأم، خصوصاً أننا قد نقع في راديكاليّة أخلاقية وسياسية، فأن ندين المشتاق إلى أمه، يعني أن نتحول إلى سلطة اجتماعية في المنفى، تدين المشتاق بسبب العجز عن تلبية شوقنا الذاتيّ.

نطرح الراديكالية هنا كوننا أمام سؤال، هل سيكون الحرمان/ الشوق أبدياً؟، مريعة هي فكرة ألا نرى أمهاتنا ما دام النظام قائماً ويبتزنا بالشوق إليهن، لنبقى أمام سؤال، هل “أصالح” النظام لكي أحتضن أمّي؟ لا أحد يملك إجابة عن هذا السؤال إلا من يطرحه، وبما أن قوة الشوق أشد من السياسة لدى البعض، نقع في الشلل أمام زياراتهم، ليبقى سؤال “لكن ماذا عن أمّي؟ ألا تستحق أن أحضنها؟”.

الاتفاق على الحرمان من زيارة سوريا ومن بقي فيها ومحاولات إنقاذهم، هو أحد العناصر التي تجمع السوريين في الخارج على أطيافهم، خصوصاً أن الهزيمة عامة، والنجاة شخصيّة، كل من وصل أوروبا (بعيداً عن صعود اليمين المتطرف) يسعى الى إنقاذ أمه، أو على الأقل، الى لقائها في بلد وسيط يتيح للسوريين الحركة، لكن يبقى ذاك البلد الرهيب، سوريا، الذي يرى الكثيرون أن العلاقة معه بعد الهزيمة، تقتصر على مستوى شديد الشخصيّة، وشقّين اثنين، الأم والميراث، الثانية سهل التضحية بها، لكن، لا نعلم في التاريخ من ضحّى بأمّه في سبيل موقف سياسي.

21.06.2024
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية