fbpx

ليست “حماس” من غيّر اسم مستشفى المعمداني يا دكتور فارس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تبّاً للسياسة التي تجعل الدين موتاً للناس، بدل أن يكون حياة لهم، تبعدهم عن الله، تبعدهم عن بعضهم بعضاً، وتبعدهم عن إنسانيتهم، ألا ترى يا دكتور أن التعامل بهذا الجفاف العاطفي والإنساني، مع جريمة كهذه، من منطلق سياسي، من الممكن أن يساهم في جعلها سلوكاً مقبولاً في الحروب المقبلة، في أوكرانيا مثلاً، من بمقدوره بعد الآن، أن يحاسب بوتين إن قصف كنيسة أو مستشفى؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

مساء الخير دكتور فارس سعيد

تردّدت طويلا قبل أن آخذ قرار الكتابة إليك، لأسباب كثيرة، أولّها عائلي، نابع من احترامي لعلاقة الصداقة الطيبة، التي جمعتك بوالدي، وأهمّها إنساني، يرجع إلى خجلي الشخصي من الدماء النازفة في غزّة، فأمام هول ما يجري، يصبح العتب ترفاً، والمعارك الكلامية الجانبية عيباً.

لقد أخذتني تغريدتك، التي نشرتها عقب مجزرة المستشفى المعمداني، بـ”رحلة إلى أقاصي العنف”، وتركتني هناك، ذاهلة وغاضبة وقلبي مفطور، أحاول على مدى ساعات الليل والنهار نسيانها، تجاوزها، إزاحتها من بالي، فأخفق. 

هذا المساء، وأنا أتأمّل صامتة، باكية؛ كما يفعل الملايين من البشر منذ 7 تشرين/أكتوبر، اجتماع إمكانات دول العالم المتقدّم، للبطش بسكان هذه الزاوية المنكوبة على البحر المتوسط، سألت نفسي، هل يتابع الدكتور أخبار الانتهاكات في غزّة، بشكل يومي، أم أنه يتعامل معها على القطعة؟ هل يجب أن تدمّر إسرائيل كنيسة أو مستشفى على اسم قدّيس، لتفيض غيرته الدينية؟ وماذا عن غيرته الإنسانية؟ أعرف أن هذا الكلام قاسٍ، وأنك لا تستحقّه، لكن تغريدتك كانت أقسى ما يمكن أن يخطر ببال دكتور – طبيب، الإنسانية مهنته، أما الضحايا فكانوا يستحقّون مقدار شعرة رفيعة من شروط هذه المهنة!

ما استفزّني بل هزّني في التغريدة هو التالي: “تحوّل مستشفى المعمداني إلى “الأهلي العربي” عندما وضعت “حماس” يدها على القطاع، وعاد ليصبح “معمداني” بعد الجريمة من أجل التعبئة الإعلامية…”. 

نحن لا نختلف على أن “حماس” صنيعة الإسلام السياسي، بتقاطع مصلحي قطري- تركي – إيراني، وأنها شكّلت منذ تأسيسها تهديداً وجودياً للمشروع الوطني الفلسطيني، وخطراً ثقافياً على المجتمع الفلسطيني، خصوصاً في غزّة، لكن، لو أنك درست المعلومة جيداً، لعرفت أنها ليست “حماس” التي غيرت اسم المستشفى، إنما يعود تغييره إلى العام 1919؛ يمكنك أن تتأكد، ومع ذلك، ظلّ اسم المعمداني حيّاً في الذاكرة الشعبية، ولم يُستبدل، وما ساعد في الحفاظ على رمزيته، أنه يُدار من الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس، حتى الساعة، ويقع ضمن مربّع سكني في حي الزيتون، يحمل طابعاً مسيحياً.

ثم ما الخطأ بالتعبئة الإعلامية؟ أليست الدعاية الصهيونية هي العمود الفقري لإسرائيل؟ وما المزعج في تعبئة الرأي العام العالمي ضد القتلة؟ أليس الإعلام نصف المعركة؟ والمعركة في غزّة حالياً توصف بـ”حرب إبادة”، و”تطهير”، و”جرائم حرب”، أفلا ترى أنه من الطبيعي استغلال أيّ تفصيل، أو حتى كذبة لنساعد في وقفها؟ ألم تبحث في خلفيات هذه التعبئة؟ ألا يمكن أن تكون نتيجة إحساس بالضعف أو بالانهيار؟ ألم يخطر في بالك مثلاً، أن “حماس” استغلت الاسم لتوجّه عبره نداء استغاثة؟ الكنيسة الأنجليكانية نفسها، لم تعترض على استغلال الاسم ولم تصحّحه كما فعلت أنت، ولم تنبش تاريخه ولم تعاير! 

غزّة في هذا الوقت بحاجة ماسة إلى التعبئة الإعلامية، من كل الفئات، بحاجة إلى جيوش مدرّبة ومجهزة بأحدث صواريخ الدعاية، لعل مناوراتها وانفجاراتها توقظ ضمير هذا العالم الميت، ألم تلعب صور مقاتلي أحزاب الله الإيرانية، وهم يصلّون أمام تماثيل العذراء في كنائس في سوريا، دوراً أساسياً في شيطنة معارضي الأسد؟ ألم يقتنع نصف المسيحيين اللبنانيين بدعاية “حزب الله” أنه لولاه لصار “داعش” في جونيه؟ ألم تبارك دول العالم القوية، حرب الولايات المتحدة على العراق، بعد نشرها دعاية امتلاك صدام أسلحة دمار شامل؟ ألم يستغلّ بوتين دعاية انضمام أوكرانيا الى الناتو لتحويلها إلى أرض محروقة؟ 

أنت تعرف أن غزّة ليست “حماس”، وليس من العدل أن تختصرها بها، كما تفعل إسرائيل وحلفاؤها، هم يدّعون ذلك كي يبرروا جريمتهم المستمرة، أما أنت فما حجّتك؟ 

والكل يعرف أن الجريمة التي تحصل، لن تطاول “حماس”، فمن يدفع الثمن هم الناس، الناس فقط، حرب تموز لم تُنهِ “حزب الله”، على العكس، خرج منها أقوى وأشدّ شراسة تجاه معارضيه، ساواهم بأعدائه، سمّاهم يهود الداخل، هتك وفتك بهم، بحجة انتصاره الإلهي، هذه مواجهات مدروسة، يخرج منها المتصارعون منتصرين، ولا تنهزم فيها سوى الإنسانية، وأثمانها هي أرواح الأبرياء، أما الأقوياء فيعمّرون، يغذّون بعضهم بعضاً.

بعيداً من “حماس”، أحسب أن الأهالي استجاروا بالمستشفى بسبب هويّته ورمزيته فعلاً، إحسب أنهم من أنصار “حماس”، وقد خافوا وضعفوا فلجأوا إليه، وأجارهم الشمامسة والقساوسة، تطبيقاً لتعاليم الكنيسة باحتواء الضعفاء والخائفين واللائذين، ولأنهم أهل وجيران وأحباب، هل هذا غير مسموح في عرفك؟ 

أعتذر منك يا دكتور نيابة عنهم، وأعدك بألا يستخدموا اسم المعمداني مرة ثانية، على سبيل الاستعطاف، وأن يكونوا على قدر التغيير!

أتدري، بقدر ما صدمتني إشاراتك الضمنية في التغريدة، انصدمت بضعف حسّك الإنساني، لأنك مسيحي أولاً، فالمسيح ابن فلسطين، وُلد ونشأ في بيت لحم ولعب مع أترابه في أزقّة القدس، وربما كان شعره كيرلي وأبيضاني وحلو مثل يوسف، الذي خطفه صاروخ حاقد من حضن أمه منذ أيام، ولأن فلسطين شهدت ولادة المسيح وصلبه وقيامته، سمّوها أرض السلام، لذلك، ليست مذبحة المعمداني إلا استباحة لهذا المعنى ونسفاً لقوله “سلامي أعطيكم”.

المعمدان يوحنا، هو الآخر فلسطيني من القدس، وربما كان أسمر مثل أطفالها وأطفال الخليل والضفّة وغزّة، أخذ المسيح يوماً، بحكم قربهما وصداقتهما، إلى نهر الأردن في شرق خارطة فلسطين، وطفق يصب عليه من مياه النهر المقدس، الذي يذكره أهل البلاد، حين يقسمون باستعادتها من النهر إلى البحر، فحمل لقب معمدان المسيح، وبعد مئات السنين وهب غزّة معمودية الدماء. 

وأنت نفسك مسيحي بالمعمودية، التي لم ترمز يوماً إلى الاغتسال الخارجي، بل إلى التطهر الداخلي، كما فهمت من عظة ليوحنا ذهبي الفم.

يا إلهي ما كل هذه الوداعة، ما أجمل أن يغتسل الإنسان من الداخل! وما أجمل أن يكون لإنسان فم من ذهب! وما أغنى أهل هذه الأرض تاريخاً وحاضراً.

على فكرة، يؤمن أهل غزّة المسلمون بالمعمدان، هو النبي يحيى ابن زكريا وأليصابات، الطفل الذي بشّر بمجيئه الملائكة، بعدما بلغ والداه من الكبر عتيّاً، ونقلوا الإيمان به إلى أرض الرافدين، هذا التناقل الثقافي الإنساني، دليل إضافي على قدرة أهل هذه الأرض على الانفتاح ونشر السلام، فقد خرجت الكلمة الطيبة من رحم أرضهم الطيبة، وقطعت المسافات وطوت السهول والجبال، والكلمة الطيبة تملك أجنحة، ولا تعترف بالحدود والحواجز، لأنها كانت في البدء، لأن الإنسان كلمة، وهي العليا، ولو لم تنتقل الكلمة إلى روما، لكانت ما زالت أوروبا غارقة في قطع الرؤوس، تكرّر ما فعلته سالومي برأس المعمدان.

تبّاً للسياسة التي تجعل الدين موتاً للناس، بدل أن يكون حياة لهم، تبعدهم عن الله، تبعدهم عن بعضهم بعضاً، وتبعدهم عن إنسانيتهم، ألا ترى يا دكتور أن التعامل بهذا الجفاف العاطفي والإنساني، مع جريمة كهذه، من منطلق سياسي، من الممكن أن يساهم في جعلها سلوكاً مقبولاً في الحروب المقبلة، في أوكرانيا مثلاً، من بمقدوره بعد الآن، أن يحاسب بوتين إن قصف كنيسة أو مستشفى؟ حركة طالبان أو تنظيم داعش أو فلول القاعدة وغيرها من هذه العصابات الإجرامية، من يستطيع أن يوقفها عن ارتكاب المجازر؟ أليس الحياد مقتل الإنسانية؟ 

أسئلة الامتحان الأخلاقي تصعب في هذه الأيام العصيبة، وفصل الإنساني عن السياسي في لحظة كهذه عمل جبّار، فليس سهلاً التفريق بين العداء لحركة استعمارية استيطانية، تشن حرباً ضد شعب بكامله، منذ تأسيسها، وبين مخاصمة حركة عابرة، لفظها المجتمع، وستنتهي بانتهاء تمويلها. 

ما أبسط المعادلة يا دكتور!

إسمح لي أن أسألك، هل تتابع ما يقوم به زميلك الطبيب البريطاني – الفلسطيني الأصل غسان أبو ستة، أتعرفه؟ هل سمعت عنه؟ لو أن الأطباء، سفراء الإنسانية، يقتدون به، ولو اجتمعت في نفسك النية، للمساعدة، ربما ستسمح لك هويّتك الدينية بأن تفعل ما لا يستطيع غيرك فعله، ولوقفت بأمان على عتبة معبر رفح ودخلت إلى غزة برجلك اليمين، هذا منطق استغلالي من جهتي، اقتبسته من منطقك أنت! 

أطلت في أولاً، لنذهب إلى ثانياً: يؤسفني أن أقول لك إنك عشت بين صديقين استثنائيين، لكنك لم تستفد من عشرتهما في أمرين أساسيين: حب فلسطين إنسانياً وأن تكون مسيحياً حقيقياً.

سأقص عليك حكايتين، الأولى حصلت في بداية التسعينات، حين أسّس صديقاك سمير فرنجية وهاني فحص “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني”، وباشرا بالقيام بجولات على القرى النائية ذات الطابع الديني الواحد.

كنا يومها في حسينية العباسية في صور، وبعدما انتهى سمير من محاضرته، تحلق حوله عدد من كبار السن، يسألونه في الحرب والسياسة والدين والوطن ويجيب، يعالج هواجسهم بحكمة ورويّة، ويصغون إليه بحبّ واندهاش.

يمكنك أن تتخيّل، كم كان هذا الماروني القادم من إهدن، شبيهاً بأولئك المتاولة المحيطين به، لكي يقول له أبي مادحاً: “أراك مع الأيام المفتي الجعفري الممتاز”.

الحكاية الثانية، كنت صغيرة عندما جاء محجوب عمر إلى بيتنا، الطبيب المصري، الذي ترك بلاده وعاش متشرداً في المخيمات الفلسطينية ما بين الأردن ولبنان، ليداوي آلام اللاجئين، بعد سنوات تفاجأت بأنه ليس لبنانياً ولا فلسطينياً، وأن اسمه رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب، يعني قبطي، ورغم هذه الفروق في الهوية، إلا أني لم أعثر حتى الآن، على ما يفرّقه عن أبي. 

لو أمكنك أن تتخيل سمير في حسينية العباسية، ومحجوب في عيادته في مخيم مار الياس، فلترسم هويّة على شكل قلب!

في الختام، أذكّرك بأن الجريمة المتواصلة في غزة اختلال في التوازن الكوني، سقوط أخلاقي وعودة للبشرية إلى صورها البدائية، وفلسطين جرح على جبين العالم، إذا استمر نزفه بهذه الطريقة، ستخر الإنسانية منهارة.

25.10.2023
زمن القراءة: 6 minutes

تبّاً للسياسة التي تجعل الدين موتاً للناس، بدل أن يكون حياة لهم، تبعدهم عن الله، تبعدهم عن بعضهم بعضاً، وتبعدهم عن إنسانيتهم، ألا ترى يا دكتور أن التعامل بهذا الجفاف العاطفي والإنساني، مع جريمة كهذه، من منطلق سياسي، من الممكن أن يساهم في جعلها سلوكاً مقبولاً في الحروب المقبلة، في أوكرانيا مثلاً، من بمقدوره بعد الآن، أن يحاسب بوتين إن قصف كنيسة أو مستشفى؟

مساء الخير دكتور فارس سعيد

تردّدت طويلا قبل أن آخذ قرار الكتابة إليك، لأسباب كثيرة، أولّها عائلي، نابع من احترامي لعلاقة الصداقة الطيبة، التي جمعتك بوالدي، وأهمّها إنساني، يرجع إلى خجلي الشخصي من الدماء النازفة في غزّة، فأمام هول ما يجري، يصبح العتب ترفاً، والمعارك الكلامية الجانبية عيباً.

لقد أخذتني تغريدتك، التي نشرتها عقب مجزرة المستشفى المعمداني، بـ”رحلة إلى أقاصي العنف”، وتركتني هناك، ذاهلة وغاضبة وقلبي مفطور، أحاول على مدى ساعات الليل والنهار نسيانها، تجاوزها، إزاحتها من بالي، فأخفق. 

هذا المساء، وأنا أتأمّل صامتة، باكية؛ كما يفعل الملايين من البشر منذ 7 تشرين/أكتوبر، اجتماع إمكانات دول العالم المتقدّم، للبطش بسكان هذه الزاوية المنكوبة على البحر المتوسط، سألت نفسي، هل يتابع الدكتور أخبار الانتهاكات في غزّة، بشكل يومي، أم أنه يتعامل معها على القطعة؟ هل يجب أن تدمّر إسرائيل كنيسة أو مستشفى على اسم قدّيس، لتفيض غيرته الدينية؟ وماذا عن غيرته الإنسانية؟ أعرف أن هذا الكلام قاسٍ، وأنك لا تستحقّه، لكن تغريدتك كانت أقسى ما يمكن أن يخطر ببال دكتور – طبيب، الإنسانية مهنته، أما الضحايا فكانوا يستحقّون مقدار شعرة رفيعة من شروط هذه المهنة!

ما استفزّني بل هزّني في التغريدة هو التالي: “تحوّل مستشفى المعمداني إلى “الأهلي العربي” عندما وضعت “حماس” يدها على القطاع، وعاد ليصبح “معمداني” بعد الجريمة من أجل التعبئة الإعلامية…”. 

نحن لا نختلف على أن “حماس” صنيعة الإسلام السياسي، بتقاطع مصلحي قطري- تركي – إيراني، وأنها شكّلت منذ تأسيسها تهديداً وجودياً للمشروع الوطني الفلسطيني، وخطراً ثقافياً على المجتمع الفلسطيني، خصوصاً في غزّة، لكن، لو أنك درست المعلومة جيداً، لعرفت أنها ليست “حماس” التي غيرت اسم المستشفى، إنما يعود تغييره إلى العام 1919؛ يمكنك أن تتأكد، ومع ذلك، ظلّ اسم المعمداني حيّاً في الذاكرة الشعبية، ولم يُستبدل، وما ساعد في الحفاظ على رمزيته، أنه يُدار من الكنيسة الأسقفية الأنجليكانية في القدس، حتى الساعة، ويقع ضمن مربّع سكني في حي الزيتون، يحمل طابعاً مسيحياً.

ثم ما الخطأ بالتعبئة الإعلامية؟ أليست الدعاية الصهيونية هي العمود الفقري لإسرائيل؟ وما المزعج في تعبئة الرأي العام العالمي ضد القتلة؟ أليس الإعلام نصف المعركة؟ والمعركة في غزّة حالياً توصف بـ”حرب إبادة”، و”تطهير”، و”جرائم حرب”، أفلا ترى أنه من الطبيعي استغلال أيّ تفصيل، أو حتى كذبة لنساعد في وقفها؟ ألم تبحث في خلفيات هذه التعبئة؟ ألا يمكن أن تكون نتيجة إحساس بالضعف أو بالانهيار؟ ألم يخطر في بالك مثلاً، أن “حماس” استغلت الاسم لتوجّه عبره نداء استغاثة؟ الكنيسة الأنجليكانية نفسها، لم تعترض على استغلال الاسم ولم تصحّحه كما فعلت أنت، ولم تنبش تاريخه ولم تعاير! 

غزّة في هذا الوقت بحاجة ماسة إلى التعبئة الإعلامية، من كل الفئات، بحاجة إلى جيوش مدرّبة ومجهزة بأحدث صواريخ الدعاية، لعل مناوراتها وانفجاراتها توقظ ضمير هذا العالم الميت، ألم تلعب صور مقاتلي أحزاب الله الإيرانية، وهم يصلّون أمام تماثيل العذراء في كنائس في سوريا، دوراً أساسياً في شيطنة معارضي الأسد؟ ألم يقتنع نصف المسيحيين اللبنانيين بدعاية “حزب الله” أنه لولاه لصار “داعش” في جونيه؟ ألم تبارك دول العالم القوية، حرب الولايات المتحدة على العراق، بعد نشرها دعاية امتلاك صدام أسلحة دمار شامل؟ ألم يستغلّ بوتين دعاية انضمام أوكرانيا الى الناتو لتحويلها إلى أرض محروقة؟ 

أنت تعرف أن غزّة ليست “حماس”، وليس من العدل أن تختصرها بها، كما تفعل إسرائيل وحلفاؤها، هم يدّعون ذلك كي يبرروا جريمتهم المستمرة، أما أنت فما حجّتك؟ 

والكل يعرف أن الجريمة التي تحصل، لن تطاول “حماس”، فمن يدفع الثمن هم الناس، الناس فقط، حرب تموز لم تُنهِ “حزب الله”، على العكس، خرج منها أقوى وأشدّ شراسة تجاه معارضيه، ساواهم بأعدائه، سمّاهم يهود الداخل، هتك وفتك بهم، بحجة انتصاره الإلهي، هذه مواجهات مدروسة، يخرج منها المتصارعون منتصرين، ولا تنهزم فيها سوى الإنسانية، وأثمانها هي أرواح الأبرياء، أما الأقوياء فيعمّرون، يغذّون بعضهم بعضاً.

بعيداً من “حماس”، أحسب أن الأهالي استجاروا بالمستشفى بسبب هويّته ورمزيته فعلاً، إحسب أنهم من أنصار “حماس”، وقد خافوا وضعفوا فلجأوا إليه، وأجارهم الشمامسة والقساوسة، تطبيقاً لتعاليم الكنيسة باحتواء الضعفاء والخائفين واللائذين، ولأنهم أهل وجيران وأحباب، هل هذا غير مسموح في عرفك؟ 

أعتذر منك يا دكتور نيابة عنهم، وأعدك بألا يستخدموا اسم المعمداني مرة ثانية، على سبيل الاستعطاف، وأن يكونوا على قدر التغيير!

أتدري، بقدر ما صدمتني إشاراتك الضمنية في التغريدة، انصدمت بضعف حسّك الإنساني، لأنك مسيحي أولاً، فالمسيح ابن فلسطين، وُلد ونشأ في بيت لحم ولعب مع أترابه في أزقّة القدس، وربما كان شعره كيرلي وأبيضاني وحلو مثل يوسف، الذي خطفه صاروخ حاقد من حضن أمه منذ أيام، ولأن فلسطين شهدت ولادة المسيح وصلبه وقيامته، سمّوها أرض السلام، لذلك، ليست مذبحة المعمداني إلا استباحة لهذا المعنى ونسفاً لقوله “سلامي أعطيكم”.

المعمدان يوحنا، هو الآخر فلسطيني من القدس، وربما كان أسمر مثل أطفالها وأطفال الخليل والضفّة وغزّة، أخذ المسيح يوماً، بحكم قربهما وصداقتهما، إلى نهر الأردن في شرق خارطة فلسطين، وطفق يصب عليه من مياه النهر المقدس، الذي يذكره أهل البلاد، حين يقسمون باستعادتها من النهر إلى البحر، فحمل لقب معمدان المسيح، وبعد مئات السنين وهب غزّة معمودية الدماء. 

وأنت نفسك مسيحي بالمعمودية، التي لم ترمز يوماً إلى الاغتسال الخارجي، بل إلى التطهر الداخلي، كما فهمت من عظة ليوحنا ذهبي الفم.

يا إلهي ما كل هذه الوداعة، ما أجمل أن يغتسل الإنسان من الداخل! وما أجمل أن يكون لإنسان فم من ذهب! وما أغنى أهل هذه الأرض تاريخاً وحاضراً.

على فكرة، يؤمن أهل غزّة المسلمون بالمعمدان، هو النبي يحيى ابن زكريا وأليصابات، الطفل الذي بشّر بمجيئه الملائكة، بعدما بلغ والداه من الكبر عتيّاً، ونقلوا الإيمان به إلى أرض الرافدين، هذا التناقل الثقافي الإنساني، دليل إضافي على قدرة أهل هذه الأرض على الانفتاح ونشر السلام، فقد خرجت الكلمة الطيبة من رحم أرضهم الطيبة، وقطعت المسافات وطوت السهول والجبال، والكلمة الطيبة تملك أجنحة، ولا تعترف بالحدود والحواجز، لأنها كانت في البدء، لأن الإنسان كلمة، وهي العليا، ولو لم تنتقل الكلمة إلى روما، لكانت ما زالت أوروبا غارقة في قطع الرؤوس، تكرّر ما فعلته سالومي برأس المعمدان.

تبّاً للسياسة التي تجعل الدين موتاً للناس، بدل أن يكون حياة لهم، تبعدهم عن الله، تبعدهم عن بعضهم بعضاً، وتبعدهم عن إنسانيتهم، ألا ترى يا دكتور أن التعامل بهذا الجفاف العاطفي والإنساني، مع جريمة كهذه، من منطلق سياسي، من الممكن أن يساهم في جعلها سلوكاً مقبولاً في الحروب المقبلة، في أوكرانيا مثلاً، من بمقدوره بعد الآن، أن يحاسب بوتين إن قصف كنيسة أو مستشفى؟ حركة طالبان أو تنظيم داعش أو فلول القاعدة وغيرها من هذه العصابات الإجرامية، من يستطيع أن يوقفها عن ارتكاب المجازر؟ أليس الحياد مقتل الإنسانية؟ 

أسئلة الامتحان الأخلاقي تصعب في هذه الأيام العصيبة، وفصل الإنساني عن السياسي في لحظة كهذه عمل جبّار، فليس سهلاً التفريق بين العداء لحركة استعمارية استيطانية، تشن حرباً ضد شعب بكامله، منذ تأسيسها، وبين مخاصمة حركة عابرة، لفظها المجتمع، وستنتهي بانتهاء تمويلها. 

ما أبسط المعادلة يا دكتور!

إسمح لي أن أسألك، هل تتابع ما يقوم به زميلك الطبيب البريطاني – الفلسطيني الأصل غسان أبو ستة، أتعرفه؟ هل سمعت عنه؟ لو أن الأطباء، سفراء الإنسانية، يقتدون به، ولو اجتمعت في نفسك النية، للمساعدة، ربما ستسمح لك هويّتك الدينية بأن تفعل ما لا يستطيع غيرك فعله، ولوقفت بأمان على عتبة معبر رفح ودخلت إلى غزة برجلك اليمين، هذا منطق استغلالي من جهتي، اقتبسته من منطقك أنت! 

أطلت في أولاً، لنذهب إلى ثانياً: يؤسفني أن أقول لك إنك عشت بين صديقين استثنائيين، لكنك لم تستفد من عشرتهما في أمرين أساسيين: حب فلسطين إنسانياً وأن تكون مسيحياً حقيقياً.

سأقص عليك حكايتين، الأولى حصلت في بداية التسعينات، حين أسّس صديقاك سمير فرنجية وهاني فحص “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني”، وباشرا بالقيام بجولات على القرى النائية ذات الطابع الديني الواحد.

كنا يومها في حسينية العباسية في صور، وبعدما انتهى سمير من محاضرته، تحلق حوله عدد من كبار السن، يسألونه في الحرب والسياسة والدين والوطن ويجيب، يعالج هواجسهم بحكمة ورويّة، ويصغون إليه بحبّ واندهاش.

يمكنك أن تتخيّل، كم كان هذا الماروني القادم من إهدن، شبيهاً بأولئك المتاولة المحيطين به، لكي يقول له أبي مادحاً: “أراك مع الأيام المفتي الجعفري الممتاز”.

الحكاية الثانية، كنت صغيرة عندما جاء محجوب عمر إلى بيتنا، الطبيب المصري، الذي ترك بلاده وعاش متشرداً في المخيمات الفلسطينية ما بين الأردن ولبنان، ليداوي آلام اللاجئين، بعد سنوات تفاجأت بأنه ليس لبنانياً ولا فلسطينياً، وأن اسمه رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب، يعني قبطي، ورغم هذه الفروق في الهوية، إلا أني لم أعثر حتى الآن، على ما يفرّقه عن أبي. 

لو أمكنك أن تتخيل سمير في حسينية العباسية، ومحجوب في عيادته في مخيم مار الياس، فلترسم هويّة على شكل قلب!

في الختام، أذكّرك بأن الجريمة المتواصلة في غزة اختلال في التوازن الكوني، سقوط أخلاقي وعودة للبشرية إلى صورها البدائية، وفلسطين جرح على جبين العالم، إذا استمر نزفه بهذه الطريقة، ستخر الإنسانية منهارة.

25.10.2023
زمن القراءة: 6 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية