fbpx

مجتمع “أختي أميرة”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أصاب أحمد قعبور قلوبنا في أغنية “أختي أميرة” شعوراً وصوتاً وموسيقى وموضوعاً، وتألقت إيمان في الفيديو التصويري بابتسامتها وفستانها الأصفر… لكن “أختي أميرة” ليست أغنية فقط، هي حكاية مجتمع، عن “أميرة” مسكينة… الأميرات كلهن مسكينات!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كنت في دبي يوم اتّصل بي أحمد قعبور ليخبرني عن مشروع أغنيته الجديدة (أختي سميرة)؛ في العادة، يعمل أحمد “برمة” على الأصدقاء والصديقات بخاصّة، حين تطرق بابه فكرة أغنية، فيُجري “بروفا” مبدئية مع جمهور محبّ وصغير، لا ليحصد الإعجاب؛ فهو متأكّد منه، إنما بدافع القلق الذي يعتري الفنان الحريص، الذي يخاف من النجاح وليس من الفشل.

صدمني موضوع الأغنية، وعددتها نوعاً من التجريب، لأنها تناولت موضوعاً لم تطرقه الموسيقى العربية من قبل، فكيف بإمكان فكرة مهملة عن كائن هامشي حدّ الامّحاء، أو هذا النوع من الرمزية الشديدة الواقعية، هذه المادّة الجافّة بمحمولها العاطفي الثقيل، أن تصبح أغنية؟ بخاصّة وأن موسيقى أحمد قعبور وصوته، فيهما من الرقة والحنيّة ما لا يتّسق مع فجاجة معناها.

قلت له حينها إن “سميرة” هي نسخة عن “بثينة” في المسلسل السوري “زمن العار”، البنت ذاتها التي تتكرّر في بيوتنا، التي يضيع صباها في خدمة والديها وإخوتها وعائلاتهم، بلا مقابل حتى معنوي، وتُحرم بقسوة من أحلامها العادية، خشية أن يتعرقل سياق أحلام الآخرين، وتُقمع أحاسيسها ومشاعرها، وكل ما في نفسها من رغبات وحاجات ومتطلّبات جسدية وعاطفية، وتُرمى في حبس التضحية الجبرية، من أجل أن يعيش من فصّل هذه القيم العنفية، على قياسها، بالطول والعرض والفوق والتحت. 

في بيروت، وكان الوقت ربيعاً والجوّ ليس بديعاً، بسبب الحرب التي تطحن عظام أهل غزة وحجارة بيوتها، وتقترب كثيراً من النبطية، حيث قرّرت أن أصمد وحيدة، بقرب سكن ابني البعيد عني، كنوع من الإحساس بالمسؤولية لا التضحية، وعلى رغم الإقامات السعيدة المتاحة لي في ثلاث دول آمنة يتوزّع عليها أبنائي وأحفادي، استقبلنا أحمد وإيمان زوجته وشريكته في الأغنية، على شرفة منزلهما المزدحم ورداً وألواناً وموسيقى وحلواً بيروتياً لذيذاً، لنحتفل باقتراب موعد صدور الأغنية، وقال أحمد حينها إنه أجرى تعديلاً بسيطاً عليها، فصارت “أختي أميرة”.

وحسناً فعل، فاسم “أميرة” له دلالة قيمية تُناقض الواقع وتحرجه في الآن عينه، وهو في ذلك ذهب مذهب ابن حزم الأندلسي في قوله إن “الأمور إذا وصلت إلى غايات تناقضها تشابهت”، ذلك أن “أختي أميرة” ليس لها من اسمها نصيب، لأنها واقعاً هي “عبدة”، خُلقت لتخدم لا لتُخدم، ولتُحكم لا لتحكم، وبينما ينبغي أن تعيش “الأميرات” في عالم أسطوري يزداد إبهاراً يوماً بعد يوم، تبدو “أختي أميرة” في عالمنا كائناً شبحياً ضئيلاً، مُعاقباً بالنفي والعزل والتهميش. 

هذا لا تقوله أغنية “أختي أميرة” ولكنها بلا شكّ تقصده، ولا مهرب لمن يسمعها من أن يجلس متفكراً، يسترجع حكايا وقصصاً مرّت معه شخصياً، أو مرّت بقربه، لذلك، تذكّرت يوم ماتت “أميرةٌ” في ضيعتي، واجتمعت الجارات حينها لغسلها وتكفينها، فرحن يثنين على جمال جسمها المشدود، وعودها الذي احتفظ بصلابته، وجلدها المصقول كالمرآة، غاضّات الطرف عن التشوّهات العاطفية والمعنوية، التي يدركن إصابتها بها من الداخل.

حتى اليوم، لم أتجاوز العبارة التي قالتها جدتي في رثاء “أختي أميرة” من عائلتنا: “مسكينة ما شافت شي بحياتها”.

عادة، عندما تعجز النساء عن فهم الدوافع المسبّبة لعذابات “أختي أميرة” وتفسيرها، يلجأن إلى عقد تسوية بين تأنيب الضمير وقيمة النجاة، تُفضي إلى اعتبار العنوسة؛ على رغم ما يصاحبها من عبودية أُسرية واجتماعية، إنقاذاً لـ”أختي أميرة” من مصير أكثر تعاسة، هو الزواج، والمادّة الحافظة للجمال الخارجي المرتجى، مقابل الزواج الذي يقضي عليه، ففي حين تظلّ جروح “أختي أميرة” تشوّهات غير مرئية، يحرث أزواجهن أجسادهن، ويتركون فيها علامات وأثلاماً وتهتّكات، يعجز عن ترميمها أقوى جراحي التجميل في العالم؛ كما قالت إحداهن، باستعارة عفوية لعبارة كتبها نزار قباني في إحدى قصائده: “لم تبقَ زاوية بجسم الجميلة إلا ومرّت فوقها عرباتي”. 

بغضّ النظر عن الحديث أو الحدث أعلاه، حتى اليوم، لم أتجاوز العبارة التي قالتها جدتي في رثاء “أختي أميرة” من عائلتنا: “مسكينة ما شافت شي بحياتها”.

فالأهوال غير المرئية والآلام النفسية الناتجة من القمع الاجتماعي والكبت العاطفي، التي قاستها “أختي أميرة”، إضافة إلى الخدمة المجانية المضنية والشاقة، التي قدّمتها على مدى سنوات عمرها، كانت غير كافية لجدتي لتعتبر “أختي أميرة”، رأت أكثر منها، فالمقياس الوحيد، الذي تُقاس به تجربة المرأة الإنسانية، هو رؤيتها العضو الذكري.

لا جدتي ولا الجارات سبق لهن أن رأين مكاناً أبعد من المنطقة التي يعشن فيها، غالبيتهن ولدن ومتن في الضيعة، ولم تطأ أقدامهن مكاناً خارج حدودها، سوى الأراضي الزراعية التي كان يضمنها أزواجهن ليوسّعوا تجاراتهم، أو الوعر في وادي الليطاني الذي كنّ يقصدنه لجمع الحطب، لكنهن تفوّقن على “أختي أميرة”، لأنهن رأين في غرفهن المظلمة، ما كان يُشترط أن تراه لتستقيم إنسانيتها.

في مجتمع “أختي أميرة”، العلاقة مع الرجل شرط لتحوّل المرأة من “عبدة” إلى “أميرة”، فالمرأة تستمد قيمتها المعنوية من الاقتران بالرجل، من وجوده، فهي تُولد على اسم أبيها، ثم تنتقل إلى اسم زوجها، ثم تُكنّى باسم ابنها، هذا المفهوم يؤصّل عُرفاً في عقلنا الجمعي، ويقود بالتالي إلى نوع من التنميط، له قواعده الصارمة ومقاساته ومعاييره الحسّاسة والدقيقة جداً، ويخطف من تدخل في دوامته، ويظل يبتزّها ويساومها ويستهلكها حتى النفاد.

أحياناً، يلاحق هذا التنميط المتزوجات أيضاً، ولا يستثني الأرامل والمطلقات، إنه قدر نسائي بالحقيقة، يفرض عليهن شروطه التعجيزية، ومن تحد عنه، أو تتمرّد، أو ترفض، أو تعترض، يرميها بحجر المعصية، تصبح المجدلية، التي دخلت الرواية الدينية كشاهد على لوثة الخطيئة، وشرطه الأساسي هو الطهارة، الجسدية فقط، لا مجال للروحانيات هنا.

والطهارة هنا هي التضحية، المرتبطة دائماً بالتخلّي، بالامّحاء، بالذوبان الكلي، وتحوّل الضحية إلى كائن مجهري، قصيرة اللسان، خفيضة الصوت، معدومة الطلبات والرغبات، تعيش على الفُتات من كل شيء، وعلاوة على ذلك كله ينبغي أن تكون راضية قانعة هانئة.

عموماً، يجب أن تكون “أختي أميرة” طبّاخة وغسّالة وعاملة نظافة وموظّفة ومربيّة ومعلّمة لأطفالها وأطفال العائلة، وصابرة على عصبية أمها وأبيها وأختها وأخيها، وسوء خُلُق زوجها ومغامراته وخياناته، ومتحمّلة مزاجية أمه وأخوته وأخواته وحتى عشيقاته، وينبغي ألا تأكل حد الشبع، ألا تفرح كثيراً، ألا ترتاح قليلاً، ألا تسهر طويلاً، أن تستيقظ باكراً، وأن تعرف ما ينقص البيت وربه وأولاده، وألا تشكو من تعب أو وجع أو مرض أو ملل، وأن تظل ممتنة لهذا الفائض من الإحسان الذي جادت به الدنيا عليها، وإذا اعترضت، تحوّلت إلى خائنة أو عاهرة بالأحرى، يُنكرها أهلها وأولادها وأقاربها وصديقاتها، وينبذها المجتمع.

في القرون الوسطى في أوروبا، كانت الكنيسة تحرّم على النساء الاستمتاع بالعلاقة الجنسية، وتنبهّهن إلى أن الغرض منها هو الإنجاب فقط. في كتب الفقه عند الشيعة، التي تهتمّ بممارسة العلاقة الجنسية الحلال، يستخدم الفقهاء للإشارة الى المرأة حين يخاطبون المعني بالعلاقة، مفردة “أهلك” التي توزاي مفردة “حرمة” في بعض الدول العربية أو “البيت” في بعضها الآخر.

الغرب لا يحيد كثيراً عن القاعدة، وإن كان يبدو مختلفاً في الظاهر، فحين بلغت عارضة الأزياء الألمانية كلاوديا شيفر سن الثلاثين، قيل إنها كبرت على العمل، وصار يجب أن تتنحى لتترك المجال للصغيرات الجميلات، هذا تنميط أصيل لـ”أختي أميرة” الأوروبية، التي شيّئها الرجل، إلى أن حصر حضورها بعمر الصبا فقط.

المجلات الغربية التي تهتم بعالم الأعمال، تمتلئ أغلفتها وصفحاتها الداخلية بصور لرجال “ناجحين” يتجاوزون الستين وما فوقها، بشعر رمادي جذّاب، وتجاعيد تزيد من محاسنهم، بينما لا تظهر فيها امرأة واحدة تجاوزت سن اعتزال كلاوديا شيفر.

أصاب أحمد قعبور قلوبنا في أغنية “أختي أميرة” شعوراً وصوتاً وموسيقى وموضوعاً، وتألقت إيمان في الفيديو التصويري بابتسامتها وفستانها الأصفر… لكن “أختي أميرة” ليست أغنية فقط، هي حكاية مجتمع، عن “أميرة” مسكينة… الأميرات كلهن مسكينات!

"درج" | 22.06.2024

قرارات إخلاء تعسفية…اللاجئون السوريون في لبنان في العراء أو أمام قوارب الموت!

تأتي قرارات "الإخلاء التعسفي" أو "الطرد"، في ظل تصاعد خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين، من مختلف الأطراف السياسية في لبنان، التي تطالب بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، أو نقلهم إلى بلد ثالث، أو ترحيلهم إلى بلدان الدول الأوروبية عبر قوارب هجرة شرعية.
21.06.2024
زمن القراءة: 5 minutes

أصاب أحمد قعبور قلوبنا في أغنية “أختي أميرة” شعوراً وصوتاً وموسيقى وموضوعاً، وتألقت إيمان في الفيديو التصويري بابتسامتها وفستانها الأصفر… لكن “أختي أميرة” ليست أغنية فقط، هي حكاية مجتمع، عن “أميرة” مسكينة… الأميرات كلهن مسكينات!

كنت في دبي يوم اتّصل بي أحمد قعبور ليخبرني عن مشروع أغنيته الجديدة (أختي سميرة)؛ في العادة، يعمل أحمد “برمة” على الأصدقاء والصديقات بخاصّة، حين تطرق بابه فكرة أغنية، فيُجري “بروفا” مبدئية مع جمهور محبّ وصغير، لا ليحصد الإعجاب؛ فهو متأكّد منه، إنما بدافع القلق الذي يعتري الفنان الحريص، الذي يخاف من النجاح وليس من الفشل.

صدمني موضوع الأغنية، وعددتها نوعاً من التجريب، لأنها تناولت موضوعاً لم تطرقه الموسيقى العربية من قبل، فكيف بإمكان فكرة مهملة عن كائن هامشي حدّ الامّحاء، أو هذا النوع من الرمزية الشديدة الواقعية، هذه المادّة الجافّة بمحمولها العاطفي الثقيل، أن تصبح أغنية؟ بخاصّة وأن موسيقى أحمد قعبور وصوته، فيهما من الرقة والحنيّة ما لا يتّسق مع فجاجة معناها.

قلت له حينها إن “سميرة” هي نسخة عن “بثينة” في المسلسل السوري “زمن العار”، البنت ذاتها التي تتكرّر في بيوتنا، التي يضيع صباها في خدمة والديها وإخوتها وعائلاتهم، بلا مقابل حتى معنوي، وتُحرم بقسوة من أحلامها العادية، خشية أن يتعرقل سياق أحلام الآخرين، وتُقمع أحاسيسها ومشاعرها، وكل ما في نفسها من رغبات وحاجات ومتطلّبات جسدية وعاطفية، وتُرمى في حبس التضحية الجبرية، من أجل أن يعيش من فصّل هذه القيم العنفية، على قياسها، بالطول والعرض والفوق والتحت. 

في بيروت، وكان الوقت ربيعاً والجوّ ليس بديعاً، بسبب الحرب التي تطحن عظام أهل غزة وحجارة بيوتها، وتقترب كثيراً من النبطية، حيث قرّرت أن أصمد وحيدة، بقرب سكن ابني البعيد عني، كنوع من الإحساس بالمسؤولية لا التضحية، وعلى رغم الإقامات السعيدة المتاحة لي في ثلاث دول آمنة يتوزّع عليها أبنائي وأحفادي، استقبلنا أحمد وإيمان زوجته وشريكته في الأغنية، على شرفة منزلهما المزدحم ورداً وألواناً وموسيقى وحلواً بيروتياً لذيذاً، لنحتفل باقتراب موعد صدور الأغنية، وقال أحمد حينها إنه أجرى تعديلاً بسيطاً عليها، فصارت “أختي أميرة”.

وحسناً فعل، فاسم “أميرة” له دلالة قيمية تُناقض الواقع وتحرجه في الآن عينه، وهو في ذلك ذهب مذهب ابن حزم الأندلسي في قوله إن “الأمور إذا وصلت إلى غايات تناقضها تشابهت”، ذلك أن “أختي أميرة” ليس لها من اسمها نصيب، لأنها واقعاً هي “عبدة”، خُلقت لتخدم لا لتُخدم، ولتُحكم لا لتحكم، وبينما ينبغي أن تعيش “الأميرات” في عالم أسطوري يزداد إبهاراً يوماً بعد يوم، تبدو “أختي أميرة” في عالمنا كائناً شبحياً ضئيلاً، مُعاقباً بالنفي والعزل والتهميش. 

هذا لا تقوله أغنية “أختي أميرة” ولكنها بلا شكّ تقصده، ولا مهرب لمن يسمعها من أن يجلس متفكراً، يسترجع حكايا وقصصاً مرّت معه شخصياً، أو مرّت بقربه، لذلك، تذكّرت يوم ماتت “أميرةٌ” في ضيعتي، واجتمعت الجارات حينها لغسلها وتكفينها، فرحن يثنين على جمال جسمها المشدود، وعودها الذي احتفظ بصلابته، وجلدها المصقول كالمرآة، غاضّات الطرف عن التشوّهات العاطفية والمعنوية، التي يدركن إصابتها بها من الداخل.

حتى اليوم، لم أتجاوز العبارة التي قالتها جدتي في رثاء “أختي أميرة” من عائلتنا: “مسكينة ما شافت شي بحياتها”.

عادة، عندما تعجز النساء عن فهم الدوافع المسبّبة لعذابات “أختي أميرة” وتفسيرها، يلجأن إلى عقد تسوية بين تأنيب الضمير وقيمة النجاة، تُفضي إلى اعتبار العنوسة؛ على رغم ما يصاحبها من عبودية أُسرية واجتماعية، إنقاذاً لـ”أختي أميرة” من مصير أكثر تعاسة، هو الزواج، والمادّة الحافظة للجمال الخارجي المرتجى، مقابل الزواج الذي يقضي عليه، ففي حين تظلّ جروح “أختي أميرة” تشوّهات غير مرئية، يحرث أزواجهن أجسادهن، ويتركون فيها علامات وأثلاماً وتهتّكات، يعجز عن ترميمها أقوى جراحي التجميل في العالم؛ كما قالت إحداهن، باستعارة عفوية لعبارة كتبها نزار قباني في إحدى قصائده: “لم تبقَ زاوية بجسم الجميلة إلا ومرّت فوقها عرباتي”. 

بغضّ النظر عن الحديث أو الحدث أعلاه، حتى اليوم، لم أتجاوز العبارة التي قالتها جدتي في رثاء “أختي أميرة” من عائلتنا: “مسكينة ما شافت شي بحياتها”.

فالأهوال غير المرئية والآلام النفسية الناتجة من القمع الاجتماعي والكبت العاطفي، التي قاستها “أختي أميرة”، إضافة إلى الخدمة المجانية المضنية والشاقة، التي قدّمتها على مدى سنوات عمرها، كانت غير كافية لجدتي لتعتبر “أختي أميرة”، رأت أكثر منها، فالمقياس الوحيد، الذي تُقاس به تجربة المرأة الإنسانية، هو رؤيتها العضو الذكري.

لا جدتي ولا الجارات سبق لهن أن رأين مكاناً أبعد من المنطقة التي يعشن فيها، غالبيتهن ولدن ومتن في الضيعة، ولم تطأ أقدامهن مكاناً خارج حدودها، سوى الأراضي الزراعية التي كان يضمنها أزواجهن ليوسّعوا تجاراتهم، أو الوعر في وادي الليطاني الذي كنّ يقصدنه لجمع الحطب، لكنهن تفوّقن على “أختي أميرة”، لأنهن رأين في غرفهن المظلمة، ما كان يُشترط أن تراه لتستقيم إنسانيتها.

في مجتمع “أختي أميرة”، العلاقة مع الرجل شرط لتحوّل المرأة من “عبدة” إلى “أميرة”، فالمرأة تستمد قيمتها المعنوية من الاقتران بالرجل، من وجوده، فهي تُولد على اسم أبيها، ثم تنتقل إلى اسم زوجها، ثم تُكنّى باسم ابنها، هذا المفهوم يؤصّل عُرفاً في عقلنا الجمعي، ويقود بالتالي إلى نوع من التنميط، له قواعده الصارمة ومقاساته ومعاييره الحسّاسة والدقيقة جداً، ويخطف من تدخل في دوامته، ويظل يبتزّها ويساومها ويستهلكها حتى النفاد.

أحياناً، يلاحق هذا التنميط المتزوجات أيضاً، ولا يستثني الأرامل والمطلقات، إنه قدر نسائي بالحقيقة، يفرض عليهن شروطه التعجيزية، ومن تحد عنه، أو تتمرّد، أو ترفض، أو تعترض، يرميها بحجر المعصية، تصبح المجدلية، التي دخلت الرواية الدينية كشاهد على لوثة الخطيئة، وشرطه الأساسي هو الطهارة، الجسدية فقط، لا مجال للروحانيات هنا.

والطهارة هنا هي التضحية، المرتبطة دائماً بالتخلّي، بالامّحاء، بالذوبان الكلي، وتحوّل الضحية إلى كائن مجهري، قصيرة اللسان، خفيضة الصوت، معدومة الطلبات والرغبات، تعيش على الفُتات من كل شيء، وعلاوة على ذلك كله ينبغي أن تكون راضية قانعة هانئة.

عموماً، يجب أن تكون “أختي أميرة” طبّاخة وغسّالة وعاملة نظافة وموظّفة ومربيّة ومعلّمة لأطفالها وأطفال العائلة، وصابرة على عصبية أمها وأبيها وأختها وأخيها، وسوء خُلُق زوجها ومغامراته وخياناته، ومتحمّلة مزاجية أمه وأخوته وأخواته وحتى عشيقاته، وينبغي ألا تأكل حد الشبع، ألا تفرح كثيراً، ألا ترتاح قليلاً، ألا تسهر طويلاً، أن تستيقظ باكراً، وأن تعرف ما ينقص البيت وربه وأولاده، وألا تشكو من تعب أو وجع أو مرض أو ملل، وأن تظل ممتنة لهذا الفائض من الإحسان الذي جادت به الدنيا عليها، وإذا اعترضت، تحوّلت إلى خائنة أو عاهرة بالأحرى، يُنكرها أهلها وأولادها وأقاربها وصديقاتها، وينبذها المجتمع.

في القرون الوسطى في أوروبا، كانت الكنيسة تحرّم على النساء الاستمتاع بالعلاقة الجنسية، وتنبهّهن إلى أن الغرض منها هو الإنجاب فقط. في كتب الفقه عند الشيعة، التي تهتمّ بممارسة العلاقة الجنسية الحلال، يستخدم الفقهاء للإشارة الى المرأة حين يخاطبون المعني بالعلاقة، مفردة “أهلك” التي توزاي مفردة “حرمة” في بعض الدول العربية أو “البيت” في بعضها الآخر.

الغرب لا يحيد كثيراً عن القاعدة، وإن كان يبدو مختلفاً في الظاهر، فحين بلغت عارضة الأزياء الألمانية كلاوديا شيفر سن الثلاثين، قيل إنها كبرت على العمل، وصار يجب أن تتنحى لتترك المجال للصغيرات الجميلات، هذا تنميط أصيل لـ”أختي أميرة” الأوروبية، التي شيّئها الرجل، إلى أن حصر حضورها بعمر الصبا فقط.

المجلات الغربية التي تهتم بعالم الأعمال، تمتلئ أغلفتها وصفحاتها الداخلية بصور لرجال “ناجحين” يتجاوزون الستين وما فوقها، بشعر رمادي جذّاب، وتجاعيد تزيد من محاسنهم، بينما لا تظهر فيها امرأة واحدة تجاوزت سن اعتزال كلاوديا شيفر.

أصاب أحمد قعبور قلوبنا في أغنية “أختي أميرة” شعوراً وصوتاً وموسيقى وموضوعاً، وتألقت إيمان في الفيديو التصويري بابتسامتها وفستانها الأصفر… لكن “أختي أميرة” ليست أغنية فقط، هي حكاية مجتمع، عن “أميرة” مسكينة… الأميرات كلهن مسكينات!

21.06.2024
زمن القراءة: 5 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية