fbpx

 مجتمع الميم عين في الضاحية الجنوبيّة… النجاة في ظل “السيد”

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا توجد أماكن أو منظمات داعمة لمجتمع الميم عين، إلا أن بعضاً من أفراده يعيشون في الظل داخل بيوتها منذ سنوات طويلة، أطول من عمر مواقع التواصل الإجتماعي و “الغزو الثقافي الغربي” لمجتمعاتنا، وهو ما يرفض “حزب الله” ومؤيدوه تصديقه والاقتناع به.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بكرا بتلاقيها حاملة علم المثليين وعم تدعمن”، بهذه الجملة كان يصرخ والدي بوجه أمي التي كانت تحاول تهدئته، بعد شجار افتعله معي على طاولة العشاء.

افتعله هي الكلمة الأدق لوصف ما حصل، فالحديث الذي بدأ بسؤاله عن الغاية من الوشوم الكثيرة على جسدي، تحوّل فجأة، وبغضب عارم، للحديث عن أن الحكم الشرعي للمرتدين هو القتل، وبأنه كان ينبغي عليه أن يتصرف معي بشكل حازم وصارم أكثر منذ البداية.

يقصد أبي بـ”الردة”، حين سألني للمرة الأولى، منذ ست سنوات ربما، عن انقطاعي عن أداء الفروض الدينية، فأجبته بكل صراحةٍ بأنني غير مقتنعة بما تفرضه علينا الأديان السماوية جميعها، وبأنني لا أرى نفسي كفتاة ملتزمة دينياً.

تأقلمت العائلة في النهاية مع اختلافي العقائدي والسياسي والفكري ومع نمط حياتي الذي لا يشبه نمط أي فتاة أخرى في العائلة. فأنا، على عكس الجميع منهم، لدي أصدقاء من طوائف ومذاهب أخرى، والكثير منهم يؤمنون بما أؤمن به، وأقصد الحرية الفردية والخروج من تحت عباءة المراجع الدينية والأحزاب السياسية التي  تغطي عائلاتنا ومجتمعاتنا.

توقّف والدي عن الخوض في جدالات معي لمحاولة تغيير رأي في أيٍّ مما نختلف عليه، وتجاهل كل محاولات الضغط التي يمارسها عليه أقاربه وأصدقاؤه. إلا أن الشجار الأخير بيننا أعادنا إلى نقطة الصفر، وجعلني للمرة الأولى أشعر بالخوف من ردة فعله في حال دافعت عن موقفي أو عبرت عن رأي، فما كان مني إلا الانسحاب إلى غرفتي تجنباً لأي عنف جسدي قد يقوم به تحت تأثير غضبه الذي تفجّر بسهولة، إذ كان يحاول خلال الأيام الماضية للحادثة إخفاءه جاهداً.

لم يكن الحديث عن المثلية الجنسية وارداً في عائلتنا منذ الأزل، رغم خوضنا الكثير من النقاشات حول مفاهيم متعددة، كالنسوية والذكورية والحرية الدينية والثورة السياسية وما شابه من مواضيع غير مألوفة لديهم. وفي غالبية الأحيان، كانت الإجابات حول ما أطرحه من أفكار مستوحاة من الكتب الدينية والخطابات السياسية، لم يقنعني أي منها بطبيعة الحال. لذا، لم يكن لدى عائلتي أي تصور واضح حول رأيي بما يخص هذه القضية بالذات.

طفا الموضوع في رأسي حين تحدث أبي عن خوفه من دعمي المتوقع لمجتمع الميم عين، كونه تأثر بطبيعة الحال بخطابات السيد حسن نصر الله المتكررة حول الموضوع أثناء عاشوراء، وتوليه دفة المحرضين عليهم. وبالتأكيد، كان حديثه عن القتل كرادعٍ لكل من يخالف الفطرة الإسلامية التي نشأ عليها، للمرة الأولى في حياته، مقتبساً مما ردده أمين عام “حزب الله” وكثر من رجال الدين المحسوبين عليه على المنابر أخيراً.

“حياتنا على المحك”

بعد الحملة الممنهجة التي قادتها جهات دينية وسياسية كثيرة لمحاربة مجتمع الميم عين في لبنان، لم يعد الحديث مقتصراً على التهديد أو المضايقات اللفظية، بل تعداه إلى وجود خطر حقيقي على أرواح الأفراد، ولعل ما جرى منذ أيام قليلة من هجوم لما يسمى بـ “جنود الرب” على ملهى ليلي في مار مخايل هو بدايةٌ لمسار طويل قد يتسع ليطاول مناطق أخرى.

في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا توجد أماكن أو منظمات داعمة لمجتمع الميم عين، إلا أن بعضاً من أفراده يعيشون في الظل داخل بيوتها منذ سنوات طويلة، أطول من عمر مواقع التواصل الإجتماعي و “الغزو الثقافي الغربي” لمجتمعاتنا، وهو ما يرفض “حزب الله” ومؤيدوه تصديقه والاقتناع به.

 تتفق القوى الدينية والسياسية في لبنان ذات التاريخ الحافل بالفساد والدماء على عدو واحد ، هي تهدد مجتمع الميم عين وتسلط الضوء عليه، لتشتت الأنظار عن الجرائم التي ارتكبتها بحق لبنان ككل، وحولته خلال سنوات حكمها إلى بقعة جحيمٍ على الأرض، تحمل كل أشكال الموت والخوف والفقر.

وفي حين اكتفت معظم الشخصيات السياسية والدينية الكبرى بالحديث عن المثلية الجنسية بوصفها خطراً على هوية البلد وقيمه، مع التأكيد على ضرورة محاربتها من خلال نشر الوعي وتجريمها قانونياً، وعدم السماح بالترويج لها، كان حسن نصر الله الوحيد الذي تطرق إلى الحكم الشرعي بما يخص المثليين.

أشار نصر الله في واحد من خطاباته العاشورائية إلى أن خلاص المثلي في الحياة والآخرة هو بإقامة الحد عليه، وبأنه “لا فرق بين أعزب ومتزوج، في حالة اللواط، من المرة الأولى يقتل”. ودعى إلى محاربة هذه الظاهرة بكل الطرق الممكنة، من دون سقف. وهو بذلك قد أعطى الضوء الأخضر والشرعية لأي جريمة قتل قد تُرتكب بذريعة محاربة المثلية. وبالطبع، سينال القاتل بهذه الحالة تأييداً ومباركة جماعية من جمهور “حزب الله” الذي يمتلك تاريخاً حافلاً مع قتل الأبرياء والمعارضين له. هذا، عدا عن التدخلات السياسية المحتملة في القضاء.

العابرون جنسياً هم الفئة الأضعف

تزامناً مع خطابات نصر الله، انطلقت حملات منظمة من المؤثرين والناشطين في صفوف “حزب الله” والمؤسسات الثقافية والإعلامية التابعة له، للحديث عن مجتمع الميم عين والشرح أكثر عن الرموز والدلالات التي تروج للمثلية الجنسية، لمكافحة انتشارها. في حين، كان الحديث عن المثلية خجولاً ضمن المجتمع الشيعي المحافظ طوال السنوات الماضية.

يقول فادي (اسم مستعار) وهو عابر جنسياً من الطائفة الشيعية، أنه وبعد وفاة والديه، وانتقاله للسكن وحيداً خارج الضاحية، والعمل كنادلٍ في أحد بارات منطقة الحمرا، وجد نفسه مرتاحاً أكثر بالحديث عن عبوره ورغبته في أن يكون ذكراً، وبدأ باختيار ملابسه وقصة شعره وفق ما يتناسب مع رغبته، وذلك لم يعجب أفراد أسرته وعائلته التي قطعت علاقتها به، باستثناء عمته الثمانينية التي تعيش وحيدة في حي السلم، لأنها ربما لم تفهم ما يعنيه بكلامه.

واظب فادي خلال السنوات الماضية على زيارة عمته للاطمئنان عليها، إلا أنه توقف عن ذلك منذ خطاب حسن نصر الله، خشية أن يتم التعرض له بأي أذى، فقد أصبح أي اختلاف عن السائد في المظهر والملابس، محل شبهةٍ، ولا يمكن التكهن بما قد يقدم عليه أفرادٌ تم إيهامهم بأن سبب كل خرابٍ في المجتمع هو آخرون اختاروا الانسجام مع رغباتهم وتوجهاتهم الجنسية والجندرية، بعيداً عما فرضته عليهم الأعراف الاجتماعية والدينية.

يشاركه الخوف كريم (اسم مستعار)، وهو عابر جنسياً في الثالثة والعشرين من عمره، ويعيش حتى اليوم في منزل عائلته في برج البراجنة، ويعمل في دكان صغير قريب تملكه خالته. لا تملك العائلة أي فكرة عن رغبة كريم في العبور، أو عن معنى عابر جنسي، ويتعاملون معه كأنثى، لكنهم يعارضون مظهره الخارجي وارتداءه ملابس رجالية.

يقول كريم إنه لم يستطع العثور على أي عمل في اختصاصه الجامعي في إدارة الأعمال في الضاحية الجنوبية، بسبب مظهره المختلف، وهو غير قادر على الاستقلال المادي والانفصال عن عائلته،  لذا اضطر للعمل في دكان خالته التي يقصدها جيرانه والعابرون في الحي، وهو ما قلل من احتكاكه بالغرباء.

في السابق، اعتاد الجيران وسكان الحي على النظر والتعامل مع كريم بوصفه فتاةً بمظهر رجولي، أما الآن فأصبح من الوارد أن يفكر بعضهم بالأمر من منظور جديد، ويتعامل مع كريم بوصفه عدواً أو خطراً على البيئة الشيعية، ويجب القضاء عليه.

“نحكى معن”

ظهرت هذه العبارة للمرة الأولى في تغريدة لناشط مؤيد لـ”حزب الله” على “تويتر”، نشر خلالها صورة لزجاجة عطر وعليها “قوس قزح” في إحدى الصيدليات، وأكد أنه تواصل مع صاحب الصيدلية لمطالبته بسحبها عن الرفوف، لتتحول في ما بعد إلى مادة للسخرية من المعارضين لهذه الحملة الممنهجة.

تحمل هذه العبارة في طياتها تهديداً مبطناً وتلميحاً إلى فائض القوة الذي يستعمله “حزب الله” لإخضاع معارضيه داخل مناطق نفوذه، بحيث يكون التواصل مع الأفراد هو الخطوة الأولى في سلم تصاعدي من الخطوات التي يتم استخدامها حال عدم استجابة المتلقي لهذا الحديث. وقد سُجلت حالات كثيرة اضطر فيه بعض منتقدي “حزب الله” من أبناء بيئته إلى التراجع عن أقوالهم والاعتذار عما بدر منهم، بعد تواصل مسؤولين أو أفراد منظمين في “حزب الله” معهم وتهديدهم بطرق غير مباشرة.

لا يوجد شكل موحّد للتواصل والتصعيد مع الأفراد، فهو يختلف وفق هوية الأشخاص والمعطيات التي يمتلكها الحزب عنهم، وبحسب نقاط ضعف الآخر وكيف يمكن الضغط عليه من خلالها، لكن الأكيد أن كل المعارضين الذين أقدم الحزب على تصفيتهم، كان قد “حكى معهن” في البداية.

نشر موقع “الضاحية الجنوبية” على “فيسبوك” صورةً لدفاتر مدرسية تحمل على غلافها ألوان قوس قزح، وأشار إلى وجود هذه المنتجات لدى محلات “صافي”، وهو من المتاجر الكبرى في الضاحية، ليطلب المتابعون عبر التعليقات أن يتم التواصل مع صاحب المتجر قبل القيام بأي خطوات تصعيدية. لينشر الموقع في اليوم التالي بياناً يؤكد فيه سحب إدارة المحلات البضائع كافة التي تروج للمثلية، معتذرين عن عدم انتباههم لها بسبب كثرة البضائع وتنوعها، مشددين على محاربتهم هذه الظاهرة.

تقول  فاطمة (اسم مستعار)، التي تدير صفحة “أونلاين” لبيع الإكسسوارت والحلي وما شابه في الضاحية، إنها تلقت رسالة من أحد زبائنها المؤيدين لـ”حزب الله”، يلفت من خلالها نظرها إلى ضرورة حذف أحد المنشورات التي تعرض عبرها “كوفر” هاتف ملون، انتشر بكثرة في الأسواق اللبنانية في الآونة الأخيرة، فما كان منها إلا أن سارعت الى حذفه والاعتذار، رغم عدم اقتناعها بما يقوله، إلا أنها خشيت أن ينشر المرسل صفحتها على حسابه ويطالب بمقاطعتها، كما جرى في حالات أخرى.

حرب علنية

يخوض مجتمع الميم عين في لبنان معركة غير متكافئة، بين مجموعات مهمشة في وجه قوى دينية سياسية مدعومة، سجلها حافل بالقتل والاعتداءات والقمع، بدايةً من الحرب الأهلية وصولًا إلى حراك 17 تشرين وما تلاه، من دون أن تنصف القوانين ضحاياهم أياً كانوا. وقد وحدت هذه المعركة الوهمية أطرافاً سبق لها أن قتلت ونكلت ببعضها البعض، إلا أنها اليوم تتفق على عدو واحد، تحاول من خلال مواجهته وتسليط الضوء عليه، أن تشتت الأنظار عن الجرائم التي ارتكبتها بحق لبنان ككل، وحولته خلال سنوات حكمها إلى بقعة جحيمٍ على الأرض، تحمل كل أشكال الموت والخوف والفقر.

هاني عضاضة | 29.06.2024

عن الجندي الإسرائيلي ومسار نزع الأنسنة عن الفلسطينيين

ما الذي يقود عدداً متزايداً من الجنود الإسرائيليين، إلى ارتكاب الفظاعات في غزة وتوثيقها بأنفسهم؟ وأية استراتيجيات تتبعها إسرائيل لتشكيل الذات الإنسانية الإسرائيلية وصوغها، لتنتج هذا النموذج للجندي الذي يرتكب أعمالاً مروعة؟
01.09.2023
زمن القراءة: 7 minutes

في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا توجد أماكن أو منظمات داعمة لمجتمع الميم عين، إلا أن بعضاً من أفراده يعيشون في الظل داخل بيوتها منذ سنوات طويلة، أطول من عمر مواقع التواصل الإجتماعي و “الغزو الثقافي الغربي” لمجتمعاتنا، وهو ما يرفض “حزب الله” ومؤيدوه تصديقه والاقتناع به.

بكرا بتلاقيها حاملة علم المثليين وعم تدعمن”، بهذه الجملة كان يصرخ والدي بوجه أمي التي كانت تحاول تهدئته، بعد شجار افتعله معي على طاولة العشاء.

افتعله هي الكلمة الأدق لوصف ما حصل، فالحديث الذي بدأ بسؤاله عن الغاية من الوشوم الكثيرة على جسدي، تحوّل فجأة، وبغضب عارم، للحديث عن أن الحكم الشرعي للمرتدين هو القتل، وبأنه كان ينبغي عليه أن يتصرف معي بشكل حازم وصارم أكثر منذ البداية.

يقصد أبي بـ”الردة”، حين سألني للمرة الأولى، منذ ست سنوات ربما، عن انقطاعي عن أداء الفروض الدينية، فأجبته بكل صراحةٍ بأنني غير مقتنعة بما تفرضه علينا الأديان السماوية جميعها، وبأنني لا أرى نفسي كفتاة ملتزمة دينياً.

تأقلمت العائلة في النهاية مع اختلافي العقائدي والسياسي والفكري ومع نمط حياتي الذي لا يشبه نمط أي فتاة أخرى في العائلة. فأنا، على عكس الجميع منهم، لدي أصدقاء من طوائف ومذاهب أخرى، والكثير منهم يؤمنون بما أؤمن به، وأقصد الحرية الفردية والخروج من تحت عباءة المراجع الدينية والأحزاب السياسية التي  تغطي عائلاتنا ومجتمعاتنا.

توقّف والدي عن الخوض في جدالات معي لمحاولة تغيير رأي في أيٍّ مما نختلف عليه، وتجاهل كل محاولات الضغط التي يمارسها عليه أقاربه وأصدقاؤه. إلا أن الشجار الأخير بيننا أعادنا إلى نقطة الصفر، وجعلني للمرة الأولى أشعر بالخوف من ردة فعله في حال دافعت عن موقفي أو عبرت عن رأي، فما كان مني إلا الانسحاب إلى غرفتي تجنباً لأي عنف جسدي قد يقوم به تحت تأثير غضبه الذي تفجّر بسهولة، إذ كان يحاول خلال الأيام الماضية للحادثة إخفاءه جاهداً.

لم يكن الحديث عن المثلية الجنسية وارداً في عائلتنا منذ الأزل، رغم خوضنا الكثير من النقاشات حول مفاهيم متعددة، كالنسوية والذكورية والحرية الدينية والثورة السياسية وما شابه من مواضيع غير مألوفة لديهم. وفي غالبية الأحيان، كانت الإجابات حول ما أطرحه من أفكار مستوحاة من الكتب الدينية والخطابات السياسية، لم يقنعني أي منها بطبيعة الحال. لذا، لم يكن لدى عائلتي أي تصور واضح حول رأيي بما يخص هذه القضية بالذات.

طفا الموضوع في رأسي حين تحدث أبي عن خوفه من دعمي المتوقع لمجتمع الميم عين، كونه تأثر بطبيعة الحال بخطابات السيد حسن نصر الله المتكررة حول الموضوع أثناء عاشوراء، وتوليه دفة المحرضين عليهم. وبالتأكيد، كان حديثه عن القتل كرادعٍ لكل من يخالف الفطرة الإسلامية التي نشأ عليها، للمرة الأولى في حياته، مقتبساً مما ردده أمين عام “حزب الله” وكثر من رجال الدين المحسوبين عليه على المنابر أخيراً.

“حياتنا على المحك”

بعد الحملة الممنهجة التي قادتها جهات دينية وسياسية كثيرة لمحاربة مجتمع الميم عين في لبنان، لم يعد الحديث مقتصراً على التهديد أو المضايقات اللفظية، بل تعداه إلى وجود خطر حقيقي على أرواح الأفراد، ولعل ما جرى منذ أيام قليلة من هجوم لما يسمى بـ “جنود الرب” على ملهى ليلي في مار مخايل هو بدايةٌ لمسار طويل قد يتسع ليطاول مناطق أخرى.

في الضاحية الجنوبية لبيروت، لا توجد أماكن أو منظمات داعمة لمجتمع الميم عين، إلا أن بعضاً من أفراده يعيشون في الظل داخل بيوتها منذ سنوات طويلة، أطول من عمر مواقع التواصل الإجتماعي و “الغزو الثقافي الغربي” لمجتمعاتنا، وهو ما يرفض “حزب الله” ومؤيدوه تصديقه والاقتناع به.

 تتفق القوى الدينية والسياسية في لبنان ذات التاريخ الحافل بالفساد والدماء على عدو واحد ، هي تهدد مجتمع الميم عين وتسلط الضوء عليه، لتشتت الأنظار عن الجرائم التي ارتكبتها بحق لبنان ككل، وحولته خلال سنوات حكمها إلى بقعة جحيمٍ على الأرض، تحمل كل أشكال الموت والخوف والفقر.

وفي حين اكتفت معظم الشخصيات السياسية والدينية الكبرى بالحديث عن المثلية الجنسية بوصفها خطراً على هوية البلد وقيمه، مع التأكيد على ضرورة محاربتها من خلال نشر الوعي وتجريمها قانونياً، وعدم السماح بالترويج لها، كان حسن نصر الله الوحيد الذي تطرق إلى الحكم الشرعي بما يخص المثليين.

أشار نصر الله في واحد من خطاباته العاشورائية إلى أن خلاص المثلي في الحياة والآخرة هو بإقامة الحد عليه، وبأنه “لا فرق بين أعزب ومتزوج، في حالة اللواط، من المرة الأولى يقتل”. ودعى إلى محاربة هذه الظاهرة بكل الطرق الممكنة، من دون سقف. وهو بذلك قد أعطى الضوء الأخضر والشرعية لأي جريمة قتل قد تُرتكب بذريعة محاربة المثلية. وبالطبع، سينال القاتل بهذه الحالة تأييداً ومباركة جماعية من جمهور “حزب الله” الذي يمتلك تاريخاً حافلاً مع قتل الأبرياء والمعارضين له. هذا، عدا عن التدخلات السياسية المحتملة في القضاء.

العابرون جنسياً هم الفئة الأضعف

تزامناً مع خطابات نصر الله، انطلقت حملات منظمة من المؤثرين والناشطين في صفوف “حزب الله” والمؤسسات الثقافية والإعلامية التابعة له، للحديث عن مجتمع الميم عين والشرح أكثر عن الرموز والدلالات التي تروج للمثلية الجنسية، لمكافحة انتشارها. في حين، كان الحديث عن المثلية خجولاً ضمن المجتمع الشيعي المحافظ طوال السنوات الماضية.

يقول فادي (اسم مستعار) وهو عابر جنسياً من الطائفة الشيعية، أنه وبعد وفاة والديه، وانتقاله للسكن وحيداً خارج الضاحية، والعمل كنادلٍ في أحد بارات منطقة الحمرا، وجد نفسه مرتاحاً أكثر بالحديث عن عبوره ورغبته في أن يكون ذكراً، وبدأ باختيار ملابسه وقصة شعره وفق ما يتناسب مع رغبته، وذلك لم يعجب أفراد أسرته وعائلته التي قطعت علاقتها به، باستثناء عمته الثمانينية التي تعيش وحيدة في حي السلم، لأنها ربما لم تفهم ما يعنيه بكلامه.

واظب فادي خلال السنوات الماضية على زيارة عمته للاطمئنان عليها، إلا أنه توقف عن ذلك منذ خطاب حسن نصر الله، خشية أن يتم التعرض له بأي أذى، فقد أصبح أي اختلاف عن السائد في المظهر والملابس، محل شبهةٍ، ولا يمكن التكهن بما قد يقدم عليه أفرادٌ تم إيهامهم بأن سبب كل خرابٍ في المجتمع هو آخرون اختاروا الانسجام مع رغباتهم وتوجهاتهم الجنسية والجندرية، بعيداً عما فرضته عليهم الأعراف الاجتماعية والدينية.

يشاركه الخوف كريم (اسم مستعار)، وهو عابر جنسياً في الثالثة والعشرين من عمره، ويعيش حتى اليوم في منزل عائلته في برج البراجنة، ويعمل في دكان صغير قريب تملكه خالته. لا تملك العائلة أي فكرة عن رغبة كريم في العبور، أو عن معنى عابر جنسي، ويتعاملون معه كأنثى، لكنهم يعارضون مظهره الخارجي وارتداءه ملابس رجالية.

يقول كريم إنه لم يستطع العثور على أي عمل في اختصاصه الجامعي في إدارة الأعمال في الضاحية الجنوبية، بسبب مظهره المختلف، وهو غير قادر على الاستقلال المادي والانفصال عن عائلته،  لذا اضطر للعمل في دكان خالته التي يقصدها جيرانه والعابرون في الحي، وهو ما قلل من احتكاكه بالغرباء.

في السابق، اعتاد الجيران وسكان الحي على النظر والتعامل مع كريم بوصفه فتاةً بمظهر رجولي، أما الآن فأصبح من الوارد أن يفكر بعضهم بالأمر من منظور جديد، ويتعامل مع كريم بوصفه عدواً أو خطراً على البيئة الشيعية، ويجب القضاء عليه.

“نحكى معن”

ظهرت هذه العبارة للمرة الأولى في تغريدة لناشط مؤيد لـ”حزب الله” على “تويتر”، نشر خلالها صورة لزجاجة عطر وعليها “قوس قزح” في إحدى الصيدليات، وأكد أنه تواصل مع صاحب الصيدلية لمطالبته بسحبها عن الرفوف، لتتحول في ما بعد إلى مادة للسخرية من المعارضين لهذه الحملة الممنهجة.

تحمل هذه العبارة في طياتها تهديداً مبطناً وتلميحاً إلى فائض القوة الذي يستعمله “حزب الله” لإخضاع معارضيه داخل مناطق نفوذه، بحيث يكون التواصل مع الأفراد هو الخطوة الأولى في سلم تصاعدي من الخطوات التي يتم استخدامها حال عدم استجابة المتلقي لهذا الحديث. وقد سُجلت حالات كثيرة اضطر فيه بعض منتقدي “حزب الله” من أبناء بيئته إلى التراجع عن أقوالهم والاعتذار عما بدر منهم، بعد تواصل مسؤولين أو أفراد منظمين في “حزب الله” معهم وتهديدهم بطرق غير مباشرة.

لا يوجد شكل موحّد للتواصل والتصعيد مع الأفراد، فهو يختلف وفق هوية الأشخاص والمعطيات التي يمتلكها الحزب عنهم، وبحسب نقاط ضعف الآخر وكيف يمكن الضغط عليه من خلالها، لكن الأكيد أن كل المعارضين الذين أقدم الحزب على تصفيتهم، كان قد “حكى معهن” في البداية.

نشر موقع “الضاحية الجنوبية” على “فيسبوك” صورةً لدفاتر مدرسية تحمل على غلافها ألوان قوس قزح، وأشار إلى وجود هذه المنتجات لدى محلات “صافي”، وهو من المتاجر الكبرى في الضاحية، ليطلب المتابعون عبر التعليقات أن يتم التواصل مع صاحب المتجر قبل القيام بأي خطوات تصعيدية. لينشر الموقع في اليوم التالي بياناً يؤكد فيه سحب إدارة المحلات البضائع كافة التي تروج للمثلية، معتذرين عن عدم انتباههم لها بسبب كثرة البضائع وتنوعها، مشددين على محاربتهم هذه الظاهرة.

تقول  فاطمة (اسم مستعار)، التي تدير صفحة “أونلاين” لبيع الإكسسوارت والحلي وما شابه في الضاحية، إنها تلقت رسالة من أحد زبائنها المؤيدين لـ”حزب الله”، يلفت من خلالها نظرها إلى ضرورة حذف أحد المنشورات التي تعرض عبرها “كوفر” هاتف ملون، انتشر بكثرة في الأسواق اللبنانية في الآونة الأخيرة، فما كان منها إلا أن سارعت الى حذفه والاعتذار، رغم عدم اقتناعها بما يقوله، إلا أنها خشيت أن ينشر المرسل صفحتها على حسابه ويطالب بمقاطعتها، كما جرى في حالات أخرى.

حرب علنية

يخوض مجتمع الميم عين في لبنان معركة غير متكافئة، بين مجموعات مهمشة في وجه قوى دينية سياسية مدعومة، سجلها حافل بالقتل والاعتداءات والقمع، بدايةً من الحرب الأهلية وصولًا إلى حراك 17 تشرين وما تلاه، من دون أن تنصف القوانين ضحاياهم أياً كانوا. وقد وحدت هذه المعركة الوهمية أطرافاً سبق لها أن قتلت ونكلت ببعضها البعض، إلا أنها اليوم تتفق على عدو واحد، تحاول من خلال مواجهته وتسليط الضوء عليه، أن تشتت الأنظار عن الجرائم التي ارتكبتها بحق لبنان ككل، وحولته خلال سنوات حكمها إلى بقعة جحيمٍ على الأرض، تحمل كل أشكال الموت والخوف والفقر.

01.09.2023
زمن القراءة: 7 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية