fbpx

من جحيم غزة: كيف يتحايل الفلسطينيون على الموت؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إحدى المحاولات العجيبة للإنسان للحفاظ على بقائه، هي تحويل الحزن والألم إلى شيء آخر، أنا أحترف في هذه اللحظات صنع الضحك، الضحك من اللاشيء، بديلاً عن البكاء من كل شيء. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يخترع الفلسطينيون أسأليبَ مبتكرة لحماية أبنائهم الأبرياء من الهجمات الصاروخية الجوية والبحرية والبريّة. عائلات تقترح نوم أفرادها في غرفة الصالون. أمي تصر دائماً على أن أنام في الصالون ظناً منها أنه المكان الأكثر أمانًا. أعلل رفضي لها بأني أحب أن أنام على سريري وحدي، وأريد أن أموت وحيدة، وأن أُبعث وحدي من دون إزعاج.  

الحقيقة أنّ الأمان خدعة، لكن الأمهات يخترعن حِيَلَهنّ لحماية أبنائهنّ… ففي بلد الموت والشقاء، تخترقُ الصواريخ الجدران، وتفتّت العمارات، وتهدّ البيوت على الرؤوس إن شاءت.  

عائلاتٌ أخرى تقرر أن توزّع أفراد عائلتها في الغرف كي تكتب النجاة لسعداء الحظ من بينهم، آخرون يظنون النجاة في الجلوس على الأدراج، مقترحين أنها المكان الأكثر حصانة ضد الصواريخ!  

لكنّ كل هذه الطرائق لا تمنع قضاء الله، ولا تعني توفير الحماية لأصحابها، فآلة الحرب الهمجية تسحق كلّ من في البيوت، وتنسف الدور، وتحطم الزجاج، وتهدّ العمارات فوق رؤوس ساكنيها، ولا يبقى من الأحياء إلا من استطاع أن يلاطم بكفّه المخرز.  

ولا أستطيع أن أحدد إن كان حظّه سعيداً بأن يصبح ناجياً من المجزرة، أو أن شقاءه سيكون أبدياً حين يخرج ناجياً شاهداً على فقدان عائلته، ووحيداً من دون أهله وبيته وذكرياته. 

في بداية الأمر، كنت أسخر من هذه المحاولات، لكنني تأكدت متأخراً أنها وسيلة من وسائل الإنسان في الحفاظ على حياته ونوعه، إنها غريزة البقاء. 

إحدى المحاولات العجيبة للإنسان للحفاظ على بقائه، هي تحويل الحزن والألم إلى شيء آخر، أنا أحترف في هذه اللحظات صنع الضحك، الضحك من اللاشيء، بديلاً عن البكاء من كل شيء. 

لا تستغربوا، نحن نصنع الكوميديا من قلب التراجيديا، نحن نبكي ونخاف، لكننا نأكل ونضحك! 

ونحن تحت النار، نتعجب كيف يكيل العالم بمكيالين، وكيف تتعامل الدول معنا، فالعالم يتهمنا بالإرهاب لأنّ غزة فكرت مرة واحدة في كسر جدار مقام على أرضها لأكثر من سبعين عاماً، ولأن الفلسطينيين فكروا مرة واحدة في أن يتخذوا خطوة الهجوم، لا أن يكتفوا بالدفاع وتلقّي الصدمات.

وأكثر ما جعلنا نضحك، الكذبة المفتراة على غزة بالاغتصاب والقتل والحرق، وكأنّ غزة مجموعة من النازيين الذين يجب على العالم المتحضر ألّا يكتفي بالامتناع عن المطالبة بوقف إطلاق النار عليهم، وإنما أن يوافق المحتل على حرقهم وإبادتهم.

لكنّ هذا الفلسطيني المصرّ على الحياة، المواجه لكلّ طغاة العصر، صار الموقف العربي بالنسبة إليه الأكثر استفزازاً، هذا المشهد الذي يعمّق الإهانة للفلسطيني المدافع عن كرامة الأمة. 

كيف تتشكّل مشاعرك تحت القصف؟

ونحن تحت القصف نتلقى القنابل والصواريخ مقطوعين عن العالم، تعتمل مشاعرنا وتختلط، فإن كنا قد أضعنا حساب الأيام والتواريخ ولم يبقَ لنا سوى إحصاء ضحايانا وجرحانا، أتمنى ألا تختلط مشاعري الى حد يضيع فيه التمييز بين الخطأ والصواب. 

رغم أصداء التضامن التي تصلنا، أتمنى أن أكون مخطئة عندما أشعر أن قضية فلسطين باتت – سواء للعرب أو العالم- قضية الفلسطينيين وحدهم، وهم مصدر قلق وإزعاج للمنطقة، وينبغي عليهم أن يبحثوا عن طريق للاستسلام، يضمن للعرب نوماً هانئاً، لا يقطعه صراخ طفل تحت الأنقاض، ولا ولولة أمّ على جثة ابنها، ولا رثاء أبٍ لابنه، ولا نحيب طفلة على أخيها… هذا يزيد الألم أضعافاً مضاعفةً.

 إنّ العدوان المستمر على قطاع غزة، لا توقفه بيانات الدول، ولا تقارير منظمات حقوق الإنسان رغم تقديرنا العالي لنوايا أصحابها، إذ يزداد عنفاً وشراسة وضراوة. نحن في البيوت بتنا لا نحصل على دقيقة واحدة من دون قصف مدفعي أو جوي أو بحري، حتى الهواء الذي نتنفسه صار ملوثاً وخانقاً ومليئاً بالغبار والأتربة بفعل القصف المتواصل على البيوت والأراضي الزراعية، والجو صار يعبق برائحة البارود القاتلة، والفسفور الأبيض الحارق الذي نشمّه ونراه. 

الكل ينظر مستمتعاً الى المسرحية المعروضة بالبكاء والحزن، أبطالها الأراجوزات في غزة! وآخرون يظنون في مأساة غزة وكارثتها مسلسلاً دموياً أو فيلم أكشن يتفاعلون معه، ويندمجون وفي أيديهم صنوف المُتَع…!

والحقيقة أن هذا العدوان البغيض السافر على الفلسطينيين الأبرياء في غزة تتصاعد وتيرته يوماً بعد يوم، ويدفع ثمنه الفلسطينيون من دمهم وأولادهم وأبنائهم وبيوتهم وأرزاقهم. 

ينبغي أن يقف الجميع -شعوباً وحكومات- أمام مسؤوليتهم الأخلاقية والدينية والقومية، وأن يجبروا هذا المحتل على وقف إطلاق النار، ثم محاسبة المجرمين على الجرائم المرتكبة، رحمةً بأكثر من مليوني فلسطيني تحت لهيب النار، ومجازر الإبادة، ومحاولات التجويع والتركيع والاقتلاع.

الهروب من الخوف تحت القصف

وسط النار، يلتزم الرجال الصمت، حاملين مسبحتهم، يسبحون ويحوقلون ويتحسبون، وفي الليل يرفعون أيديهم بالصلاة والدعاء، أما النساء فينشغلن في أعمالهن. 

يبدو أننا نحن النساء نتجه إلى أشغال البيت تخفيفاً من الوطأة الثقيلة لمشاعر الخوف، وهرباً من الشعور بالجزع والقنوط. بعد انتهاء الأعمال، تتفرغ النساء في الحي لتلاوة القرآن التي لا تتوقف حتى ساعات الليل، أسمع دعاءهن بستر العورات، وأمن الروعات، وحماية الأبناء، والأمان في البيوت والأوطان. 

 آمل من الله أن يمنحني إيمانهن وقنوتهن الذي يصبّرهن على هذه النوازل التي لم نعهدها يوماً. 

 أما أنا، فمنذ فترةٍ ليست بالقصيرة، صرت أشبه الأمهات في كثير من الأشياء، منها: القلق الدائم والشعور بالمسؤولية.

أستيقظ لأطمئن على العائلة، أصنع الفطور والشاي، أنظف البيت، أتذمر من كل شيء، ومن هذه الحرب التي لا تتوقف، ومن غبار القصف الذي لا يمكن التخلص منه رغم التنظيف المستمر، أهرب من تنخيل العجين وإيقاد النار، وأتحجج بأني أكره النار وأعاني من الصداع. 

أنزوي في مطبخي لأصنع طعام الغداء في صمت، مع فنجان قهوتي، الذي أتجرعه، وأنا أسمع القصف المستمر، من دون أن أعرف خبراً بعد انقطاع الإنترنت والكهرباء. 

في هذه الحرب، عندي مهام عدة، منها: أن أقف على دوري في شحن هاتفي، وسط شواحن جوالات الحارة، وأن أنتظر شحن البطاريات على الموتور ليتسنى لي تشغيل التلفاز عليها لمشاهدة نشرات الأخبار التي تنقل مشاهد الدم والركام.

كما أتسلى بغسيل الملابس على اليد، فالغسّالات أصبحت رفاهية لا يتمتع بها أبناء الذوات في غزة، والصعود إلى السطح في الطابق الرابع؛ لنشرها على الحبال. أمي توصيني بتغطية شعري، بالترغيب والترهيب من الموت من دون غطاء، وأنا أقول لها إنّهم قد ستروا الأسيرات، حتماً سيغطيني الشباب بعد موتي. 

يحاولون تخويفي من القناصة المتمركزين على البنايات العالية في حي “التوام” غرب جباليا، بعد الاجتياح البري، لكنّني لا أخاف، وأقول مازحة: “قناصة مش قناصة؛ ارجع ورا خلي حماس تطخني”، في تذكير ساخر بفيديو دحلان الشهير أيام انقلاب غزة (محمد دحلان؛ المسؤول الأمني السابق في السلطة الفلسطينية). والحق أقول لكم، إن طلوعي على السطح يعني الحصول على أخبار الباقين من الحيّ: 

قُصِف منزل جارنا المقابل لنا، ويبدو أنهم لم يعودوا إليه حتى اليوم، ما زال غسيلهم باقياً على الحبال. 

 جاري في العمارة المقابلة يصلح بعض الأسلاك على السطح، يبدو أنه يحاول الحصول على إشارة التلفاز. 

جارتي تنشر ملابس ملوّنة وكثيرة على غير العادة، هذا يعني أنّ بعضاً من أهلها قد جاء نازحاً. 

جاري في المبنى الخلفي يتفقد خزّانات المياه، نأمل ألا تكون قد أصابتها الشظايا؛ لأن الحصول على الماء صار أصعب من التنقيب عن النفط في الصحراء.

جارتي في المبنى نفسه ما زالت في البيت، تشرب قهوتها على الشرقة، وملامح وجهها تشي بالخوف والحزن، كلنا نشترك في الخوف نفسه. 

جاراتي في المبنى المجاور غادرن إلى الجنوب، لم أعدْ أسمع شتائمهن لأبنائهن، ولا خلافاتهنّ مع أزواجهن.

صعودي إلى السطح يعني أيضاً الحصول على أخبار أماكن القصف، أنظر إلى الأحياء مثل وائل الدحدوح (مراسل قناة الجزيرة في غزة)، كما تصفني أختي، وأدلهم على المكان تبعاً للرصد! 

تتعجب أختي من معرفتي، أعلّل ذلك بالذكاء المكاني، والموهبة التي كان يجب أن أستغلها، إذ كان من الممكن أن أكون صحافية لولا معارضة الأهل، وهذه وسيلة منّي لاستعراض القوة على أخواتي، ونبش الماضي وتذكير أهلي ببقية الحلم الذي راح منّي في غمرة العادات والتقاليد. 

الحقيقة أنّ كلّ غزة بكتلها الإسمنتية التي تملأ البلاد هي شبر ونصف الشبر، يمكن للمقيم فيها أن يعرف كل أخبارها وأماكنها وأسماء أحيائها، والعوائل التي تسكن فيها.

أعترف أن لدي طاقة سلبية يجب أن تتفرغ، وإلا وزعتُها على الحيّ الذي سيسمع صراخي وبكائي؛ لذلك أنا مثل أسدٍ، يعملُ بجدٍّ، ولا يخاف شيئاً في النهار فقط، وإذا حلّ الليل فإنني ألف جسدي الذي يصبح قنفذاً يتكوّر على نفسه خوفاً، ويندبُ حال غزة بصمت الباكي المترقّب المتوجّس خيفةً.

 لم نعهد حرباً مثل هذه الحرب، ولم نخف يوماً كما صرنا نخاف كل يوم، لكننا عفاريت نستيقظ مرة أخرى، ونطلع مع الصباح من تحت الركام والدمار، في أسلوب غزة المعهود في البقاء رغم بطش الغزاة.

وهذه الحرب، تثقل القلب، وتُصدئ الروح، وتذيب الجسد. وهذه الحكاية لا تنتهي، إذا كُتبت لنا الحياة.

إحدى المحاولات العجيبة للإنسان للحفاظ على بقائه، هي تحويل الحزن والألم إلى شيء آخر، أنا أحترف في هذه اللحظات صنع الضحك، الضحك من اللاشيء، بديلاً عن البكاء من كل شيء. 

يخترع الفلسطينيون أسأليبَ مبتكرة لحماية أبنائهم الأبرياء من الهجمات الصاروخية الجوية والبحرية والبريّة. عائلات تقترح نوم أفرادها في غرفة الصالون. أمي تصر دائماً على أن أنام في الصالون ظناً منها أنه المكان الأكثر أمانًا. أعلل رفضي لها بأني أحب أن أنام على سريري وحدي، وأريد أن أموت وحيدة، وأن أُبعث وحدي من دون إزعاج.  

الحقيقة أنّ الأمان خدعة، لكن الأمهات يخترعن حِيَلَهنّ لحماية أبنائهنّ… ففي بلد الموت والشقاء، تخترقُ الصواريخ الجدران، وتفتّت العمارات، وتهدّ البيوت على الرؤوس إن شاءت.  

عائلاتٌ أخرى تقرر أن توزّع أفراد عائلتها في الغرف كي تكتب النجاة لسعداء الحظ من بينهم، آخرون يظنون النجاة في الجلوس على الأدراج، مقترحين أنها المكان الأكثر حصانة ضد الصواريخ!  

لكنّ كل هذه الطرائق لا تمنع قضاء الله، ولا تعني توفير الحماية لأصحابها، فآلة الحرب الهمجية تسحق كلّ من في البيوت، وتنسف الدور، وتحطم الزجاج، وتهدّ العمارات فوق رؤوس ساكنيها، ولا يبقى من الأحياء إلا من استطاع أن يلاطم بكفّه المخرز.  

ولا أستطيع أن أحدد إن كان حظّه سعيداً بأن يصبح ناجياً من المجزرة، أو أن شقاءه سيكون أبدياً حين يخرج ناجياً شاهداً على فقدان عائلته، ووحيداً من دون أهله وبيته وذكرياته. 

في بداية الأمر، كنت أسخر من هذه المحاولات، لكنني تأكدت متأخراً أنها وسيلة من وسائل الإنسان في الحفاظ على حياته ونوعه، إنها غريزة البقاء. 

إحدى المحاولات العجيبة للإنسان للحفاظ على بقائه، هي تحويل الحزن والألم إلى شيء آخر، أنا أحترف في هذه اللحظات صنع الضحك، الضحك من اللاشيء، بديلاً عن البكاء من كل شيء. 

لا تستغربوا، نحن نصنع الكوميديا من قلب التراجيديا، نحن نبكي ونخاف، لكننا نأكل ونضحك! 

ونحن تحت النار، نتعجب كيف يكيل العالم بمكيالين، وكيف تتعامل الدول معنا، فالعالم يتهمنا بالإرهاب لأنّ غزة فكرت مرة واحدة في كسر جدار مقام على أرضها لأكثر من سبعين عاماً، ولأن الفلسطينيين فكروا مرة واحدة في أن يتخذوا خطوة الهجوم، لا أن يكتفوا بالدفاع وتلقّي الصدمات.

وأكثر ما جعلنا نضحك، الكذبة المفتراة على غزة بالاغتصاب والقتل والحرق، وكأنّ غزة مجموعة من النازيين الذين يجب على العالم المتحضر ألّا يكتفي بالامتناع عن المطالبة بوقف إطلاق النار عليهم، وإنما أن يوافق المحتل على حرقهم وإبادتهم.

لكنّ هذا الفلسطيني المصرّ على الحياة، المواجه لكلّ طغاة العصر، صار الموقف العربي بالنسبة إليه الأكثر استفزازاً، هذا المشهد الذي يعمّق الإهانة للفلسطيني المدافع عن كرامة الأمة. 

كيف تتشكّل مشاعرك تحت القصف؟

ونحن تحت القصف نتلقى القنابل والصواريخ مقطوعين عن العالم، تعتمل مشاعرنا وتختلط، فإن كنا قد أضعنا حساب الأيام والتواريخ ولم يبقَ لنا سوى إحصاء ضحايانا وجرحانا، أتمنى ألا تختلط مشاعري الى حد يضيع فيه التمييز بين الخطأ والصواب. 

رغم أصداء التضامن التي تصلنا، أتمنى أن أكون مخطئة عندما أشعر أن قضية فلسطين باتت – سواء للعرب أو العالم- قضية الفلسطينيين وحدهم، وهم مصدر قلق وإزعاج للمنطقة، وينبغي عليهم أن يبحثوا عن طريق للاستسلام، يضمن للعرب نوماً هانئاً، لا يقطعه صراخ طفل تحت الأنقاض، ولا ولولة أمّ على جثة ابنها، ولا رثاء أبٍ لابنه، ولا نحيب طفلة على أخيها… هذا يزيد الألم أضعافاً مضاعفةً.

 إنّ العدوان المستمر على قطاع غزة، لا توقفه بيانات الدول، ولا تقارير منظمات حقوق الإنسان رغم تقديرنا العالي لنوايا أصحابها، إذ يزداد عنفاً وشراسة وضراوة. نحن في البيوت بتنا لا نحصل على دقيقة واحدة من دون قصف مدفعي أو جوي أو بحري، حتى الهواء الذي نتنفسه صار ملوثاً وخانقاً ومليئاً بالغبار والأتربة بفعل القصف المتواصل على البيوت والأراضي الزراعية، والجو صار يعبق برائحة البارود القاتلة، والفسفور الأبيض الحارق الذي نشمّه ونراه. 

الكل ينظر مستمتعاً الى المسرحية المعروضة بالبكاء والحزن، أبطالها الأراجوزات في غزة! وآخرون يظنون في مأساة غزة وكارثتها مسلسلاً دموياً أو فيلم أكشن يتفاعلون معه، ويندمجون وفي أيديهم صنوف المُتَع…!

والحقيقة أن هذا العدوان البغيض السافر على الفلسطينيين الأبرياء في غزة تتصاعد وتيرته يوماً بعد يوم، ويدفع ثمنه الفلسطينيون من دمهم وأولادهم وأبنائهم وبيوتهم وأرزاقهم. 

ينبغي أن يقف الجميع -شعوباً وحكومات- أمام مسؤوليتهم الأخلاقية والدينية والقومية، وأن يجبروا هذا المحتل على وقف إطلاق النار، ثم محاسبة المجرمين على الجرائم المرتكبة، رحمةً بأكثر من مليوني فلسطيني تحت لهيب النار، ومجازر الإبادة، ومحاولات التجويع والتركيع والاقتلاع.

الهروب من الخوف تحت القصف

وسط النار، يلتزم الرجال الصمت، حاملين مسبحتهم، يسبحون ويحوقلون ويتحسبون، وفي الليل يرفعون أيديهم بالصلاة والدعاء، أما النساء فينشغلن في أعمالهن. 

يبدو أننا نحن النساء نتجه إلى أشغال البيت تخفيفاً من الوطأة الثقيلة لمشاعر الخوف، وهرباً من الشعور بالجزع والقنوط. بعد انتهاء الأعمال، تتفرغ النساء في الحي لتلاوة القرآن التي لا تتوقف حتى ساعات الليل، أسمع دعاءهن بستر العورات، وأمن الروعات، وحماية الأبناء، والأمان في البيوت والأوطان. 

 آمل من الله أن يمنحني إيمانهن وقنوتهن الذي يصبّرهن على هذه النوازل التي لم نعهدها يوماً. 

 أما أنا، فمنذ فترةٍ ليست بالقصيرة، صرت أشبه الأمهات في كثير من الأشياء، منها: القلق الدائم والشعور بالمسؤولية.

أستيقظ لأطمئن على العائلة، أصنع الفطور والشاي، أنظف البيت، أتذمر من كل شيء، ومن هذه الحرب التي لا تتوقف، ومن غبار القصف الذي لا يمكن التخلص منه رغم التنظيف المستمر، أهرب من تنخيل العجين وإيقاد النار، وأتحجج بأني أكره النار وأعاني من الصداع. 

أنزوي في مطبخي لأصنع طعام الغداء في صمت، مع فنجان قهوتي، الذي أتجرعه، وأنا أسمع القصف المستمر، من دون أن أعرف خبراً بعد انقطاع الإنترنت والكهرباء. 

في هذه الحرب، عندي مهام عدة، منها: أن أقف على دوري في شحن هاتفي، وسط شواحن جوالات الحارة، وأن أنتظر شحن البطاريات على الموتور ليتسنى لي تشغيل التلفاز عليها لمشاهدة نشرات الأخبار التي تنقل مشاهد الدم والركام.

كما أتسلى بغسيل الملابس على اليد، فالغسّالات أصبحت رفاهية لا يتمتع بها أبناء الذوات في غزة، والصعود إلى السطح في الطابق الرابع؛ لنشرها على الحبال. أمي توصيني بتغطية شعري، بالترغيب والترهيب من الموت من دون غطاء، وأنا أقول لها إنّهم قد ستروا الأسيرات، حتماً سيغطيني الشباب بعد موتي. 

يحاولون تخويفي من القناصة المتمركزين على البنايات العالية في حي “التوام” غرب جباليا، بعد الاجتياح البري، لكنّني لا أخاف، وأقول مازحة: “قناصة مش قناصة؛ ارجع ورا خلي حماس تطخني”، في تذكير ساخر بفيديو دحلان الشهير أيام انقلاب غزة (محمد دحلان؛ المسؤول الأمني السابق في السلطة الفلسطينية). والحق أقول لكم، إن طلوعي على السطح يعني الحصول على أخبار الباقين من الحيّ: 

قُصِف منزل جارنا المقابل لنا، ويبدو أنهم لم يعودوا إليه حتى اليوم، ما زال غسيلهم باقياً على الحبال. 

 جاري في العمارة المقابلة يصلح بعض الأسلاك على السطح، يبدو أنه يحاول الحصول على إشارة التلفاز. 

جارتي تنشر ملابس ملوّنة وكثيرة على غير العادة، هذا يعني أنّ بعضاً من أهلها قد جاء نازحاً. 

جاري في المبنى الخلفي يتفقد خزّانات المياه، نأمل ألا تكون قد أصابتها الشظايا؛ لأن الحصول على الماء صار أصعب من التنقيب عن النفط في الصحراء.

جارتي في المبنى نفسه ما زالت في البيت، تشرب قهوتها على الشرقة، وملامح وجهها تشي بالخوف والحزن، كلنا نشترك في الخوف نفسه. 

جاراتي في المبنى المجاور غادرن إلى الجنوب، لم أعدْ أسمع شتائمهن لأبنائهن، ولا خلافاتهنّ مع أزواجهن.

صعودي إلى السطح يعني أيضاً الحصول على أخبار أماكن القصف، أنظر إلى الأحياء مثل وائل الدحدوح (مراسل قناة الجزيرة في غزة)، كما تصفني أختي، وأدلهم على المكان تبعاً للرصد! 

تتعجب أختي من معرفتي، أعلّل ذلك بالذكاء المكاني، والموهبة التي كان يجب أن أستغلها، إذ كان من الممكن أن أكون صحافية لولا معارضة الأهل، وهذه وسيلة منّي لاستعراض القوة على أخواتي، ونبش الماضي وتذكير أهلي ببقية الحلم الذي راح منّي في غمرة العادات والتقاليد. 

الحقيقة أنّ كلّ غزة بكتلها الإسمنتية التي تملأ البلاد هي شبر ونصف الشبر، يمكن للمقيم فيها أن يعرف كل أخبارها وأماكنها وأسماء أحيائها، والعوائل التي تسكن فيها.

أعترف أن لدي طاقة سلبية يجب أن تتفرغ، وإلا وزعتُها على الحيّ الذي سيسمع صراخي وبكائي؛ لذلك أنا مثل أسدٍ، يعملُ بجدٍّ، ولا يخاف شيئاً في النهار فقط، وإذا حلّ الليل فإنني ألف جسدي الذي يصبح قنفذاً يتكوّر على نفسه خوفاً، ويندبُ حال غزة بصمت الباكي المترقّب المتوجّس خيفةً.

 لم نعهد حرباً مثل هذه الحرب، ولم نخف يوماً كما صرنا نخاف كل يوم، لكننا عفاريت نستيقظ مرة أخرى، ونطلع مع الصباح من تحت الركام والدمار، في أسلوب غزة المعهود في البقاء رغم بطش الغزاة.

وهذه الحرب، تثقل القلب، وتُصدئ الروح، وتذيب الجسد. وهذه الحكاية لا تنتهي، إذا كُتبت لنا الحياة.

|

اشترك بنشرتنا البريدية