fbpx

نحن الرقم صفر في زلزال تركيا 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

هذا المصير الذي طالما هربنا منه لسنوات طويلة، كان قدراً محتوماً علينا، لم نستطع الهروب منه مع زلزال مدمّر جعلنا جميعاً تحت الأنقاض.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أذكر اليوم الأول الذي وصلتُ فيه إلى منزل في تركيا، شعرت حينها بالأمان، كنت فتاة شابة هاربة من حرب دمرت ملايين السوريين وهجّرتهم، تبحث عن منزل هادئ وفرشة تنام عليها لساعات طويلة، من دون أن يوقظها أحد على صوت يصرخ “إجت الطيارة”. 

هذه الجملة كنت أسمعها حينها من عمتي، التي توفيت قبل أيام في زلزال مدينة أنطاكيا، وهي لا تزال حتى لحظة كتابتي هذا المقال تحت الركام.

اعتادت عمتي التجوّل بين المنازل، والبحث عنا جميعاً لتوقظنا، وبصوت مرتفع وخائف ومرتجف تصرخ “إجت الطيارة يا عمتي اطلعوا من البيوت”، نعم كنا نخاف من الموت تحت الركام، خوفنا الأكبر كان أن تقصفنا براميل الأسد ونبقى تحت الركام، كنا نهرب من المنزل ليس خوفاً من الموت، بل من طريقة الموت تحت الأنقاض، أن نبقى لأيام عالقين نختنق رويداً رويداً.

هذا المصير الذي طالما هربنا منه لسنوات طويلة، كان قدراً محتوماً علينا، لم نستطع الهروب منه مع زلزال مدمّر جعلنا جميعاً تحت الأنقاض.

أنطاكيا ليست مدينة عادية بالنسبة إلي، ليست مجرد ملجأ لهاربة من الحرب، هي أكثر من ذلك بكثير، هي الأمان، والمكان الوحيد الذي استطعت التجوّل فيه بحرية من دون النظر نحو السماء انتظاراً لطائرة الموت، هي المكان الذي تمكّنت فيه من فعل كل الأشياء التي أحبها بمتعة ومن دون عجل، هي المدينة الوحيدة التي نظّمت فيها مواعيدي حسب الساعة، بغض النظر عن انطفاء المولّد أو قدوم الطائرة.

 “إجت الطيارة يا عمتي”، لكننا لم ننجُ كما استطعنا في كل مرة حذّرتنا فيها سابقاً… “إجت الطيارة ياعمتي”، لكن لم تبقَ منازل لنهرب منها، لم يبقَ لنا سوى الصفر.

قبل هذه المدينة لم تكن لدينا ساعات، كانت مواعيدنا مرتبطة بمواعيد القصف وقدوم الطائرة، حتى سهراتنا كانت تبدأ بعد ذهاب الطائرة، شرب القهوة وكل التفاصيل الأخرى كانت مجدولة وفق مواعيد القصف.

ماذا عن اختيار مدن اللجوء، بخاصة بالنسبة إلينا نحن السوريين الهاربين من مدينة اللاذقية، لقد توزعنا في مرسين حيث البحر، وفي أنطاكيا المحاذية لحدود اللاذقية من الجانب السوري، مدينة تشبه لاذقيتنا كثيراً، حتى أننا غيرنا أسماء شوارعها وبعض معالمها، فبات هناك دوار، السراميك والهوندا (نسبة الى شبهه بدوار في مدينة اللاذقية يحمل الاسم نفسه)، وباتت هناك حارة اسمها حارة اللوادقة، حيث تتجمع فيها عشرات الأسر من مدينتي.

نحن الذين خرجنا نحو هذه المدينة سيراً على الأقدام عبر الغابات والحدود، حاملين بعض الملابس، اليوم نخرج منها نحو بلادنا عائدين، مع فارق بسيط هو أن هناك سيارات تحمل توابيتنا بداخلها، خرجنا أسماء وعدنا أرقاماً.

سأحدّثكم أيضاً عن سير الزمن بعد الزلزال، وحالة التشرد والحيرة والعودة مجدداً إلى نقطة البداية، إلى الصفر، ذلك الصفر الذي رافق حياة عشرات السوريين الذين هربوا من مناطق النظام نحو المنطقة المحررة، وبدأوا من الصفر، فأسسوا حياة جديدة، لكنهم بعد سنوات، هجروا أيضاً إلى أنطاكيا.

ومجدداً أسسوا أيضاً من الصفر منازل، وفتحوا محلات وأعمالاً، ونجحوا في العثور على عمل، وأخيراً بدأ أطفالهم بالدراسة، ليعودوا الآن إلى الصفر.

نعم نحن الرقم صفر، ليس فقط هو عنوان حياتنا، بل في حياة الآخرين أيضاً وفي نظر الجميع… لا تستغربوا دموعنا الكثيرة وحزننا الشديد على منازل هي ليست لنا أصلاً، دفعنا ثمن استئجارها بأيام عمل طويلة ومرهقة، وبأعمال شاقة تركها لنا الأتراك، نعم لا تستغربوا نحن نبكي صفرنا الذي وقفت عنده الحياة، نحن نبكي ألمنا وقهرنا، وحظّنا المتعثّر.

تعلّقنا بأنطاكياً كثيراً، على رغم أنها كانت سجناً كبيراً لنا، كنا ممنوعين من الخروج منها إلا بإذن سفر، وغالباً لا ينجح أي منا في الحصول عليه، نبكي اليوم غباءنا حين فرحنا بوصولنا إلى هذه المدينة معتقدين أننا نجونا، في الحقيقة نحن فقط أجّلنا موتنا وغيرنا طريقته، نبكي لأننا لم نكن تحت ركام منازلنا، لأننا لم نُدفن بأرضنا.

أريد أن أخبر عمتي أن الطائرة قد أتت “إجت الطيارة يا عمتي”، أعرف أنك عاجزة هذه المرة عن الهرب، ولكن لا تخافي، لأنها أتت بمهمة مختلفة، ربما للتصوير، أو لنقل بعض المساعدات أو ربما تحمل متطوعين ليساعدوا في البحث عنك… “إجت الطيارة يا عمتي”، لكننا لم ننجُ كما استطعنا في كل مرة حذّرتنا فيها سابقاً… “إجت الطيارة ياعمتي”، لكن لم تبقَ منازل لنهرب منها، لم يبقَ لنا سوى الصفر.

هاني عضاضة | 29.06.2024

عن الجندي الإسرائيلي ومسار نزع الأنسنة عن الفلسطينيين

ما الذي يقود عدداً متزايداً من الجنود الإسرائيليين، إلى ارتكاب الفظاعات في غزة وتوثيقها بأنفسهم؟ وأية استراتيجيات تتبعها إسرائيل لتشكيل الذات الإنسانية الإسرائيلية وصوغها، لتنتج هذا النموذج للجندي الذي يرتكب أعمالاً مروعة؟

هذا المصير الذي طالما هربنا منه لسنوات طويلة، كان قدراً محتوماً علينا، لم نستطع الهروب منه مع زلزال مدمّر جعلنا جميعاً تحت الأنقاض.

أذكر اليوم الأول الذي وصلتُ فيه إلى منزل في تركيا، شعرت حينها بالأمان، كنت فتاة شابة هاربة من حرب دمرت ملايين السوريين وهجّرتهم، تبحث عن منزل هادئ وفرشة تنام عليها لساعات طويلة، من دون أن يوقظها أحد على صوت يصرخ “إجت الطيارة”. 

هذه الجملة كنت أسمعها حينها من عمتي، التي توفيت قبل أيام في زلزال مدينة أنطاكيا، وهي لا تزال حتى لحظة كتابتي هذا المقال تحت الركام.

اعتادت عمتي التجوّل بين المنازل، والبحث عنا جميعاً لتوقظنا، وبصوت مرتفع وخائف ومرتجف تصرخ “إجت الطيارة يا عمتي اطلعوا من البيوت”، نعم كنا نخاف من الموت تحت الركام، خوفنا الأكبر كان أن تقصفنا براميل الأسد ونبقى تحت الركام، كنا نهرب من المنزل ليس خوفاً من الموت، بل من طريقة الموت تحت الأنقاض، أن نبقى لأيام عالقين نختنق رويداً رويداً.

هذا المصير الذي طالما هربنا منه لسنوات طويلة، كان قدراً محتوماً علينا، لم نستطع الهروب منه مع زلزال مدمّر جعلنا جميعاً تحت الأنقاض.

أنطاكيا ليست مدينة عادية بالنسبة إلي، ليست مجرد ملجأ لهاربة من الحرب، هي أكثر من ذلك بكثير، هي الأمان، والمكان الوحيد الذي استطعت التجوّل فيه بحرية من دون النظر نحو السماء انتظاراً لطائرة الموت، هي المكان الذي تمكّنت فيه من فعل كل الأشياء التي أحبها بمتعة ومن دون عجل، هي المدينة الوحيدة التي نظّمت فيها مواعيدي حسب الساعة، بغض النظر عن انطفاء المولّد أو قدوم الطائرة.

 “إجت الطيارة يا عمتي”، لكننا لم ننجُ كما استطعنا في كل مرة حذّرتنا فيها سابقاً… “إجت الطيارة ياعمتي”، لكن لم تبقَ منازل لنهرب منها، لم يبقَ لنا سوى الصفر.

قبل هذه المدينة لم تكن لدينا ساعات، كانت مواعيدنا مرتبطة بمواعيد القصف وقدوم الطائرة، حتى سهراتنا كانت تبدأ بعد ذهاب الطائرة، شرب القهوة وكل التفاصيل الأخرى كانت مجدولة وفق مواعيد القصف.

ماذا عن اختيار مدن اللجوء، بخاصة بالنسبة إلينا نحن السوريين الهاربين من مدينة اللاذقية، لقد توزعنا في مرسين حيث البحر، وفي أنطاكيا المحاذية لحدود اللاذقية من الجانب السوري، مدينة تشبه لاذقيتنا كثيراً، حتى أننا غيرنا أسماء شوارعها وبعض معالمها، فبات هناك دوار، السراميك والهوندا (نسبة الى شبهه بدوار في مدينة اللاذقية يحمل الاسم نفسه)، وباتت هناك حارة اسمها حارة اللوادقة، حيث تتجمع فيها عشرات الأسر من مدينتي.

نحن الذين خرجنا نحو هذه المدينة سيراً على الأقدام عبر الغابات والحدود، حاملين بعض الملابس، اليوم نخرج منها نحو بلادنا عائدين، مع فارق بسيط هو أن هناك سيارات تحمل توابيتنا بداخلها، خرجنا أسماء وعدنا أرقاماً.

سأحدّثكم أيضاً عن سير الزمن بعد الزلزال، وحالة التشرد والحيرة والعودة مجدداً إلى نقطة البداية، إلى الصفر، ذلك الصفر الذي رافق حياة عشرات السوريين الذين هربوا من مناطق النظام نحو المنطقة المحررة، وبدأوا من الصفر، فأسسوا حياة جديدة، لكنهم بعد سنوات، هجروا أيضاً إلى أنطاكيا.

ومجدداً أسسوا أيضاً من الصفر منازل، وفتحوا محلات وأعمالاً، ونجحوا في العثور على عمل، وأخيراً بدأ أطفالهم بالدراسة، ليعودوا الآن إلى الصفر.

نعم نحن الرقم صفر، ليس فقط هو عنوان حياتنا، بل في حياة الآخرين أيضاً وفي نظر الجميع… لا تستغربوا دموعنا الكثيرة وحزننا الشديد على منازل هي ليست لنا أصلاً، دفعنا ثمن استئجارها بأيام عمل طويلة ومرهقة، وبأعمال شاقة تركها لنا الأتراك، نعم لا تستغربوا نحن نبكي صفرنا الذي وقفت عنده الحياة، نحن نبكي ألمنا وقهرنا، وحظّنا المتعثّر.

تعلّقنا بأنطاكياً كثيراً، على رغم أنها كانت سجناً كبيراً لنا، كنا ممنوعين من الخروج منها إلا بإذن سفر، وغالباً لا ينجح أي منا في الحصول عليه، نبكي اليوم غباءنا حين فرحنا بوصولنا إلى هذه المدينة معتقدين أننا نجونا، في الحقيقة نحن فقط أجّلنا موتنا وغيرنا طريقته، نبكي لأننا لم نكن تحت ركام منازلنا، لأننا لم نُدفن بأرضنا.

أريد أن أخبر عمتي أن الطائرة قد أتت “إجت الطيارة يا عمتي”، أعرف أنك عاجزة هذه المرة عن الهرب، ولكن لا تخافي، لأنها أتت بمهمة مختلفة، ربما للتصوير، أو لنقل بعض المساعدات أو ربما تحمل متطوعين ليساعدوا في البحث عنك… “إجت الطيارة يا عمتي”، لكننا لم ننجُ كما استطعنا في كل مرة حذّرتنا فيها سابقاً… “إجت الطيارة ياعمتي”، لكن لم تبقَ منازل لنهرب منها، لم يبقَ لنا سوى الصفر.

|

اشترك بنشرتنا البريدية