fbpx

نقتل طفلاً ونترك آخر…عن مجازر السودان الغائبة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“كانوا يدخلون المنازل ويقولون للنساء من كان لديها طفلان سنقتل واحداً ونترك الآخر، ومن كان لديها خمسة سنقتل ثلاثة ونترك اثنين وهكذا”، هذه كانت تعليمات قائدهم، حيث أمرهم بقتل كل رجل فوق 18 عاماً وأقل من 40.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

التقرير تم إنجازه بالتعاون بين “frontline in focus” و”درج”

وصل الطبيب ماهر (اسم مستعار) مسرعاً إلى أحد جسور القرية، وصار يمشي وسط مجموعة كبيرة من الجثث، بحثاً عن جثة أخيه عبدالله (اسم مستعار) إلى أن وجدها ملقاة على الأرض يقول: “عثرت على جثة أخي، وقربها على جثتي أخوين صديقين لنا، وعلى بعد مترين أو ثلاثة منهما، وجدت جثة أخيهم الثالث غارقة بدمائها” يقول ماهر.

لحظات عصيبة يصفها ماهر، عن مشاهد مجزرة ود النورة في ولاية الجزيرة في السودان: “عندما وصلت فُجعت بالمنظر، عدد القتلى كان كبيراً، كانت لحظة عصيبة أن أضطر إلى العبور فوق الجثث كي أصل إلى جثة أخي”.

تعتبر قرية ود النورة، من أكبر القرى في ولاية الجزيرة، عدد سكانها حوالي 30 ألف نسمة، وكان فيها سوق ومستشفى كبيران ومدارس مؤهلة ومراكز خدمية، والمجزرة التي حصلت فيها، ليست الأولى ولا الوحيدة، التي وقعت منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، بل سبقها وتبعها الكثير من المجازر، والمتهم الأكبر بارتكاب هذه المجازر، هو “قوات الدعم السريع” التي قتلت؛ بحسب بيان للخارجية السودانية، 40 مدنياً خلال الأيام الماضية، جراء تنفيذ هجمات في ضواحي مدينة سنار جنوب شرق البلاد.

تفاصيل مجزرة ود النورة

ارتكبت “الدعم السريع” مجزرة ود النورة في 5 يونيو/ حزيران الماضي، قبل المجزرة بيوم واحد، دخلت “القوات” القرية وخرجت سريعاً، ثم عاودت الكرة مرة أخرى، وفي تمام الساعة الرابعة فجراً دخلت برتل من العربات العسكرية، يتقدمها موكب من الدراجات النارية، وبدأ إطلاق النار عشوائياً، تلاه إطلاق للقذائف المدفعية على المنازل والمستشفى والمراكز الخدمية، كما استخدمت مضادات الطائرات والأسلحة الثقيلة، فقتلت أكثر من 100 مدني بينهم 35 طفلاً وأكثر من 100 جريح، بالإضافة إلى عدد من المفقودين، في حين تقول مصادر إن عدد القتلى أعلى بكثير، ولكن انقطاع الاتصال حال دون توثيق أسماء القتلى.

مديرة “اليونيسف” كاترين راسل، قالت في بيان حول المجزرة: “شعرت بالرعب من التقارير، التي تفيد بمقتل ما لا يقل عن 35 طفلاً وإصابة أكثر من 20 آخرين، خلال الهجوم الذي وقع، الأربعاء، في ود النورة”.

إعدام للكوادر الطبية والملابس بديل للضمادات

“نجوت منهم لأن زيي الذي ارتديه لا يوحي بأنني طبيب” يقول ماهر، ويضيف: “كان هناك استهداف للكوادر الطبية، لأنهم يعالجون جرحى الجيش، بحسب أقوال قوات الدعم”، ويردف: “هناك طبيب آخر نجا من مركز أولاد حجاز الطبي، لأن المواطنين ساعدوه في تغيير ملابسه، ولاحقاً وجدنا ممرضين مصابين بكسور في الأيدي والأرجل”.

يختفي صوت ماهر خلال حديثنا معه، بعد أن ينتابه ألم وحزن شديدان، وهو يستذكر ما حدث في ذلك اليوم، ويتابع سرد الأحداث: “مع ساعات الفجر الأولى بدأ الهجوم، وكان هذه المرة بقوة عددية أكبر، وأسلحة أثقل، بحجة وجود قوات تابعة للجيش، مع العلم أن هذه القرية لا يوجد فيها أي حامية عسكرية”.

كان الهدف تدمير ود النورة بالذات وترهيبها، فقد كانت القوات المهاجمة تردد عبارة “كل القوة نورة جوة”، وهو تعبير عسكري يكشف تصميمهم على اقتحام القرية، يقول ماهر: “ظلوا يطلقون النار، ويقتحمون المنازل بغرض السرقة، يدخلون ويخرجون على شكل مجموعات، يرهبون أصحاب المساكن ثم يقتلونهم، لقد كانوا يقصدون قرية ود النورة بعينها، حتى لو أنكر متحدثهم الرسمي ذلك”.

يوجد في ود النورة أربعة مراكز طبية، واحد تخصص نساء وتوليد، والباقي مراكز طبية عامة، بالإضافة إلى المستشفى الكبير، الذي كان يحوي مجمع عمليات وأقساماً طبية مختلفة، نهبتها “قوات الدعم” كلها، ولم تستثنِ الأموال والمعدات الطبية والأدوية، وحين هدأت الأمور كان عدد الجرحى كبيراً جداً، بحيث عجز ماهر عن تقديم المساعدات اللازمة لهم: “بعد سرقة الأدوية والإسعافات الأولية، صرت استخدم الملابس لتضميد الجروح، فلا شاش ولا مواد للتخدير ولا خيوط للجروح”.

حصلت عمليات إعدام منظمة للكوادر الطبية، يتحدث ماهر عن الإعدامات التي شاهدها بعينيه: “اقتحموا المستشفى، وجدوا ممرض العمليات محمد جمعة بلال، الذي كان يساعد النساء، ممن لديهم عمليات ولادة قيصرية، على النزوح خارج القرية، فقتلوه وقتلوا معه مرافقاً لأحد المرضى، كما قتلوا صيدلياً في مستوصف الدكتور توفيق، يدعى أمين ومساعده يدعى طارق ونهبوا أموالهما، كذلك الأمر في مركز أولاد حجاز الطبي، وجدوا أحد الكوادر الطبية هناك اسمه حيدر مقتولاً، أما الدكتور محمود فهو طبيب أسنان، يشهد له بطيب الخلق وحسن تعامله مع المرضى في قرية ود النورة والقرى المجاورة، قتلوه أيضاً بدم بارد”.

الضرر الذي أحدثه هجوم “الدعم السريع”، لم يقتصر على الكوادر الطبية والمشافي، بل تجاوزها إلى قطع الطرق بين ود النورة والمدن والقرى المحيطة بها، وهو ما يقول  ماهر إنه كان سبباً في ارتفاع أعداد القتلى: “نحن في نهاية الأمر مستشفى في قرية، كنا سابقاً نسعف الحالة أولاً، ثم ننقلها إلى مستشفى في المدينة، تكون كبيرة كمستشفى المناقل مثلاً، ولكن بعد هذا الهجوم، قطعت الطرق وفقدنا الأدوية، للأسف توفي كثيرون قبل أن يصلوا إلى المستشفيات خارج قرية ود النورة”.

عاد ماهر إلى منزله بعد انتهاء الهجوم، ليجد أنه قد تعرض للهجوم أيضاً، وأن أخوته ووالدته قد تعرضوا للضرب، وسرق كل ما يملكونه من ذهب وأثاث وسيارات، غير أنه لم يجد أخاه عبد الله، وبقي يبحث عنه، إلى أن أتاه شخص وأخبره أن جثته ملقاة قرب أحد جسور القرية، يقول: “ذهبت مسرعاً، وعندما وصلت فجعت بالمنظر، فعدد القتلى كان كبيراً، وكانت لحظة عصيبة، أن اضطر إلى العبور فوق الجثث حتى أصل إلى أخي، كان أكثرنا طيبة وكان يحضر للزواج يوم العيد…بموته قتلونا جميعاً”.

في اليوم التالي للمجزرة، أظهرت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، دفن العشرات من المواطنين في ساحة عامة، قيل إنه ملعب لكرة القدم في القرية، فيما ندد أهالي القرية بالقوات المسلحة السودانية، لعدم إرسالها أي تعزيزات للدفاع عن القرية، خلال الهجوم الثاني، على الرغم من طلب المساعدة.

رواية “الدعم السريع” جاءت سريعاً، حيث أصدروا بياناً قالوا فيه: “إن في هذه القرية مستنفرين وأسلحة”، وهذا ما أكده قائدهم محمد حمدان دقلو في خطابه المبثوث بمناسبة عيد الأضحى، بقوله إن قواته “واجهت الجيش والمستنفرين وكتائب الإسلاميين وجهاز الأمن”، حسب تعبيره.

“عندما وصلت فُجعت بالمنظر، عدد القتلى كان كبيراً، كانت لحظة عصيبة أن أضطر إلى العبور فوق الجثث كي أصل إلى جثة أخي”.

مقابر مفتوحة أمام المنازل

ما إن تعود “شبكات الإنترنت المقطوعة سيشهد العالم جرائم يندى لها الجبين، حيث تحولت البيوت والمساحات أمامها إلى مقابر مفتوحة”، بهذه الكلمات يخبرنا محمد عما شهده في مدن ولاية الجزيرة وقراها.

تدخل ولاية الجزيرة الشهر الخامس على انقطاع شبكة الاتصالات عنها، الأمر الذي فاقم من معاناة سكانها، وجعل صعوبة الاتصال تحول دون معرفة أخبار بعضهم بعضاً.

وكانت ولاية الجزيرة قد سقطت في يد “الدعم السريع” في ديسمبر/ أيلول من العام 2023، وما زالت تداعيات سقوطها مستمرة حتى الآن، فهي من الولايات الأولى، التي دعمت الجيش بالمال والقوافل، كما أنها استضافت أكبر نسبة نازحين في السودان، حتى باتت تشبه معسكر نزوح كبيراً، سقوطها بيد “الدعم السريع” شكل لغزاً كبيراً للشعب، مما حدا بقيادة الجيش لإصدار بيان أعلنت فيه أنها “ستحقق في تداعيات هذه الواقعة”.

“من كان لديها طفلان سنقتل واحداً ونترك الآخر”

“ليس فيها أي مركز أو وجود للجيش” يستهل خالد روايته لما حدث وما شهده في قرية ود النورة، ويقول: “ليس هناك مبرر لاقتحام القرية، ما حدث عند دخول القوات أنهم شرعوا بدخول المنازل وذبح معظم سكانها بالسكاكين”.

خالد هو من سكان منطقة الجزيرة، شهد العديد من الأحداث، التي يقول إنها لن تمحى من ذاكرته ما عاش: “كانوا يدخلون المنازل ويقولون للنساء من كان لديها طفلان سنقتل واحداً ونترك الآخر، ومن كان لديها خمسة سنقتل ثلاثة ونترك اثنين وهكذا”، هذه كانت تعليمات قائدهم، حيث أمرهم بقتل كل رجل فوق 18 عاماً وأقل من 40.

يفسر لنا خالد سبب الارتفاع الكبير بأعداد القتلى، فيقول: “كانوا يأمرون الرجال بالانبطاح على الأرض، على شكل مجموعات، ومن ثم يطلقون النار عليهم من الخلف، في خلال ساعة ارتفع عدد القتلى بهذه الطريقة نحو 100 رجل”، كانت “القوات” تجوب الشوارع وتطلب من المدنيين مفاتيح سياراتهم، وكانوا يمهلون صاحب السيارة خمس دقائق فقط، وإلا أطلقوا النار عليه “ومع ذلك لم ينجُ العديد ممن سلموا ممتلكاتهم”.

في ظل الهجوم المستمر من قبل “الدعم السريع”، يقول خالد إنهم في القرية “تواصلوا مع الجيش، ولم يكن هناك أي استجابة، فاضطررنا أن نستعد بالأسلحة البيضاء، وبعض الأسلحة اليدوية الشخصية، التي ما إن نفذت، حتى وجدنا أنفسنا أمام هذا السيل من البشاعة”.

يمكن أن تنجو إذا لم يكن في المنزل رجال

“نجونا لأن المنزل لا يوجد فيه رجال”، بهذه الكلمات تخبرنا نجوى عن سر نجاتها وأسرتها، تروي أنهن سمعن أصوات القصف منذ الصباح الباكر، وأن الشظايا وصلت إلى منزلهن، وأنهن نجون لأن المنزل ليس فيه رجال، لكن المنازل المجاورة، عن اليمين واليسار، قُتل من فيها. 

حين هدأت أصوات المدافع والرصاص، تجمعت النساء ولم يكن بينهن رجل واحد، وقمن برفع الجثث عن الأرض، عندها، حسمت نجوى أمرها في الخروج من القرية، لأن والدتها مريضة، ولم يعد يوجد طبيب ولا مستشفى يعمل، بعد أن قصفته “الدعم السريع” وقتلت الطبيب محمد جمعة، الذي استنجدت به النساء لتبديل على جروح العمليات القيصرية،  وتقول: “للأسف والدتي لم تتحمل الرحلة، حيث توفيت في الطريق”.

نزح معظم أهالي ود النورة إلى المناطق المجاورة، وعقب هذه المجزرة، صدرت بيانات إدانة أبرزها كان من وزراة الخارجية السودانية التي قالت إن “مجزرة ود النورة تفوق جرائم المجموعات الإرهابية المعروفة دولياً”، كما دان الاتحاد الأفريقي المجزرة في بيان صدر عن رئيسه موسى فكي، حيث طالب ب”إنهاء هذه الأزمة”، أما مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك فقد أعرب عن صدمته “إزاء التقارير عن مجزرة ود النورة”، وشدد على “ضرورة محاسبة المسؤولين عن القتل غير المشروع”، مطالبا ب”إنهاء الصراع”.

كل الأسماء في التقرير تم تغييرها درءاً للخطر وحفاظاً على سلامة أصحابها وأمنهم.

“كانوا يدخلون المنازل ويقولون للنساء من كان لديها طفلان سنقتل واحداً ونترك الآخر، ومن كان لديها خمسة سنقتل ثلاثة ونترك اثنين وهكذا”، هذه كانت تعليمات قائدهم، حيث أمرهم بقتل كل رجل فوق 18 عاماً وأقل من 40.

التقرير تم إنجازه بالتعاون بين “frontline in focus” و”درج”

وصل الطبيب ماهر (اسم مستعار) مسرعاً إلى أحد جسور القرية، وصار يمشي وسط مجموعة كبيرة من الجثث، بحثاً عن جثة أخيه عبدالله (اسم مستعار) إلى أن وجدها ملقاة على الأرض يقول: “عثرت على جثة أخي، وقربها على جثتي أخوين صديقين لنا، وعلى بعد مترين أو ثلاثة منهما، وجدت جثة أخيهم الثالث غارقة بدمائها” يقول ماهر.

لحظات عصيبة يصفها ماهر، عن مشاهد مجزرة ود النورة في ولاية الجزيرة في السودان: “عندما وصلت فُجعت بالمنظر، عدد القتلى كان كبيراً، كانت لحظة عصيبة أن أضطر إلى العبور فوق الجثث كي أصل إلى جثة أخي”.

تعتبر قرية ود النورة، من أكبر القرى في ولاية الجزيرة، عدد سكانها حوالي 30 ألف نسمة، وكان فيها سوق ومستشفى كبيران ومدارس مؤهلة ومراكز خدمية، والمجزرة التي حصلت فيها، ليست الأولى ولا الوحيدة، التي وقعت منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع”، بل سبقها وتبعها الكثير من المجازر، والمتهم الأكبر بارتكاب هذه المجازر، هو “قوات الدعم السريع” التي قتلت؛ بحسب بيان للخارجية السودانية، 40 مدنياً خلال الأيام الماضية، جراء تنفيذ هجمات في ضواحي مدينة سنار جنوب شرق البلاد.

تفاصيل مجزرة ود النورة

ارتكبت “الدعم السريع” مجزرة ود النورة في 5 يونيو/ حزيران الماضي، قبل المجزرة بيوم واحد، دخلت “القوات” القرية وخرجت سريعاً، ثم عاودت الكرة مرة أخرى، وفي تمام الساعة الرابعة فجراً دخلت برتل من العربات العسكرية، يتقدمها موكب من الدراجات النارية، وبدأ إطلاق النار عشوائياً، تلاه إطلاق للقذائف المدفعية على المنازل والمستشفى والمراكز الخدمية، كما استخدمت مضادات الطائرات والأسلحة الثقيلة، فقتلت أكثر من 100 مدني بينهم 35 طفلاً وأكثر من 100 جريح، بالإضافة إلى عدد من المفقودين، في حين تقول مصادر إن عدد القتلى أعلى بكثير، ولكن انقطاع الاتصال حال دون توثيق أسماء القتلى.

مديرة “اليونيسف” كاترين راسل، قالت في بيان حول المجزرة: “شعرت بالرعب من التقارير، التي تفيد بمقتل ما لا يقل عن 35 طفلاً وإصابة أكثر من 20 آخرين، خلال الهجوم الذي وقع، الأربعاء، في ود النورة”.

إعدام للكوادر الطبية والملابس بديل للضمادات

“نجوت منهم لأن زيي الذي ارتديه لا يوحي بأنني طبيب” يقول ماهر، ويضيف: “كان هناك استهداف للكوادر الطبية، لأنهم يعالجون جرحى الجيش، بحسب أقوال قوات الدعم”، ويردف: “هناك طبيب آخر نجا من مركز أولاد حجاز الطبي، لأن المواطنين ساعدوه في تغيير ملابسه، ولاحقاً وجدنا ممرضين مصابين بكسور في الأيدي والأرجل”.

يختفي صوت ماهر خلال حديثنا معه، بعد أن ينتابه ألم وحزن شديدان، وهو يستذكر ما حدث في ذلك اليوم، ويتابع سرد الأحداث: “مع ساعات الفجر الأولى بدأ الهجوم، وكان هذه المرة بقوة عددية أكبر، وأسلحة أثقل، بحجة وجود قوات تابعة للجيش، مع العلم أن هذه القرية لا يوجد فيها أي حامية عسكرية”.

كان الهدف تدمير ود النورة بالذات وترهيبها، فقد كانت القوات المهاجمة تردد عبارة “كل القوة نورة جوة”، وهو تعبير عسكري يكشف تصميمهم على اقتحام القرية، يقول ماهر: “ظلوا يطلقون النار، ويقتحمون المنازل بغرض السرقة، يدخلون ويخرجون على شكل مجموعات، يرهبون أصحاب المساكن ثم يقتلونهم، لقد كانوا يقصدون قرية ود النورة بعينها، حتى لو أنكر متحدثهم الرسمي ذلك”.

يوجد في ود النورة أربعة مراكز طبية، واحد تخصص نساء وتوليد، والباقي مراكز طبية عامة، بالإضافة إلى المستشفى الكبير، الذي كان يحوي مجمع عمليات وأقساماً طبية مختلفة، نهبتها “قوات الدعم” كلها، ولم تستثنِ الأموال والمعدات الطبية والأدوية، وحين هدأت الأمور كان عدد الجرحى كبيراً جداً، بحيث عجز ماهر عن تقديم المساعدات اللازمة لهم: “بعد سرقة الأدوية والإسعافات الأولية، صرت استخدم الملابس لتضميد الجروح، فلا شاش ولا مواد للتخدير ولا خيوط للجروح”.

حصلت عمليات إعدام منظمة للكوادر الطبية، يتحدث ماهر عن الإعدامات التي شاهدها بعينيه: “اقتحموا المستشفى، وجدوا ممرض العمليات محمد جمعة بلال، الذي كان يساعد النساء، ممن لديهم عمليات ولادة قيصرية، على النزوح خارج القرية، فقتلوه وقتلوا معه مرافقاً لأحد المرضى، كما قتلوا صيدلياً في مستوصف الدكتور توفيق، يدعى أمين ومساعده يدعى طارق ونهبوا أموالهما، كذلك الأمر في مركز أولاد حجاز الطبي، وجدوا أحد الكوادر الطبية هناك اسمه حيدر مقتولاً، أما الدكتور محمود فهو طبيب أسنان، يشهد له بطيب الخلق وحسن تعامله مع المرضى في قرية ود النورة والقرى المجاورة، قتلوه أيضاً بدم بارد”.

الضرر الذي أحدثه هجوم “الدعم السريع”، لم يقتصر على الكوادر الطبية والمشافي، بل تجاوزها إلى قطع الطرق بين ود النورة والمدن والقرى المحيطة بها، وهو ما يقول  ماهر إنه كان سبباً في ارتفاع أعداد القتلى: “نحن في نهاية الأمر مستشفى في قرية، كنا سابقاً نسعف الحالة أولاً، ثم ننقلها إلى مستشفى في المدينة، تكون كبيرة كمستشفى المناقل مثلاً، ولكن بعد هذا الهجوم، قطعت الطرق وفقدنا الأدوية، للأسف توفي كثيرون قبل أن يصلوا إلى المستشفيات خارج قرية ود النورة”.

عاد ماهر إلى منزله بعد انتهاء الهجوم، ليجد أنه قد تعرض للهجوم أيضاً، وأن أخوته ووالدته قد تعرضوا للضرب، وسرق كل ما يملكونه من ذهب وأثاث وسيارات، غير أنه لم يجد أخاه عبد الله، وبقي يبحث عنه، إلى أن أتاه شخص وأخبره أن جثته ملقاة قرب أحد جسور القرية، يقول: “ذهبت مسرعاً، وعندما وصلت فجعت بالمنظر، فعدد القتلى كان كبيراً، وكانت لحظة عصيبة، أن اضطر إلى العبور فوق الجثث حتى أصل إلى أخي، كان أكثرنا طيبة وكان يحضر للزواج يوم العيد…بموته قتلونا جميعاً”.

في اليوم التالي للمجزرة، أظهرت مقاطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، دفن العشرات من المواطنين في ساحة عامة، قيل إنه ملعب لكرة القدم في القرية، فيما ندد أهالي القرية بالقوات المسلحة السودانية، لعدم إرسالها أي تعزيزات للدفاع عن القرية، خلال الهجوم الثاني، على الرغم من طلب المساعدة.

رواية “الدعم السريع” جاءت سريعاً، حيث أصدروا بياناً قالوا فيه: “إن في هذه القرية مستنفرين وأسلحة”، وهذا ما أكده قائدهم محمد حمدان دقلو في خطابه المبثوث بمناسبة عيد الأضحى، بقوله إن قواته “واجهت الجيش والمستنفرين وكتائب الإسلاميين وجهاز الأمن”، حسب تعبيره.

“عندما وصلت فُجعت بالمنظر، عدد القتلى كان كبيراً، كانت لحظة عصيبة أن أضطر إلى العبور فوق الجثث كي أصل إلى جثة أخي”.

مقابر مفتوحة أمام المنازل

ما إن تعود “شبكات الإنترنت المقطوعة سيشهد العالم جرائم يندى لها الجبين، حيث تحولت البيوت والمساحات أمامها إلى مقابر مفتوحة”، بهذه الكلمات يخبرنا محمد عما شهده في مدن ولاية الجزيرة وقراها.

تدخل ولاية الجزيرة الشهر الخامس على انقطاع شبكة الاتصالات عنها، الأمر الذي فاقم من معاناة سكانها، وجعل صعوبة الاتصال تحول دون معرفة أخبار بعضهم بعضاً.

وكانت ولاية الجزيرة قد سقطت في يد “الدعم السريع” في ديسمبر/ أيلول من العام 2023، وما زالت تداعيات سقوطها مستمرة حتى الآن، فهي من الولايات الأولى، التي دعمت الجيش بالمال والقوافل، كما أنها استضافت أكبر نسبة نازحين في السودان، حتى باتت تشبه معسكر نزوح كبيراً، سقوطها بيد “الدعم السريع” شكل لغزاً كبيراً للشعب، مما حدا بقيادة الجيش لإصدار بيان أعلنت فيه أنها “ستحقق في تداعيات هذه الواقعة”.

“من كان لديها طفلان سنقتل واحداً ونترك الآخر”

“ليس فيها أي مركز أو وجود للجيش” يستهل خالد روايته لما حدث وما شهده في قرية ود النورة، ويقول: “ليس هناك مبرر لاقتحام القرية، ما حدث عند دخول القوات أنهم شرعوا بدخول المنازل وذبح معظم سكانها بالسكاكين”.

خالد هو من سكان منطقة الجزيرة، شهد العديد من الأحداث، التي يقول إنها لن تمحى من ذاكرته ما عاش: “كانوا يدخلون المنازل ويقولون للنساء من كان لديها طفلان سنقتل واحداً ونترك الآخر، ومن كان لديها خمسة سنقتل ثلاثة ونترك اثنين وهكذا”، هذه كانت تعليمات قائدهم، حيث أمرهم بقتل كل رجل فوق 18 عاماً وأقل من 40.

يفسر لنا خالد سبب الارتفاع الكبير بأعداد القتلى، فيقول: “كانوا يأمرون الرجال بالانبطاح على الأرض، على شكل مجموعات، ومن ثم يطلقون النار عليهم من الخلف، في خلال ساعة ارتفع عدد القتلى بهذه الطريقة نحو 100 رجل”، كانت “القوات” تجوب الشوارع وتطلب من المدنيين مفاتيح سياراتهم، وكانوا يمهلون صاحب السيارة خمس دقائق فقط، وإلا أطلقوا النار عليه “ومع ذلك لم ينجُ العديد ممن سلموا ممتلكاتهم”.

في ظل الهجوم المستمر من قبل “الدعم السريع”، يقول خالد إنهم في القرية “تواصلوا مع الجيش، ولم يكن هناك أي استجابة، فاضطررنا أن نستعد بالأسلحة البيضاء، وبعض الأسلحة اليدوية الشخصية، التي ما إن نفذت، حتى وجدنا أنفسنا أمام هذا السيل من البشاعة”.

يمكن أن تنجو إذا لم يكن في المنزل رجال

“نجونا لأن المنزل لا يوجد فيه رجال”، بهذه الكلمات تخبرنا نجوى عن سر نجاتها وأسرتها، تروي أنهن سمعن أصوات القصف منذ الصباح الباكر، وأن الشظايا وصلت إلى منزلهن، وأنهن نجون لأن المنزل ليس فيه رجال، لكن المنازل المجاورة، عن اليمين واليسار، قُتل من فيها. 

حين هدأت أصوات المدافع والرصاص، تجمعت النساء ولم يكن بينهن رجل واحد، وقمن برفع الجثث عن الأرض، عندها، حسمت نجوى أمرها في الخروج من القرية، لأن والدتها مريضة، ولم يعد يوجد طبيب ولا مستشفى يعمل، بعد أن قصفته “الدعم السريع” وقتلت الطبيب محمد جمعة، الذي استنجدت به النساء لتبديل على جروح العمليات القيصرية،  وتقول: “للأسف والدتي لم تتحمل الرحلة، حيث توفيت في الطريق”.

نزح معظم أهالي ود النورة إلى المناطق المجاورة، وعقب هذه المجزرة، صدرت بيانات إدانة أبرزها كان من وزراة الخارجية السودانية التي قالت إن “مجزرة ود النورة تفوق جرائم المجموعات الإرهابية المعروفة دولياً”، كما دان الاتحاد الأفريقي المجزرة في بيان صدر عن رئيسه موسى فكي، حيث طالب ب”إنهاء هذه الأزمة”، أما مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولكر تورك فقد أعرب عن صدمته “إزاء التقارير عن مجزرة ود النورة”، وشدد على “ضرورة محاسبة المسؤولين عن القتل غير المشروع”، مطالبا ب”إنهاء الصراع”.

كل الأسماء في التقرير تم تغييرها درءاً للخطر وحفاظاً على سلامة أصحابها وأمنهم.

|

اشترك بنشرتنا البريدية