fbpx

نور الذي رمى نفسه من الطبقة الثالثة…
أول ضحايا قانون العمل الجديد في مصر

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحمل حادث الانتحار رسالة رمزية حول ظروف العمل المجحفة في مصر، فلم يكن الانتحار داخل أروقة الشركات والمصانع وأماكن العمل شائعاً، إلا أنه حدث أخيراً.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يختر الموظف المصري نور يوم وفاته تحديداً، كما لم يختَر أي شيء تقريباً. كان يوماً عادياً ككل الأيام، ذهب إلى عمله وهو موظف “كول سنتر”، المهنة التي يعتبرها كثيرون من أكثر المهن مللاً وقتلاً للإبداع. كان يدخل الحمام كثيراً لظروف صحية، فاستدعاه مديره، ووبخه، وخصم 4 أيام من راتبه القليل ثم فصله، من دون تحقيق إداري أو مراعاة للظروف التي يمرُّ بها، وأمره بالانصراف. 

لم ينصرف نور من داخل المكتب فقط، بل قرر أن ينصرف من الحياة، قفز من الطبقة الثالثة من المبنى حيث مقر شركة “تلي- بيرفورمانس” العالمية لخدمات “الكول سنتر” في ضاحية التجمع الخامس الراقية في القاهرة، ليصبحَ محل عمله الذي كان شاهداً على حياته السيئة، شاهداً أيضاً على حادث انتحاره. 

راتب ضعيف وحياة “فوق سطح عقار”!

طالب نور الشركة أكثر من مرة بصرف الراتب الإضافي “البونوس”، فكان الرد يأتي دائماً بالرفض، بسبب نقص في الأوراق، قالت طليقته إنه كان يتوقع دوماً التعنّت من جانب مديره، فقال، قبل وفاته، “الموضوع مش هيعدي على خير، وهيرفدني عشان ماخدش حاجة”.

وبالفعل.. أبلغه مديره بقرار فصله، على رغم أن سجله الوظيفي “خال من أي جزاءات أو خصومات أو عقوبات”. شعر نور بأنه ذليل، تقول طليقته وأم أولاده، يتذلّل لـ”ناس في سن العشرين، وعمره 45 عاماً”، ففضّل أن ينهي حياته.

وعلى رغم أن مهنة “الكول سنتر” ليست سهلة، كونها تتطلب حضوراً ذهنياً للتعامل بلطف وحنكة مع طلبات المتصلين، إلا أنها من بين الأقل أجراً، فنور  كان يبيت فوق سطح عقار، من دون أي شيء يحميه من الصقيع والأمطار، إذ لم يكن قادراً على استئجار مقر سكن ملائم. ونور كان يعمل في السياحة قبل ركودها في مصر لينتقل إلى “الكول سنتر”. وبالمال القليل الذي كان يتقاضاه، كان عاجزاً عن تلبية حاجات أطفاله وبيته، وهو ما أدى لانفصاله عن زوجته.

عمل نور في “تلي-بيرفورمانس”، إحدى الشركات العالمية الكبرى في مجال “الكول سنتر”، فهي توظّف مسؤولي خدمة عملاء لحساب شركات أخرى، طبقاً لاتفاق منفعة متبادلة يشمل دولاً عدة، فمن بين عملائها، على سبيل المثال، شركات “أبل” و”أمازون” و”أوبر”. والموظف مسؤول عن الرد على عملاء شركات وبنوك تقدم خدمات للجمهور العام، وما بين ضغوط المتصلين، الذين يصل الأمر ببعضهم إلى سبّ موظفي خدمة العملاء، وضغوط المكالمات التي تقدّر بآلاف في الساعة الواحدة، وكذلك أداء بعض المديرين، يجد الموظف نفسه محاصراً، لا يستطيع الفرار من الدوامة اليومية، التي تحيطه لنحو 9 ساعات.

بقي حادث الانتحار سراً لساعات إلى أن انتشرت الروايات حول الموظف الذي انتحر، واسم الشركة وتفاصيل الواقعة. كانت الشركة التي يعمل فيها تتجنّب الرد، أو التعليق، حتى نشرت إحدى زميلاته، وتُدعي روشان بغدادي، فيديو روَت فيه ما حصل، لتكشف جانباً من الحياة الصعبة للموظفين والعمّال في مصر.

يحمل حادث الانتحار رسالة رمزية حول ظروف العمل المجحفة في مصر، فلم يكن الانتحار داخل أروقة الشركات والمصانع وأماكن العمل شائعاً، إلا أنه حدث أخيراً، فدائماً ما كان الموظفون يحملون همومهم وأوجاعهم من أوضاع العمل المهينة- حتى داخل الشركات الدولية التي ترفع شعارات أسطورية حول خدماتها وما تقدّمه، لكونها تتمتّع بالجودة الدولية، التي لا تتمتّع بشيء منها في التعامل مع الموظفين أو إدارة أمورهم- إلى المنزل، ليبكوا أو ربما يصل بهم الأمر إلى الانتحار.

لكن قصة نور تعدّ سابقة، وتحمل رسائل كثيرة حول مآسي الموظفين في مصر وظروف العمل غير الإنسانية في أحيان كثيرة، مقابل صعوبة الحصول على فرصة أفضل  ووصول البطالة إلى مستويات قياسية. 

وهو ما يجبر كثيرين على القبول بأوضاع سيئة، بدلاً من المطالبة بحقوقهم، فلا جهات رقابية تتابع الشركات، ولا مكان للشكوى سوى مكتب العمل، الذي قد يحتاج إلى سنوات تنتهي بفصل الموظف أو تعويضه بمبلغ لا يذكر، فيفضّل الموظف الصمت وقبول الأوضاع والغرق في آلامه النفسية والجسدية حتى يجدَ عملاً آخر…

إدارة الموارد البشرية (HR)، في معظم المؤسسات، فقدت دورها الحقيقي كـ”طبيب نفسي إداري”، فبعدما كانت تهدف لتحسين حياة الموظفين وتسهيل أدائهم لأعمالهم، واستيعابهم، وتذليل العقبات لإخراج طاقاتهم بالكامل، تحوّلت إلى مهنة لمراقبة الموظفين وتطبيق الخصومات وعقاب المقصّرين وتهديد المُتعَبين، والتفاوض لتقليل حقوقهم أو سلبها. 

سياسات هدر الحقوق…

حقوق كالتأمين الصحي ليست شائعة في معظم الشركات في مصر، وكذلك الإجازات الطويلة وأيام الراحة، التي يجب الحصول عليها بموافقة المدير، الذي لا يوافق في الغالب، لعدم توفُّر بدائل، وهو ما يمنعه قانون العمل المصري، لكن صاحب العمل أقوى من القانون دائماً، فعند المطالبة بالحقوق القانونية، بحسب شهادات، دائماً ما يلجأ المديرون إلى القمع، والتسلُّط في العمل، حتى ينقلبَ جحيماً، لمنعِ أي موظف من المطالبة بحقوقه لأنه سينال عقاباً “على المدى الطويل” إذا أقدم على تلك الخطوة. ويعمل كثيرون من دون عقود، يتقاضون أجراً تحت مسمّى “العمل تحت التمرين” أو “العمل الحر”، فلا يفرض ذلك على جهة العمل أي التزامات تجاهه حال تسريحه أو إصابته أو وفاته. 

وحال التعيين وتوقيع عقود، معظم الشركات تفرض على الموظف توقيع استقالته، المكتوبة بصيغة مُجهزة سلفاً تتضمَّن التنازل عن أي حقوق، ضمن العقد المُبرم، حتى يصبح الاستغناء عنه سهلاً وبدون التزامات، فبدلاً من أن تتمّ إقالته تعسفياً، يتم استخراج الاستقالة “المُوقعة بالفعل” والاستغناء عنه بموجبها. وبذلك لا يشعر معظم الموظفين في مصر بـ”الأمان الوظيفي”، إذ تتم الإطاحة بهم في أي وقت، ولن يجدوا من يدافع عنهم، علماً أن العاملين في مصر لا يملكون نقابات تدافع عن حقوقهم ولا يجدون جهة رسمية تنصفهم، فالدولة الآن، نظراً لظروفها السياسية، تجامل رجال الأعمال الذي يتبرّعون لصندوق “تحيا مصر” ويعملون في المشروعات القومية، والشركات الدولية التي تجمّل وجه النظام في الخارج على حساب الموظف، الذي يضطر للخضوع لقانون “لي الذراع” الذي سمح لشركة “تلي-ب يرفورمانس” العالمية، بتوقيع عقد جديد لتركيب كاميرات وأنظمة مراقبة متكاملة في منازل الموظفين وأماكن عملهم المنزلي، تزامناً مع تفشي “كورونا”، حتى يتم التأكد من كونهم لا يغادرون كراسي العمل.

إقرأوا أيضاً:

قانون العمل الجديد “شهادة استعباد رسمية للموظفين”

يمنح مشروع قانون العمل، الذي تم تحديثه في كانون الأول/ ديسمبر 2021 حقوقاً عدة للعمال، تبدأ بإلزام صاحب العمل بإبرام عقد مع العاملين لديه، وذلك عند تجاوزهم مدة 4 سنوات بمقر العمل، فيما يعرف بـ”التثبيت الإلزامي للعامل”، أي أنه سيضطر للعمل 47 شهراً دون عقود أو حقوق أو “تثبيت” وكأنه يبني بيتاً من ورق طوال تلك الفترة، وهو معرّض للاستغناء عنه في أي لحظة. وبذلك يقدّم القانون للشركات القدرة على التحرر من واجباتها تجاه الموظف، وكأنّ الدولة، التي يفترض أن تحمي العمّال في وجه أصحاب العمل، تمنح الطرف الأقوى “شهادة استعباد” للطرف الضعيف. كما أن أغلب الشركات في مصر تعمل بنظام “الأساسي” و”الحوافز”، أي أن المبلغ المكتوب في العقد لا يكون الراتب الحقيقي المتفق عليه، إنما جزء لا يتجاوز 50 في المئة منه، بينما الباقي يدخل في بنودٍ أخرى، وذلك مراعاة للمشكلات التي قد تحدث بين العمل والعامل، وفي هذه الحالة، وبغرض “تسريحه” يعيده صاحب العمل إلى الراتب الأساسي “القانوني” حتى يغادر بإرادته.

وضمن قانون العمل، أنه لا يحق لصاحب العمل فصل الموظف عند استخدام حقه في إجازاته المكفولة قانوناً، ولكن ما يحصل في الواقع أمر مختلف، فصاحب العمل في أحيان كثيرة يمنع الموظفين من أخذ إجازاتهم، حتى لا يتأثر سير العمل، وفي أحيانٍ أخرى، يقبل ثم تبدأ سلسلة من المضايقات غير المبررة، التي لا يلحظها القانون. 

سلطة إلهية لمديري الشركات.. “افصل موظفك فوراً”

تصل حقوق صاحب العمل إلى حدود لا نهائية تصل إلى “طرد العامل”، بحسب نص القانون، في الفقرة التي تقول: “يمكن لرئيس العمل طرد العامل مع عمله عند تطاوله على أحد رؤساء وأرباب العمل”، وكذلك “فصل العامل” حق أصيل لصاحب العمل، إذا أثبت تسبب الموظف في خطأ نتج عنه وقوع مشكلة، أو الإفصاح عن أسرار العمل، أو تقديم أوراق مزيفة عن هويته. 

يقع القانون، في مساحة حق صاحب العمل، بمنطقة رمادية، إذ يمنح المدير حق فصل العامل حال التطاول أو التسبب في مشكلة، لكنه لا يحدد نوع التطاول، وحدود المشكلة؟ وهي البنود التي يستغلها أصحاب العمل لتحويل أي شيء إلى مشكلة كبرى، والاستعانة بأقسام الشؤون القانونية لإثبات الخطأ على الموظف و”تستيف الورق” كما يُعرَف في مصر، تمهيداً لفصله، ليصبح الأمرُ قانونياً، وذلك حال وصول الموظف إلى 4 سنوات عمل، وتثبيته، وهو أمر نادر الحدوث في معظم الشركات. 

ويفرض القانون على صاحب العمل توفير وسائل للتنقل والإقامة للعاملين، وكذلك “عطاءات اجتماعية” تُمنح في المناسبات والأعياد الرسمية للدولة، ودعم تكاليف العلاج والخدمات الطبية والعلاجية، وهو ما لا يحدث في الغالب. بالاستعانة بكثير من الشهادات، لا يحصل العامل إلا على راتبه، ويتعامل صاحب العمل أو “المدير” بمنطق “يكفي أننا نمنحكم رواتبكم كل شهر”.

يمنح القانون المصري حقوقاً للموظفين، كما يمنح “سلطة إلهية” لأصحاب العمل، لكن في كل الحالات، لا رقابة عادلة ومحايدة، سواء على الموظف أو صاحب العمل، ولا جهة لتقديم الشكاوى تنظر إلى الأمور بجدية وتقوم بدور رقابي حقيقي وزيارات للشركات للاطمئنان على الأوضاع المهنية و”الآدمية” للموظفين، وتقييم الأمور، واتخاذ إجراءات، أو إجراء استطلاعات رأي، كما يحدث في الدول التي تحترم شعبها. معظم الشهادات التي جمعناها من سوق العمل المصري احتوت على كلمات كـ”الموظف عبد”، و”التارغت مقدس”، و”هتمشي هيجي ألف مكانك”، و”أكل العيش مر”، و”بيوتنا هتتخرب” و”مفيش شغل تاني”. عدم وجود بدائل يدفع الموظفين في مصر لفعل أي شيء وتحمل ظروف بالغة القسوة حتى يضمنوا رواتبهم نهاية كل شهر، فهي تكفيهم- بصعوبة- وأحياناً لا تكفيهم، لكن ظروف سوق العمل صعبة، والرواتب قليلة، وتندر الوظائف الجيدة، فمن يترك عمله، لن يجد عملاً آخر بسهولة… وفي النهاية ينتهي الأمر بالموظفين بمعاناة لا تنتهي وموت بطيء، أو انتحار عاجل ينهي مسلسل المتاعب والصعوبات دفعة واحدة.

إقرأوا أيضاً:

30.12.2021
زمن القراءة: 7 minutes

يحمل حادث الانتحار رسالة رمزية حول ظروف العمل المجحفة في مصر، فلم يكن الانتحار داخل أروقة الشركات والمصانع وأماكن العمل شائعاً، إلا أنه حدث أخيراً.

لم يختر الموظف المصري نور يوم وفاته تحديداً، كما لم يختَر أي شيء تقريباً. كان يوماً عادياً ككل الأيام، ذهب إلى عمله وهو موظف “كول سنتر”، المهنة التي يعتبرها كثيرون من أكثر المهن مللاً وقتلاً للإبداع. كان يدخل الحمام كثيراً لظروف صحية، فاستدعاه مديره، ووبخه، وخصم 4 أيام من راتبه القليل ثم فصله، من دون تحقيق إداري أو مراعاة للظروف التي يمرُّ بها، وأمره بالانصراف. 

لم ينصرف نور من داخل المكتب فقط، بل قرر أن ينصرف من الحياة، قفز من الطبقة الثالثة من المبنى حيث مقر شركة “تلي- بيرفورمانس” العالمية لخدمات “الكول سنتر” في ضاحية التجمع الخامس الراقية في القاهرة، ليصبحَ محل عمله الذي كان شاهداً على حياته السيئة، شاهداً أيضاً على حادث انتحاره. 

راتب ضعيف وحياة “فوق سطح عقار”!

طالب نور الشركة أكثر من مرة بصرف الراتب الإضافي “البونوس”، فكان الرد يأتي دائماً بالرفض، بسبب نقص في الأوراق، قالت طليقته إنه كان يتوقع دوماً التعنّت من جانب مديره، فقال، قبل وفاته، “الموضوع مش هيعدي على خير، وهيرفدني عشان ماخدش حاجة”.

وبالفعل.. أبلغه مديره بقرار فصله، على رغم أن سجله الوظيفي “خال من أي جزاءات أو خصومات أو عقوبات”. شعر نور بأنه ذليل، تقول طليقته وأم أولاده، يتذلّل لـ”ناس في سن العشرين، وعمره 45 عاماً”، ففضّل أن ينهي حياته.

وعلى رغم أن مهنة “الكول سنتر” ليست سهلة، كونها تتطلب حضوراً ذهنياً للتعامل بلطف وحنكة مع طلبات المتصلين، إلا أنها من بين الأقل أجراً، فنور  كان يبيت فوق سطح عقار، من دون أي شيء يحميه من الصقيع والأمطار، إذ لم يكن قادراً على استئجار مقر سكن ملائم. ونور كان يعمل في السياحة قبل ركودها في مصر لينتقل إلى “الكول سنتر”. وبالمال القليل الذي كان يتقاضاه، كان عاجزاً عن تلبية حاجات أطفاله وبيته، وهو ما أدى لانفصاله عن زوجته.

عمل نور في “تلي-بيرفورمانس”، إحدى الشركات العالمية الكبرى في مجال “الكول سنتر”، فهي توظّف مسؤولي خدمة عملاء لحساب شركات أخرى، طبقاً لاتفاق منفعة متبادلة يشمل دولاً عدة، فمن بين عملائها، على سبيل المثال، شركات “أبل” و”أمازون” و”أوبر”. والموظف مسؤول عن الرد على عملاء شركات وبنوك تقدم خدمات للجمهور العام، وما بين ضغوط المتصلين، الذين يصل الأمر ببعضهم إلى سبّ موظفي خدمة العملاء، وضغوط المكالمات التي تقدّر بآلاف في الساعة الواحدة، وكذلك أداء بعض المديرين، يجد الموظف نفسه محاصراً، لا يستطيع الفرار من الدوامة اليومية، التي تحيطه لنحو 9 ساعات.

بقي حادث الانتحار سراً لساعات إلى أن انتشرت الروايات حول الموظف الذي انتحر، واسم الشركة وتفاصيل الواقعة. كانت الشركة التي يعمل فيها تتجنّب الرد، أو التعليق، حتى نشرت إحدى زميلاته، وتُدعي روشان بغدادي، فيديو روَت فيه ما حصل، لتكشف جانباً من الحياة الصعبة للموظفين والعمّال في مصر.

يحمل حادث الانتحار رسالة رمزية حول ظروف العمل المجحفة في مصر، فلم يكن الانتحار داخل أروقة الشركات والمصانع وأماكن العمل شائعاً، إلا أنه حدث أخيراً، فدائماً ما كان الموظفون يحملون همومهم وأوجاعهم من أوضاع العمل المهينة- حتى داخل الشركات الدولية التي ترفع شعارات أسطورية حول خدماتها وما تقدّمه، لكونها تتمتّع بالجودة الدولية، التي لا تتمتّع بشيء منها في التعامل مع الموظفين أو إدارة أمورهم- إلى المنزل، ليبكوا أو ربما يصل بهم الأمر إلى الانتحار.

لكن قصة نور تعدّ سابقة، وتحمل رسائل كثيرة حول مآسي الموظفين في مصر وظروف العمل غير الإنسانية في أحيان كثيرة، مقابل صعوبة الحصول على فرصة أفضل  ووصول البطالة إلى مستويات قياسية. 

وهو ما يجبر كثيرين على القبول بأوضاع سيئة، بدلاً من المطالبة بحقوقهم، فلا جهات رقابية تتابع الشركات، ولا مكان للشكوى سوى مكتب العمل، الذي قد يحتاج إلى سنوات تنتهي بفصل الموظف أو تعويضه بمبلغ لا يذكر، فيفضّل الموظف الصمت وقبول الأوضاع والغرق في آلامه النفسية والجسدية حتى يجدَ عملاً آخر…

إدارة الموارد البشرية (HR)، في معظم المؤسسات، فقدت دورها الحقيقي كـ”طبيب نفسي إداري”، فبعدما كانت تهدف لتحسين حياة الموظفين وتسهيل أدائهم لأعمالهم، واستيعابهم، وتذليل العقبات لإخراج طاقاتهم بالكامل، تحوّلت إلى مهنة لمراقبة الموظفين وتطبيق الخصومات وعقاب المقصّرين وتهديد المُتعَبين، والتفاوض لتقليل حقوقهم أو سلبها. 

سياسات هدر الحقوق…

حقوق كالتأمين الصحي ليست شائعة في معظم الشركات في مصر، وكذلك الإجازات الطويلة وأيام الراحة، التي يجب الحصول عليها بموافقة المدير، الذي لا يوافق في الغالب، لعدم توفُّر بدائل، وهو ما يمنعه قانون العمل المصري، لكن صاحب العمل أقوى من القانون دائماً، فعند المطالبة بالحقوق القانونية، بحسب شهادات، دائماً ما يلجأ المديرون إلى القمع، والتسلُّط في العمل، حتى ينقلبَ جحيماً، لمنعِ أي موظف من المطالبة بحقوقه لأنه سينال عقاباً “على المدى الطويل” إذا أقدم على تلك الخطوة. ويعمل كثيرون من دون عقود، يتقاضون أجراً تحت مسمّى “العمل تحت التمرين” أو “العمل الحر”، فلا يفرض ذلك على جهة العمل أي التزامات تجاهه حال تسريحه أو إصابته أو وفاته. 

وحال التعيين وتوقيع عقود، معظم الشركات تفرض على الموظف توقيع استقالته، المكتوبة بصيغة مُجهزة سلفاً تتضمَّن التنازل عن أي حقوق، ضمن العقد المُبرم، حتى يصبح الاستغناء عنه سهلاً وبدون التزامات، فبدلاً من أن تتمّ إقالته تعسفياً، يتم استخراج الاستقالة “المُوقعة بالفعل” والاستغناء عنه بموجبها. وبذلك لا يشعر معظم الموظفين في مصر بـ”الأمان الوظيفي”، إذ تتم الإطاحة بهم في أي وقت، ولن يجدوا من يدافع عنهم، علماً أن العاملين في مصر لا يملكون نقابات تدافع عن حقوقهم ولا يجدون جهة رسمية تنصفهم، فالدولة الآن، نظراً لظروفها السياسية، تجامل رجال الأعمال الذي يتبرّعون لصندوق “تحيا مصر” ويعملون في المشروعات القومية، والشركات الدولية التي تجمّل وجه النظام في الخارج على حساب الموظف، الذي يضطر للخضوع لقانون “لي الذراع” الذي سمح لشركة “تلي-ب يرفورمانس” العالمية، بتوقيع عقد جديد لتركيب كاميرات وأنظمة مراقبة متكاملة في منازل الموظفين وأماكن عملهم المنزلي، تزامناً مع تفشي “كورونا”، حتى يتم التأكد من كونهم لا يغادرون كراسي العمل.

إقرأوا أيضاً:

قانون العمل الجديد “شهادة استعباد رسمية للموظفين”

يمنح مشروع قانون العمل، الذي تم تحديثه في كانون الأول/ ديسمبر 2021 حقوقاً عدة للعمال، تبدأ بإلزام صاحب العمل بإبرام عقد مع العاملين لديه، وذلك عند تجاوزهم مدة 4 سنوات بمقر العمل، فيما يعرف بـ”التثبيت الإلزامي للعامل”، أي أنه سيضطر للعمل 47 شهراً دون عقود أو حقوق أو “تثبيت” وكأنه يبني بيتاً من ورق طوال تلك الفترة، وهو معرّض للاستغناء عنه في أي لحظة. وبذلك يقدّم القانون للشركات القدرة على التحرر من واجباتها تجاه الموظف، وكأنّ الدولة، التي يفترض أن تحمي العمّال في وجه أصحاب العمل، تمنح الطرف الأقوى “شهادة استعباد” للطرف الضعيف. كما أن أغلب الشركات في مصر تعمل بنظام “الأساسي” و”الحوافز”، أي أن المبلغ المكتوب في العقد لا يكون الراتب الحقيقي المتفق عليه، إنما جزء لا يتجاوز 50 في المئة منه، بينما الباقي يدخل في بنودٍ أخرى، وذلك مراعاة للمشكلات التي قد تحدث بين العمل والعامل، وفي هذه الحالة، وبغرض “تسريحه” يعيده صاحب العمل إلى الراتب الأساسي “القانوني” حتى يغادر بإرادته.

وضمن قانون العمل، أنه لا يحق لصاحب العمل فصل الموظف عند استخدام حقه في إجازاته المكفولة قانوناً، ولكن ما يحصل في الواقع أمر مختلف، فصاحب العمل في أحيان كثيرة يمنع الموظفين من أخذ إجازاتهم، حتى لا يتأثر سير العمل، وفي أحيانٍ أخرى، يقبل ثم تبدأ سلسلة من المضايقات غير المبررة، التي لا يلحظها القانون. 

سلطة إلهية لمديري الشركات.. “افصل موظفك فوراً”

تصل حقوق صاحب العمل إلى حدود لا نهائية تصل إلى “طرد العامل”، بحسب نص القانون، في الفقرة التي تقول: “يمكن لرئيس العمل طرد العامل مع عمله عند تطاوله على أحد رؤساء وأرباب العمل”، وكذلك “فصل العامل” حق أصيل لصاحب العمل، إذا أثبت تسبب الموظف في خطأ نتج عنه وقوع مشكلة، أو الإفصاح عن أسرار العمل، أو تقديم أوراق مزيفة عن هويته. 

يقع القانون، في مساحة حق صاحب العمل، بمنطقة رمادية، إذ يمنح المدير حق فصل العامل حال التطاول أو التسبب في مشكلة، لكنه لا يحدد نوع التطاول، وحدود المشكلة؟ وهي البنود التي يستغلها أصحاب العمل لتحويل أي شيء إلى مشكلة كبرى، والاستعانة بأقسام الشؤون القانونية لإثبات الخطأ على الموظف و”تستيف الورق” كما يُعرَف في مصر، تمهيداً لفصله، ليصبح الأمرُ قانونياً، وذلك حال وصول الموظف إلى 4 سنوات عمل، وتثبيته، وهو أمر نادر الحدوث في معظم الشركات. 

ويفرض القانون على صاحب العمل توفير وسائل للتنقل والإقامة للعاملين، وكذلك “عطاءات اجتماعية” تُمنح في المناسبات والأعياد الرسمية للدولة، ودعم تكاليف العلاج والخدمات الطبية والعلاجية، وهو ما لا يحدث في الغالب. بالاستعانة بكثير من الشهادات، لا يحصل العامل إلا على راتبه، ويتعامل صاحب العمل أو “المدير” بمنطق “يكفي أننا نمنحكم رواتبكم كل شهر”.

يمنح القانون المصري حقوقاً للموظفين، كما يمنح “سلطة إلهية” لأصحاب العمل، لكن في كل الحالات، لا رقابة عادلة ومحايدة، سواء على الموظف أو صاحب العمل، ولا جهة لتقديم الشكاوى تنظر إلى الأمور بجدية وتقوم بدور رقابي حقيقي وزيارات للشركات للاطمئنان على الأوضاع المهنية و”الآدمية” للموظفين، وتقييم الأمور، واتخاذ إجراءات، أو إجراء استطلاعات رأي، كما يحدث في الدول التي تحترم شعبها. معظم الشهادات التي جمعناها من سوق العمل المصري احتوت على كلمات كـ”الموظف عبد”، و”التارغت مقدس”، و”هتمشي هيجي ألف مكانك”، و”أكل العيش مر”، و”بيوتنا هتتخرب” و”مفيش شغل تاني”. عدم وجود بدائل يدفع الموظفين في مصر لفعل أي شيء وتحمل ظروف بالغة القسوة حتى يضمنوا رواتبهم نهاية كل شهر، فهي تكفيهم- بصعوبة- وأحياناً لا تكفيهم، لكن ظروف سوق العمل صعبة، والرواتب قليلة، وتندر الوظائف الجيدة، فمن يترك عمله، لن يجد عملاً آخر بسهولة… وفي النهاية ينتهي الأمر بالموظفين بمعاناة لا تنتهي وموت بطيء، أو انتحار عاجل ينهي مسلسل المتاعب والصعوبات دفعة واحدة.

إقرأوا أيضاً:

30.12.2021
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية