fbpx

هل المصريون ممنوعون من التضامن مع الفلسطينيين؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

سحق القمع الوحشي وغير المبرر تماماً حركة التضامن مع فلسطين، خوفاً من اتساع رقعة الحركة الاحتجاجية وتحوّلها إلى الشأن الداخلي، فتوقفت الاحتجاجات تماماً، ولم يحدث أي رد فعل، حتى بعد غزو رفح واحتلال الجيش الإسرائيلي المعبر، في انتهاك واضح لاتفاق السلام البالي بين مصر وإسرائيل. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أثار الهجوم الإسرائيلي على غزة، بدءاً من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، موجة من التعاطف والدعم للفلسطينيين، الذين يتعرضون لواحدة من أكثر الحروب الإسرائيلية وحشيّة في تاريخهم على الإطلاق. 

مظاهر التضامن موجودة في كل مكان؛ عرضت السيارات ملصقات دعم لغزة، ووضعت متاجر كثيرة أعلاماً فلسطينية في مقاره، وارتدى مصريون كثر “الكوفية” الفلسطينية، كما شهدت المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي مناقشات حامية عن تطورات الوضع. 

خطوات “فعالة” لدعم فلسطين

تطور هذا التعاطف إلى رغبة في الدعم الفعال، فأجرت نقابة الأطباء تدريباً على الإنقاذ والإغاثة، للأطباء الراغبين في التطوع لتقديم الرعاية الطبية للفلسطينيين، وأُطلقت حملات لجمع التبرعات في جميع أنحاء مصر، لتوفير الإمدادات الإنسانية لإرسالها إلى غزة، وتبادل ناشطو الإنترنت الحيل لخداع منصات التواصل الاجتماعي المتحيزة، التي حجبت محتوى المتعاطفين مع الفلسطينيين، أو حبستهم في جزر معزولة، لا يكاد أحد يرى ما يكتبونه، وانتشرت الدعوات إلى مقاطعة المنتجات المرتبطة بإسرائيل- على الرغم من تحذير جمعيات رجال الأعمال من أن العمال المصريين قد يفقدون وظائفهم- ما أضر بمبيعات شركات مثل “ستاربكس” و”ماكدونالدز” و”بيبسي”. 

قاطع بعض المثقفين والفنانين الأحداث الثقافية برعاية الاتحاد الأوروبي، وأُجّلت مناسبات ثقافية أخرى حداداً على الضحايا، وطالب اتحاد الناشرين، الناشرين المصريين بعدم المشاركة في “معرض فرانكفورت الدولي للكتاب” لإعلان إدارته دعمها لإسرائيل. وكانت المناسبات الرياضية فرصة للتعبير عن التضامن، إذ اهتزت مدرجات الملاعب الرياضية والشوارع المحيطة بها، بأصوات الآلاف من مشجعي فريقي الأهلي والزمالك لكرة القدم، بهتافات مؤيدة لفلسطين ومعادية لإسرائيل، واستُخدمت ألوان العلم الفلسطيني في زينة رمضان واحتفالات عيد الفطر في الشوارع.

غزة تُعيد النقابات المهنيّة إلى الحياة

بشكل غير متوقع، وفي جو سياسي خانق، أُعيد تنشيط التعبئة الشعبية، التي قتلها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي منذ عقد من الزمان، إذ رفع الصحافيون علماً فلسطينياً ضخماً، وصوراً للصحافيين الفلسطينيين الذين قتلوا في الحرب، على واجهة مبنى نقابتهم، ونظموا يومين للتضامن مع الشعب الفلسطيني، أحدهما في تشرين الأول/ أكتوبر والثاني في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضيين، تضمنت فعاليات اليوم الأول، تأريخاً للمقاومة الفلسطينية، ومعرضاً للصور ورسوم الكاريكاتير، وعرض فيلم عن الأحداث الجارية، أعده التلفزيون الفلسطيني. وبعد اختتام اليومين، شارك الحاضرون، بمن فيهم النقيب والكثير من أعضاء المجلس، في وقفة احتجاجية على سلم النقابة، تلتها وقفات أخرى عدة. 

ونظمت النقابة أيضاً، ندوات عدة عن القضية الفلسطينية، ومؤتمراً صحافياً حول رصد وقائع انحياز وسائل الإعلام الغربية، ومؤتمراً لتأبين قتلى الصحافة في غزة، ومؤتمراً للتضامن مع نساء غزة والسودان. كما منحت النقابة، رئيس مكتب قناة الجزيرة الفلسطيني وائل دحدوح، الذي فقد معظم أفراد أسرته، بمن فيهم زوجته وابنه، في الهجمات الإسرائيلية، “جائزة حرية الصحافة” كتقدير رمزي للصحافيين الفلسطينيين، الذين يخاطرون بحياتهم في غزة.

وبالتعاون مع عدد من النقابات المهنية، بما في ذلك الصيادلة والأطباء البيطريون وأطباء الأسنان والعلاج الطبيعي، نظمت نقابة الأطباء وقفة احتجاجية تضامناً مع أهل غزة. حذا المحامون حذوهم واحتجوا أكثر من مرة، أمام مقر نقابتهم في القاهرة وفي عدد من المحافظات، وأعلنت نقابة المهن التمثيلية، دعوة مماثلة للاحتجاج، ونظمت نقابة اتحاد الكتاب مؤتمراً بعنوان “فلسطين جوهر الصراع العربي الإسرائيلي” ووقفات تضامنية في القاهرة والدقهلية.

حاول المحامون تشكيل لجنة دعم لفلسطين ووضعوا خطة تضمنت رفع قضايا وعقد ندوات وتنظيم تظاهرات وقوافل شعبية، إلا أن الانقسام داخل النقابة الكبيرة، أعاق هذه الجهود، وتم الإعلان عن تحالف بين النقابات المهنية لتنسيق جهود التضامن بين الصحافيين والمحامين والمهندسين والأطباء، ولكن لم يكن في الواقع فعالاً.

وأطلق نقيب الصحافيين دعوة مفتوحة لتحالف دولي من المتطوعين للانضمام إلى “قافلة ضمير العالم”، تتوجه الى غزة لكسر الحصار وتكثيف الضغط لوقف إطلاق النار. 

كان من المفترض انطلاق القافلة في 24 تشرين الثاني، بمشاركة مندوبين من 65 دولة، بمن فيهم مهنيون طبيون وصحافيون وأعضاء منظمات الإغاثة وأعضاء الشبكات السياسية والبيئية والنسوية وحقوق الإنسان والنقابات العمالية. 

وقد استعد المئات من المواطنين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في هذه القافلة، من بينهم شخصيات عامة وبرلمانيون وفنانون وكتاب، ومع ذلك، لم تُصدر السلطات المصرية التصاريح الأمنية اللازمة، ما أدى إلى وأد المبادرة.

واعتقلت السلطات المصرية أربعة ناشطين أجانب، بينهم جون باركر، الذي ترشح لمقعد في مجلس الشيوخ في كاليفورنيا، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين، أرجنتيني وأسترالي وفرنسي، ورحّلتهم من البلاد، بعدما نظموا احتجاجاً أمام وزارة الخارجية، للحصول على التصاريح اللازمة للقافلة. وكان 15 حزباً ومنظمة حقوقية، قد دعت في وقت سابق، الحكومة المصرية إلى السماح للقافلة بالعبور إلى غزة، من دون جدوى.

مظاهر التضامن موجودة في كل مكان؛ عرضت السيارات ملصقات دعم لغزة، ووضعت متاجر كثيرة أعلاماً فلسطينية في مقاره، وارتدى مصريون كثر “الكوفية” الفلسطينية، كما شهدت المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي مناقشات حامية عن تطورات الوضع. 

“رجعوا التلامذة للجد”

وشهد عدد من  الجامعات تظاهرات متعددة، كما في جامعة القاهرة، وهي التظاهرات الأكبر منذ عقد، كما شهدت الجامعتان الألمانية والبريطانية أول تظاهرتين لهما منذ عشر سنوات.

وكان طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة الأكثر نشاطاً، إذ أرسلت رابطة طلاب الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم المصريات، رسالة إلى العميد، تعرب فيها عن “خيبة أمل الطلاب ولا مبالاة الجامعة، في ما يتعلق بالإبادة الجماعية المستمرة في غزة”، مطالبة إياه بـ”إصدار بيان يعلن التضامن، ويدين استهداف المدنيين في غزة، وإعفاء الطلاب الذين تأثروا بشكل مباشر بالحرب من الامتحانات والمهام، والمساعدة في جهود جمع التبرعات في الحرم الجامعي”. 

ونظمت المجموعة الطلابية نفسها، تظاهرة في 9 تشرين الأول الماضي، ونظمت مسيرة تضامن عبر الحرم الجامعي في 19 منه. ودعت طلاب الجامعة إلى المشاركة في إضراب عالمي في 11 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة. كما جمعت توقيعات على عريضة تطالب بمقاطعة الجامعة “أكسا للتأمين” و”إتش بي إنك” وأي شركة أخرى تدعم الفصل العنصري الإسرائيلي. وأدى ذلك إلى إلغاء إدارة الجامعة مشاركة ممثلي “أكسا” في معرض الوظائف في الجامعة. ونظمت المجموعة أيضاً، فعاليات ثقافية عدة، شملت محاضرات ومناقشات ومعارض وفاعلية ميكروفون مفتوح وعروض أفلام.

في 14 شباط/ فبراير الماضي، نظم نادي القدس الطلابي واتحاد الطلاب، تظاهرة في الحرم الجامعي، ونظم نادي القدس أيضا الكثير من الفعاليات الثقافية، بما في ذلك “أسبوع فلسطين” بين 17 و23 نيسان/ أبريل الماضي. وفي اليوم الثاني من الفعالية الثقافية، قام عدد من الطلاب بجولة في الحرم الجامعي، رافعين لافتة كتب عليها “أين تذهب أموالنا؟ الجامعة الأميركية في القاهرة تمول الإبادة الجماعية، #قاطعوا_ إتش_بي #قاطعوا_ أكسا”. وفي وقت لاحق، رفع أحد الطلاب لافتة على خشبة المسرح في نهاية ندوة بعنوان “لقاء القاهرة مع الخرطوم ورام الله في الروايات الأدبية” في حرم الجامعة في التحرير، وتكرر ذلك، عندما حاول العشرات من الطلاب المحتجين رفع اللافتة في ختام ندوة حول “عدم المساواة الاقتصادية في القاهرة”، التي عُقدت كجزء من مهرجان الثقافة التابع للجامعة، ولكن سرعان ما قوبلوا بقمع من الأمن الجامعي. ومع ذلك، تمكن أحد الطلاب من الصعود إلى مسرح “إيوارت” التذكاري، وبدأ بقراءة المطالب، فقطع أمن الجامعة الكهرباء، ورد الطلاب بالهتاف لفلسطين. وفي وقت لاحق، نشر الطلاب منشورات بمطالبهم في جميع أنحاء حرم القاهرة الجديدة، إلا أن أمن الجامعة أزال معظمها. واتخذت أندية الجامعة ورابطاتها قراراً جماعياً بالتركيز على القضية الفلسطينية، تحت اسم “حركة طلاب الجامعة من أجل فلسطين”، ليتم تنظيم مسيرات لمدة ثلاثة أيام متتالية، خلال أسبوع ذكرى النكبة في منتصف أيار/ مايو الماضي.

النخب السياسية بين الإحباط واليد المرتعشة

بعد اجتماع مجموعة من القوى الوطنية المصرية في مقر حزب “التحالف الشعبي”، تم الاتفاق على إحياء “اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، وكان الإصدار الثاني للجنة أضعف بكثير من الإصدار الأول، الذي نشأ في أواخر عام 2000 تأثراً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية “انتفاضة الأقصى”.

منذ نحو ربع قرن، عندما تأسست اللجنة، كان هامش الحرية أوسع بكثير، قمع الرئيس الأسبق حسني مبارك احتجاجات اللجنة في الشوارع، وأُحيطت بجحافل من الأمن المركزي، وتم القبض أحياناً على عدد من أعضاء اللجنة، ليتم إطلاق سراحهم بعد أيام قليلة، أما الآن فالاحتجاجات في الشوارع ممنوعة، وبعض الذين شاركوا فيها محتجزون منذ شهور، حتى اليوم.

لطالما كان عبور القوافل إلى فلسطين صعباً، لكن أعضاء اللجنة كان يمكنهم بسهولة الوصول إلى العريش لبدء التفاوض مع السلطات الأمنية هناك، الآن، أصبح مجرد دخول سيناء مهمة صعبة للغاية، وأقصى مكان يمكن الوصول إليه هو مدينة الإسماعيلية، وعند هذه النقطة، لا يمكن المرور عبر النفق الموصل إلى سيناء إلا بتصريح أمني.

كانت مهمة اللجنة في السابق أسهل بكثير، نتيجة للتغطية الإعلامية الكثيفة لأنشطتها، وحتى استضافة بعض قياداتها في التلفزيون الرسمي. حالياً، اللجنة ملزمة بالعمل وسط تعتيم إعلامي كامل، فوسائل الإعلام إما موجهة من النظام بشكل أو آخر، وإما محجوبة، وإما تمثل منصات دولية تعاني من تحيز أعمى ضد القضية الفلسطينية، حتى وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة “فيسبوك”، تعاني من التحيز نفسه.

حتى المهام الإنسانية مثل متابعة المرضى والجرحى الفلسطينيين، أصبحت محظورة بأمر من النظام، لا يستطيع أعضاء اللجنة زيارة الجرحى- الذين يعاملون مثل السجناء في المستشفيات المصرية- بشكل رسمي، ولم يعودوا قادرين على الضغط حتى لنقل الحالات الحرجة إلى مستشفيات أكثر تجهيزاً.

على المستوى الخاص، اللجنة عجوز؛ معظم أعضائها قد تجاوزوا الـ60، وهم محبطون بسبب ثورة مهزومة، وأقل ميلاً إلى المخاطرة، ويتفقون فقط على جهود الإغاثة من دون التحركات السياسية، وتُعزى صعوبة التوصل إلى توافق داخل اللجنة أيضاً، إلا أنه عند تأسيسها، كان تتألف أساساً من مستقلين، لكن معظم هؤلاء الآن أعضاء في أحزاب يريدون التحرك باسمها.

على رغم هذه العقبات كلها، تمكنت اللجنة من إرسال قافلتين إلى غزة، ظلت الأولى مركونة لمدة 21 يوماً في القاهرة في انتظار التصاريح الأمنية، وهو ما كلف نفقات إضافية كبيرة، وأما الثانية فبقيت شهراً كاملاً في المخازن قبل أن تتمكن اللجنة من إرسالها عن طريق “الأونروا”، كما نجح أعضاء اللجنة أيضاً، في التحايل لزيارة الجرحى الفلسطينيين في بعض المستشفيات وقدموا لهم الأدوية.

وفي خطوة أخرى، زار وفد من اللجنة شيخ الأزهر لمطالبته بالضغط، لوقف العدوان على غزة، وتقديم المساعدة الإنسانية بشكل فوري ومستمر، والمشاركة بنفسه، أو إرسال من يمثله في قافلة لكسر الحصار، وزارت وفود أخرى من اللجنة منظمة الصحة العالمية ومقر “الأونروا”، لمناقشة سبل التعاون لتحسين وصول المساعدات إلى غزة، كما زار وفد من اللجنة مقر المفوضية الأوروبية للتنديد بموقف الاتحاد الأوروبي من العدوان الإسرائيلي.

وفي أعلى تصعيد لخطوات اللجنة، نظمت وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة الخارجية، للمطالبة بعقد اجتماع مع الوزير، وجاءت الوقفة، بعد تأجيل الوزارة الموعد الذي كان محدداً، بين أحد سفرائها المعنيين بملف فلسطين ووفد من اللجنة، وسبق أن قُدّمَ بيان حمل توقيعات شخصيات مصرية وعربية، أكدوا فيه استعدادهم لمرافقة قوافل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، على مسؤوليتهم الخاصة.

من جانبها، نظمت أحزاب الحركة المدنية وقفتين احتجاجيتين رمزيتين، في الحضور والمدة، أمام السفارة البريطانية بدلاً من سفارة الولايات المتحدة، التي لم يتمكنوا من الوصول إليها بسبب الإجراءات الأمنية المشددة حولها، كما نظموا اعتصاماً رمزياً لمدة ثلاث ساعات، للتضامن مع الشعب الفلسطيني، في مقر حزب الكرامة، ومؤتمراً تضامنياً في مقر حزب المحافظين.

ونظم حزبا العيش والحرية (تحت التأسيس) والدستور قافلة مساعدات برفقة وفد كبير، قام بوقفة احتجاجية تضامنية عند المعبر، وأُطلقت حملة “مش رفاهية” بالتنسيق بين أحزاب العيش والحرية والاشتراكي المصري (تحت التأسيس) والديمقراطي الاجتماعي والدستور، وجمعت الحملة تبرعات عينية لاحتياجات النساء، وسلّموها في مقر الهلال الأحمر، وكان من المقرر إقامة وقفة احتجاجية تضامنية عند المقر، ولكن للأسف سُرِّب الخبر، فاضطر وفد الحملة إلى إلغائها.

ونظم حزب الدستور سحوراً تضامنياً مع فلسطين والسودان، وعقدت أحزاب التحالف الشعبي والعيش والحرية والكرامة والعربي الناصري، ندوات عدة حول مواضيع تتعلق بالقضية الفلسطينية.

 احتجاجات ترعاها الدولة!

منذ بداية الهجوم على غزة، اندلعت احتجاجات عفوية في شوارع القاهرة والمحافظات، تحت العين الساهرة لقوات الأمن، في بعض الحالات. وهاجمت الشرطة التظاهرات، التي لا تنظّم تحت جناح السلطة، واعتقلت بعض المتظاهرين، وفي حالات أخرى، طوقت الشرطة المتظاهرين من دون مهاجمتهم.

في 20 تشرين الأول الماضي، أعطى السيسي الضوء الأخضر لتظاهرات ترعاها الدولة في مواقع معتمدة في القاهرة ومدن أخرى، لمنحه “تفويضاً شعبياً” لرفض خطة إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

صدرت توجيهات من إدارات الجامعات ومختلف الوزارات للنزول إلى الشوارع، وتم حشد أعضاء اتحاد العمال الرسمي ونقابة موظفي الخدمة المدنية، وشاركت أيضاً في هذه التعبئة، النقابات المهنية المدعومة من الدولة، كنقابات المعلمين والأطباء والمهندسين، إضافة إلى الأحزاب والجمعيات الخيرية المتحالفة مع النظام. 

صدرت التعليمات بالتجمع عند استاد القاهرة، وتم توفير حافلات للوصول إلى موقع التجمع مجاناً، وتوافدت حافلات عليها شعار حزب مستقبل وطن، تنقل آلافاً يحملون صور السيسي إلى جانب الأعلام الفلسطينية، وبدأ منظمو الحدث، بتوجيه المشاركين، وإخبارهم إلى أين يذهبون وماذا يهتفون، لتشق المسيرة طريقها نحو النصب التذكاري للجندي المجهول، هناك، تم إعداد ميكروفونات ومنصة لوسائل الإعلام المعتمدة لتوثيق المشهد، بمساعدة مجموعة من الطائرات بدون طيار (درونز) التي حلقت فوق الحاضرين، وقد تكرر المشهد في محافظات عدة.

وفي اليوم نفسه، نُظِّم اعتصام على حدود رفح، شارك فيه المؤثرون المصريون عبر الإنترنت، وسُمح عقبه بمرور نحو عشرين شاحنة مساعدة، في رد فعل سريع ومثير للسخرية، نظراً الى ضآلة حجم المساعدات التي سمح بمرورها، ثم أغلقت الحدود مرة أخرى.

 إلا أن هذه خطوة السيسي هذه، جاءت بنتائج عكسية. إذ خرج بعض طلاب الجامعات من الجامعات إلى الشوارع، على رغم محاولة رجال الأمن إيقافهم، كما حدث في القاهرة والإسكندرية والمنيا.

وفي القاهرة والإسكندرية، اندلعت تظاهرات عفوية، جنباً إلى جنب مع التظاهرات التي ترعاها الدولة، وخلال التظاهرات العفوية، عبّر المتظاهرون عن غضبهم وإحباطهم ليس فقط من إسرائيل، ولكن أيضاً من نظامهم، بسبب موقفه المخزي من حرب غزة، واقتحم بعض هؤلاء صفوف الشرطة إلى ميدان التحرير، مكررين هتافات ثورة يناير 2011 وهتفوا “دي مظاهرة بجد مش تفويض لحد” في رد واضح على دعوة السيسي، وتم تفريق المتظاهرين من قوات مكافحة الشغب وآخرين بملابس مدنية، ومطاردتهم في الشوارع المحيطة، واعتقال بعضهم بشكل عشوائي.

واعتقلت قوات الأمن، في ما بعد، الكثير من الناشطين الذين اعتقدوا أنهم على صلة بهذه التظاهرات من منازلهم. 

وبين 20 و24 تشرين الأول الماضي، تم اعتقال 72 شخصاً على الأقل، من بينهم أربعة أطفال، في القاهرة والإسكندرية بموجب قوانين الإرهاب، ولم يتم إطلاق سراحهم حتى الآن.

بسبب هذه الاحتجاجات العفوية، تم حظر المزيد من الاحتجاجات في الأسبوع التالي، وبعد صلاة الجمعة في مسجد الأزهر، طوقت قوات الأمن التظاهرات المؤيدة لفلسطين، ومنعت أشخاصاً آخرين من الانضمام إليهم، وأمرت الشرطة المتظاهرين بالتفرق. وبعد ذلك هاجموا بالهراوات أولئك الذين بقوا أو هتفوا، واعتقلوا بعضهم، وتم أيضاً تفريق المتظاهرين في ميدان مصطفى محمود، وفي جامعات مختلفة.

في حين نجحت مسيرة نسائية، في مباغتة الأمن في يوم المرأة العالمي، واخترقت شوارع وسط القاهرة، بعدما انطلقت من أمام مقر اتحاد المرأة الفلسطينية، لدعم نساء غزة والسودان، قبل أن يحاصرها الأمن ويمنعها من استكمال طريقها ويفرقها.

لا أحد يعرف تحديداً، لماذا اتخذ السيسي قراراً بالسماح بالتظاهر في 20 تشرين الأول الماضي، ولكن الأحداث التالية أشارت إلى أنه كان في الغالب يحاول استخدام مشاعر المصريين المتأججة تجاه الفلسطينيين في غزة، لتعزيز شعبيته المتضائلة، قبيل الانتخابات الرئاسية، ولم يكن السيسي يخشى بالطبع النتيجة، فهي محسومة سلفاً، ولكنه كان يطمح الى تصوير نفسه كبطل شعبي حريص على الأمن القومي للبلاد، في محاولة لاستعادة مشهد 30 تموز/ يونيو 2013.  

كانت أحداث 20 تشرين الأول الماضي، بمثابة عملية جس نبض، لقياس مشاعر الشارع المصري ومدى توتره، وجاءت الدلائل لتؤكد مدى سهولة تحول تظاهرة عفوية إلى أخرى مناهضة للنظام، ونظراً إلى أنه من غير المتوقع أن تهدأ الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في مصر، ولا الحرب المستمرة على غزة، ولا الإحباط والغضب المتزايدين عند المصريين في أي وقت قريب، ولأن مسرحية الانتخابات الرئاسية، كانت قد انتهت وتم تنصيب السيسي للمرة الثالثة، يبدو أن قراراً قد اتخذ بألا حاجة لمزيد من المغامرة. 

القمع الناعم يتحول إلى قبضة حديدية

خلال شهر رمضان الفائت، دعت جماعة “صحافيين من أجل فلسطين” إلى وقفة احتجاجية أسبوعية على سلالم نقابة الصحافيين، كسر المشاركون صيامهم بالخبز والماء فقط احتجاجاً على تجويع الفلسطينيين في غزة، وتزامن موعد التظاهرة الأخيرة مع يوم تنصيب السيسي الثالث، كانت التحذيرات حاسمة: يجب تأجيل التظاهرة وإلا ستكون العواقب وخيمة. وبالفعل، تم تأجيل الوقفة الاحتجاجية لليوم التالي، مع ذلك، اعتقلت قوات الأمن أشخاصاً عدة وفتّشتهم بالقرب من نقابة الصحافيين بعد الاحتجاج، قبل إطلاق سراحهم. وبعد ساعات عدة، داهمت منازل 16 شخصاً، من بينهم فتاة، واعتقلتهم وصادرت كاميرات المراقبة حول منطقة الاعتقال، وأثناء الاحتجاز بتهم تتعلق بالإرهاب، تم الاعتداء على المعتقلين والتحرش بهم جنسياً داخل مقر الأمن الوطني، قبل أن يتم الإفراج عن 14 منهم، ولا يزال اثنان آخران رهن الاعتقال، بتهمة الانتماء الى تيار الأمل، التيار السياسي لأحمد طنطاوي، الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا إنه مُنع من جمع التوكيلات الشعبية اللازمة للترشح، ووجهت له ولعدد من أفراد حملته تهماً بتزوير التوكيلات، لتصدر ضده، هو وأفراد من حملته، أحكاماً بالسجن ويتم اعتقالهم في ما بعد لتنفيذ الحكم.

في 23 نيسان الماضي، حاول تجمع يضم حوالى عشرين ناشطة نسوية، معظمهن من الباحثات والمحاميات والصحافيات والطالبات، تسليم رسالة إلى المسؤولين في مكتب الأمم المتحدة للمرأة، للاعتراض على اللامبالاة تجاه الانتهاكات المرتكبة ضد المرأة خلال الحروب في السودان وغزة. فرقت قوات الأمن التجمع بعنف، وضربت المتظاهرات، وسرقت بعض هواتفهن، واعتقلت 16 امرأة منهن، كما قُبض على اثنين من الصحافيين، صادف مرورهما بالقرب من التجمع. أفرجت السلطات المصرية في وقت لاحق عن جميع المعتقلين بكفالة تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة آلاف جنيه، وضمان محل إقامة للمتهمين الذكور، بعد اتهامهم بالانضمام إلى جماعة غير قانونية والمشاركة في تجمع غير مصرح به.

تقدم عدد من المخلى سبيلهن، بعد شهر من الواقعة، ببلاغ إلى النائب العام بشأن عدد من الانتهاكات التي تعرضن لها وشهدنها، أثناء القبض عليهن وبعده، من بينها، استعمال القسوة أثناء القبض والاحتجاز، وعدم اتباع الخطوات المنصوص عليها قانوناً في فض التجمعات، كما شملت الاتهامات هتك عرض بعض المحتجزات أثناء تفتيشهن، والتحرش بهن أثناء الاحتجاز.

في 30 نيسان الماضي، تم اعتقال خمسة مصريين تجرأوا على رفع علم فلسطين على شرفات منازلهم في الإسكندرية، ومثلوا أمام نيابة أمن الدولة إلى جانب عامل لم يشارك في الواقعة، متهمين “بتأسيس جماعة إرهابية بهدف الإطاحة بالنظام”، والدعوة إلى تجمعات وبث أخبار كاذبة “لتعكير صفو السلام العام”. الرجال الستة ما زالوا رهن الاعتقال. 

في وقت سابق من الشهر نفسه، تم اعتقال ستة آخرين على الأقل، من بينهم طفلان، لكتابتهم عبارات دعم للفلسطينيين على كوبري بدار السلام جنوب القاهرة، وتم القبض على ما لا يقل عن 11 آخرين، بسبب بوستات نشروها لدعم الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، كما تم اعتقال أمين شرطة تسلّق لوحة إعلانية فوق إحدى البنايات في حي سيدي جابر في الإسكندرية، خالعاً بذته العسكرية علناً، هاتفاً ضد السيسي، ومتهماً إياه بالتخلي عن حقوق فلسطينيي غزة. وضربت قوات الأمن الرجل بعدما لجأت إلى سلم سيارة إطفاء، لإجباره على النزول ثم احتجزته، ولا يزال مكان وجوده غير معروف.  

في 5 أيار الماضي، تم تداول بيان وقعته حركة جديدة تسمى “طلاب لأجل فلسطين” على وسائل التواصل الاجتماعي، يدعو الطلاب في جميع أنحاء البلاد إلى الانضمام للحركة، وطالب البيان وزارة التعليم بـ”مقاطعة جميع المنتجات والشركات الداعمة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي”. وفي بيان ثانٍ، طالبت الحركة بـ”إعفاء الطلاب الفلسطينيين في مصر من الرسوم الدراسية”، وفي ثالث، نددت بـ”الغزو الإسرائيلي لمدينة رفح”. ورد النظام باعتقال ثلاثة من أعضاء هذه الحركة، واحتجزتهم نيابة أمن الدولة العليا لمدة 15 يوماً، وما زالوا محتجزين حتى اليوم.

سحق القمع الوحشي وغير المبرر تماماً حركة التضامن مع فلسطين، خوفاً من اتساع رقعة الحركة الاحتجاجية وتحوّلها إلى الشأن الداخلي، فتوقفت الاحتجاجات تماماً، ولم يحدث أي رد فعل، حتى بعد غزو رفح واحتلال الجيش الإسرائيلي المعبر، في انتهاك واضح لاتفاق السلام البالي بين مصر وإسرائيل. 

لكن ما زال البعض يحاول، إذ علقت نقابة الصحافيين صورة جندي قتيل في تبادل لإطلاق النار مع الجيش الإسرائيلي على الحدود، وتجاهلت آخر، فيما يصر النظام أنه قُتل بنيران صديقة، بينما أقامت أحزاب العيش والحرية والدستور تأبيناً شعبياً للقتيلين في مقر العيش والحرية، وعقدت لجنة التضامن مع الشعب الفلسطيني، لقاء مع عدد من نواب البرلمان لبحث سبل مواجهة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. 

من دون شك، كان القمع الجنوني هو سبب إخماد حركة التضامن مع فلسطين، لكن ربما إلى حين، كما سهّل إخماد الحركة، أنها كانت، للمرة الأولى، بلا مركز، إضافة إلى أنها لم تنجح في التوسع خارج الإطار التقليدي للناشطين، لعدم طرحها مبادرات ملهمة، تجذب المصريين الغاضبين، وهو ما يمكن تداركه. علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال أثر استئصال جماعة الإخوان المسلمين من الحياة السياسية والحياة العامة في مصر.

"درج" | 22.06.2024

قرارات إخلاء تعسفية…اللاجئون السوريون في لبنان في العراء أو أمام قوارب الموت!

تأتي قرارات "الإخلاء التعسفي" أو "الطرد"، في ظل تصاعد خطاب الكراهية ضد اللاجئين السوريين، من مختلف الأطراف السياسية في لبنان، التي تطالب بإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، أو نقلهم إلى بلد ثالث، أو ترحيلهم إلى بلدان الدول الأوروبية عبر قوارب هجرة شرعية.
21.06.2024
زمن القراءة: 14 minutes

سحق القمع الوحشي وغير المبرر تماماً حركة التضامن مع فلسطين، خوفاً من اتساع رقعة الحركة الاحتجاجية وتحوّلها إلى الشأن الداخلي، فتوقفت الاحتجاجات تماماً، ولم يحدث أي رد فعل، حتى بعد غزو رفح واحتلال الجيش الإسرائيلي المعبر، في انتهاك واضح لاتفاق السلام البالي بين مصر وإسرائيل. 

أثار الهجوم الإسرائيلي على غزة، بدءاً من السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، موجة من التعاطف والدعم للفلسطينيين، الذين يتعرضون لواحدة من أكثر الحروب الإسرائيلية وحشيّة في تاريخهم على الإطلاق. 

مظاهر التضامن موجودة في كل مكان؛ عرضت السيارات ملصقات دعم لغزة، ووضعت متاجر كثيرة أعلاماً فلسطينية في مقاره، وارتدى مصريون كثر “الكوفية” الفلسطينية، كما شهدت المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي مناقشات حامية عن تطورات الوضع. 

خطوات “فعالة” لدعم فلسطين

تطور هذا التعاطف إلى رغبة في الدعم الفعال، فأجرت نقابة الأطباء تدريباً على الإنقاذ والإغاثة، للأطباء الراغبين في التطوع لتقديم الرعاية الطبية للفلسطينيين، وأُطلقت حملات لجمع التبرعات في جميع أنحاء مصر، لتوفير الإمدادات الإنسانية لإرسالها إلى غزة، وتبادل ناشطو الإنترنت الحيل لخداع منصات التواصل الاجتماعي المتحيزة، التي حجبت محتوى المتعاطفين مع الفلسطينيين، أو حبستهم في جزر معزولة، لا يكاد أحد يرى ما يكتبونه، وانتشرت الدعوات إلى مقاطعة المنتجات المرتبطة بإسرائيل- على الرغم من تحذير جمعيات رجال الأعمال من أن العمال المصريين قد يفقدون وظائفهم- ما أضر بمبيعات شركات مثل “ستاربكس” و”ماكدونالدز” و”بيبسي”. 

قاطع بعض المثقفين والفنانين الأحداث الثقافية برعاية الاتحاد الأوروبي، وأُجّلت مناسبات ثقافية أخرى حداداً على الضحايا، وطالب اتحاد الناشرين، الناشرين المصريين بعدم المشاركة في “معرض فرانكفورت الدولي للكتاب” لإعلان إدارته دعمها لإسرائيل. وكانت المناسبات الرياضية فرصة للتعبير عن التضامن، إذ اهتزت مدرجات الملاعب الرياضية والشوارع المحيطة بها، بأصوات الآلاف من مشجعي فريقي الأهلي والزمالك لكرة القدم، بهتافات مؤيدة لفلسطين ومعادية لإسرائيل، واستُخدمت ألوان العلم الفلسطيني في زينة رمضان واحتفالات عيد الفطر في الشوارع.

غزة تُعيد النقابات المهنيّة إلى الحياة

بشكل غير متوقع، وفي جو سياسي خانق، أُعيد تنشيط التعبئة الشعبية، التي قتلها رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي منذ عقد من الزمان، إذ رفع الصحافيون علماً فلسطينياً ضخماً، وصوراً للصحافيين الفلسطينيين الذين قتلوا في الحرب، على واجهة مبنى نقابتهم، ونظموا يومين للتضامن مع الشعب الفلسطيني، أحدهما في تشرين الأول/ أكتوبر والثاني في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضيين، تضمنت فعاليات اليوم الأول، تأريخاً للمقاومة الفلسطينية، ومعرضاً للصور ورسوم الكاريكاتير، وعرض فيلم عن الأحداث الجارية، أعده التلفزيون الفلسطيني. وبعد اختتام اليومين، شارك الحاضرون، بمن فيهم النقيب والكثير من أعضاء المجلس، في وقفة احتجاجية على سلم النقابة، تلتها وقفات أخرى عدة. 

ونظمت النقابة أيضاً، ندوات عدة عن القضية الفلسطينية، ومؤتمراً صحافياً حول رصد وقائع انحياز وسائل الإعلام الغربية، ومؤتمراً لتأبين قتلى الصحافة في غزة، ومؤتمراً للتضامن مع نساء غزة والسودان. كما منحت النقابة، رئيس مكتب قناة الجزيرة الفلسطيني وائل دحدوح، الذي فقد معظم أفراد أسرته، بمن فيهم زوجته وابنه، في الهجمات الإسرائيلية، “جائزة حرية الصحافة” كتقدير رمزي للصحافيين الفلسطينيين، الذين يخاطرون بحياتهم في غزة.

وبالتعاون مع عدد من النقابات المهنية، بما في ذلك الصيادلة والأطباء البيطريون وأطباء الأسنان والعلاج الطبيعي، نظمت نقابة الأطباء وقفة احتجاجية تضامناً مع أهل غزة. حذا المحامون حذوهم واحتجوا أكثر من مرة، أمام مقر نقابتهم في القاهرة وفي عدد من المحافظات، وأعلنت نقابة المهن التمثيلية، دعوة مماثلة للاحتجاج، ونظمت نقابة اتحاد الكتاب مؤتمراً بعنوان “فلسطين جوهر الصراع العربي الإسرائيلي” ووقفات تضامنية في القاهرة والدقهلية.

حاول المحامون تشكيل لجنة دعم لفلسطين ووضعوا خطة تضمنت رفع قضايا وعقد ندوات وتنظيم تظاهرات وقوافل شعبية، إلا أن الانقسام داخل النقابة الكبيرة، أعاق هذه الجهود، وتم الإعلان عن تحالف بين النقابات المهنية لتنسيق جهود التضامن بين الصحافيين والمحامين والمهندسين والأطباء، ولكن لم يكن في الواقع فعالاً.

وأطلق نقيب الصحافيين دعوة مفتوحة لتحالف دولي من المتطوعين للانضمام إلى “قافلة ضمير العالم”، تتوجه الى غزة لكسر الحصار وتكثيف الضغط لوقف إطلاق النار. 

كان من المفترض انطلاق القافلة في 24 تشرين الثاني، بمشاركة مندوبين من 65 دولة، بمن فيهم مهنيون طبيون وصحافيون وأعضاء منظمات الإغاثة وأعضاء الشبكات السياسية والبيئية والنسوية وحقوق الإنسان والنقابات العمالية. 

وقد استعد المئات من المواطنين من جميع أنحاء العالم للمشاركة في هذه القافلة، من بينهم شخصيات عامة وبرلمانيون وفنانون وكتاب، ومع ذلك، لم تُصدر السلطات المصرية التصاريح الأمنية اللازمة، ما أدى إلى وأد المبادرة.

واعتقلت السلطات المصرية أربعة ناشطين أجانب، بينهم جون باركر، الذي ترشح لمقعد في مجلس الشيوخ في كاليفورنيا، بالإضافة إلى ثلاثة آخرين، أرجنتيني وأسترالي وفرنسي، ورحّلتهم من البلاد، بعدما نظموا احتجاجاً أمام وزارة الخارجية، للحصول على التصاريح اللازمة للقافلة. وكان 15 حزباً ومنظمة حقوقية، قد دعت في وقت سابق، الحكومة المصرية إلى السماح للقافلة بالعبور إلى غزة، من دون جدوى.

مظاهر التضامن موجودة في كل مكان؛ عرضت السيارات ملصقات دعم لغزة، ووضعت متاجر كثيرة أعلاماً فلسطينية في مقاره، وارتدى مصريون كثر “الكوفية” الفلسطينية، كما شهدت المقاهي ووسائل التواصل الاجتماعي مناقشات حامية عن تطورات الوضع. 

“رجعوا التلامذة للجد”

وشهد عدد من  الجامعات تظاهرات متعددة، كما في جامعة القاهرة، وهي التظاهرات الأكبر منذ عقد، كما شهدت الجامعتان الألمانية والبريطانية أول تظاهرتين لهما منذ عشر سنوات.

وكان طلاب الجامعة الأميركية في القاهرة الأكثر نشاطاً، إذ أرسلت رابطة طلاب الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم المصريات، رسالة إلى العميد، تعرب فيها عن “خيبة أمل الطلاب ولا مبالاة الجامعة، في ما يتعلق بالإبادة الجماعية المستمرة في غزة”، مطالبة إياه بـ”إصدار بيان يعلن التضامن، ويدين استهداف المدنيين في غزة، وإعفاء الطلاب الذين تأثروا بشكل مباشر بالحرب من الامتحانات والمهام، والمساعدة في جهود جمع التبرعات في الحرم الجامعي”. 

ونظمت المجموعة الطلابية نفسها، تظاهرة في 9 تشرين الأول الماضي، ونظمت مسيرة تضامن عبر الحرم الجامعي في 19 منه. ودعت طلاب الجامعة إلى المشاركة في إضراب عالمي في 11 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة. كما جمعت توقيعات على عريضة تطالب بمقاطعة الجامعة “أكسا للتأمين” و”إتش بي إنك” وأي شركة أخرى تدعم الفصل العنصري الإسرائيلي. وأدى ذلك إلى إلغاء إدارة الجامعة مشاركة ممثلي “أكسا” في معرض الوظائف في الجامعة. ونظمت المجموعة أيضاً، فعاليات ثقافية عدة، شملت محاضرات ومناقشات ومعارض وفاعلية ميكروفون مفتوح وعروض أفلام.

في 14 شباط/ فبراير الماضي، نظم نادي القدس الطلابي واتحاد الطلاب، تظاهرة في الحرم الجامعي، ونظم نادي القدس أيضا الكثير من الفعاليات الثقافية، بما في ذلك “أسبوع فلسطين” بين 17 و23 نيسان/ أبريل الماضي. وفي اليوم الثاني من الفعالية الثقافية، قام عدد من الطلاب بجولة في الحرم الجامعي، رافعين لافتة كتب عليها “أين تذهب أموالنا؟ الجامعة الأميركية في القاهرة تمول الإبادة الجماعية، #قاطعوا_ إتش_بي #قاطعوا_ أكسا”. وفي وقت لاحق، رفع أحد الطلاب لافتة على خشبة المسرح في نهاية ندوة بعنوان “لقاء القاهرة مع الخرطوم ورام الله في الروايات الأدبية” في حرم الجامعة في التحرير، وتكرر ذلك، عندما حاول العشرات من الطلاب المحتجين رفع اللافتة في ختام ندوة حول “عدم المساواة الاقتصادية في القاهرة”، التي عُقدت كجزء من مهرجان الثقافة التابع للجامعة، ولكن سرعان ما قوبلوا بقمع من الأمن الجامعي. ومع ذلك، تمكن أحد الطلاب من الصعود إلى مسرح “إيوارت” التذكاري، وبدأ بقراءة المطالب، فقطع أمن الجامعة الكهرباء، ورد الطلاب بالهتاف لفلسطين. وفي وقت لاحق، نشر الطلاب منشورات بمطالبهم في جميع أنحاء حرم القاهرة الجديدة، إلا أن أمن الجامعة أزال معظمها. واتخذت أندية الجامعة ورابطاتها قراراً جماعياً بالتركيز على القضية الفلسطينية، تحت اسم “حركة طلاب الجامعة من أجل فلسطين”، ليتم تنظيم مسيرات لمدة ثلاثة أيام متتالية، خلال أسبوع ذكرى النكبة في منتصف أيار/ مايو الماضي.

النخب السياسية بين الإحباط واليد المرتعشة

بعد اجتماع مجموعة من القوى الوطنية المصرية في مقر حزب “التحالف الشعبي”، تم الاتفاق على إحياء “اللجنة الشعبية للتضامن مع الشعب الفلسطيني”، وكان الإصدار الثاني للجنة أضعف بكثير من الإصدار الأول، الذي نشأ في أواخر عام 2000 تأثراً بالانتفاضة الفلسطينية الثانية “انتفاضة الأقصى”.

منذ نحو ربع قرن، عندما تأسست اللجنة، كان هامش الحرية أوسع بكثير، قمع الرئيس الأسبق حسني مبارك احتجاجات اللجنة في الشوارع، وأُحيطت بجحافل من الأمن المركزي، وتم القبض أحياناً على عدد من أعضاء اللجنة، ليتم إطلاق سراحهم بعد أيام قليلة، أما الآن فالاحتجاجات في الشوارع ممنوعة، وبعض الذين شاركوا فيها محتجزون منذ شهور، حتى اليوم.

لطالما كان عبور القوافل إلى فلسطين صعباً، لكن أعضاء اللجنة كان يمكنهم بسهولة الوصول إلى العريش لبدء التفاوض مع السلطات الأمنية هناك، الآن، أصبح مجرد دخول سيناء مهمة صعبة للغاية، وأقصى مكان يمكن الوصول إليه هو مدينة الإسماعيلية، وعند هذه النقطة، لا يمكن المرور عبر النفق الموصل إلى سيناء إلا بتصريح أمني.

كانت مهمة اللجنة في السابق أسهل بكثير، نتيجة للتغطية الإعلامية الكثيفة لأنشطتها، وحتى استضافة بعض قياداتها في التلفزيون الرسمي. حالياً، اللجنة ملزمة بالعمل وسط تعتيم إعلامي كامل، فوسائل الإعلام إما موجهة من النظام بشكل أو آخر، وإما محجوبة، وإما تمثل منصات دولية تعاني من تحيز أعمى ضد القضية الفلسطينية، حتى وسائل التواصل الاجتماعي، وبخاصة “فيسبوك”، تعاني من التحيز نفسه.

حتى المهام الإنسانية مثل متابعة المرضى والجرحى الفلسطينيين، أصبحت محظورة بأمر من النظام، لا يستطيع أعضاء اللجنة زيارة الجرحى- الذين يعاملون مثل السجناء في المستشفيات المصرية- بشكل رسمي، ولم يعودوا قادرين على الضغط حتى لنقل الحالات الحرجة إلى مستشفيات أكثر تجهيزاً.

على المستوى الخاص، اللجنة عجوز؛ معظم أعضائها قد تجاوزوا الـ60، وهم محبطون بسبب ثورة مهزومة، وأقل ميلاً إلى المخاطرة، ويتفقون فقط على جهود الإغاثة من دون التحركات السياسية، وتُعزى صعوبة التوصل إلى توافق داخل اللجنة أيضاً، إلا أنه عند تأسيسها، كان تتألف أساساً من مستقلين، لكن معظم هؤلاء الآن أعضاء في أحزاب يريدون التحرك باسمها.

على رغم هذه العقبات كلها، تمكنت اللجنة من إرسال قافلتين إلى غزة، ظلت الأولى مركونة لمدة 21 يوماً في القاهرة في انتظار التصاريح الأمنية، وهو ما كلف نفقات إضافية كبيرة، وأما الثانية فبقيت شهراً كاملاً في المخازن قبل أن تتمكن اللجنة من إرسالها عن طريق “الأونروا”، كما نجح أعضاء اللجنة أيضاً، في التحايل لزيارة الجرحى الفلسطينيين في بعض المستشفيات وقدموا لهم الأدوية.

وفي خطوة أخرى، زار وفد من اللجنة شيخ الأزهر لمطالبته بالضغط، لوقف العدوان على غزة، وتقديم المساعدة الإنسانية بشكل فوري ومستمر، والمشاركة بنفسه، أو إرسال من يمثله في قافلة لكسر الحصار، وزارت وفود أخرى من اللجنة منظمة الصحة العالمية ومقر “الأونروا”، لمناقشة سبل التعاون لتحسين وصول المساعدات إلى غزة، كما زار وفد من اللجنة مقر المفوضية الأوروبية للتنديد بموقف الاتحاد الأوروبي من العدوان الإسرائيلي.

وفي أعلى تصعيد لخطوات اللجنة، نظمت وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة الخارجية، للمطالبة بعقد اجتماع مع الوزير، وجاءت الوقفة، بعد تأجيل الوزارة الموعد الذي كان محدداً، بين أحد سفرائها المعنيين بملف فلسطين ووفد من اللجنة، وسبق أن قُدّمَ بيان حمل توقيعات شخصيات مصرية وعربية، أكدوا فيه استعدادهم لمرافقة قوافل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، على مسؤوليتهم الخاصة.

من جانبها، نظمت أحزاب الحركة المدنية وقفتين احتجاجيتين رمزيتين، في الحضور والمدة، أمام السفارة البريطانية بدلاً من سفارة الولايات المتحدة، التي لم يتمكنوا من الوصول إليها بسبب الإجراءات الأمنية المشددة حولها، كما نظموا اعتصاماً رمزياً لمدة ثلاث ساعات، للتضامن مع الشعب الفلسطيني، في مقر حزب الكرامة، ومؤتمراً تضامنياً في مقر حزب المحافظين.

ونظم حزبا العيش والحرية (تحت التأسيس) والدستور قافلة مساعدات برفقة وفد كبير، قام بوقفة احتجاجية تضامنية عند المعبر، وأُطلقت حملة “مش رفاهية” بالتنسيق بين أحزاب العيش والحرية والاشتراكي المصري (تحت التأسيس) والديمقراطي الاجتماعي والدستور، وجمعت الحملة تبرعات عينية لاحتياجات النساء، وسلّموها في مقر الهلال الأحمر، وكان من المقرر إقامة وقفة احتجاجية تضامنية عند المقر، ولكن للأسف سُرِّب الخبر، فاضطر وفد الحملة إلى إلغائها.

ونظم حزب الدستور سحوراً تضامنياً مع فلسطين والسودان، وعقدت أحزاب التحالف الشعبي والعيش والحرية والكرامة والعربي الناصري، ندوات عدة حول مواضيع تتعلق بالقضية الفلسطينية.

 احتجاجات ترعاها الدولة!

منذ بداية الهجوم على غزة، اندلعت احتجاجات عفوية في شوارع القاهرة والمحافظات، تحت العين الساهرة لقوات الأمن، في بعض الحالات. وهاجمت الشرطة التظاهرات، التي لا تنظّم تحت جناح السلطة، واعتقلت بعض المتظاهرين، وفي حالات أخرى، طوقت الشرطة المتظاهرين من دون مهاجمتهم.

في 20 تشرين الأول الماضي، أعطى السيسي الضوء الأخضر لتظاهرات ترعاها الدولة في مواقع معتمدة في القاهرة ومدن أخرى، لمنحه “تفويضاً شعبياً” لرفض خطة إسرائيل لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

صدرت توجيهات من إدارات الجامعات ومختلف الوزارات للنزول إلى الشوارع، وتم حشد أعضاء اتحاد العمال الرسمي ونقابة موظفي الخدمة المدنية، وشاركت أيضاً في هذه التعبئة، النقابات المهنية المدعومة من الدولة، كنقابات المعلمين والأطباء والمهندسين، إضافة إلى الأحزاب والجمعيات الخيرية المتحالفة مع النظام. 

صدرت التعليمات بالتجمع عند استاد القاهرة، وتم توفير حافلات للوصول إلى موقع التجمع مجاناً، وتوافدت حافلات عليها شعار حزب مستقبل وطن، تنقل آلافاً يحملون صور السيسي إلى جانب الأعلام الفلسطينية، وبدأ منظمو الحدث، بتوجيه المشاركين، وإخبارهم إلى أين يذهبون وماذا يهتفون، لتشق المسيرة طريقها نحو النصب التذكاري للجندي المجهول، هناك، تم إعداد ميكروفونات ومنصة لوسائل الإعلام المعتمدة لتوثيق المشهد، بمساعدة مجموعة من الطائرات بدون طيار (درونز) التي حلقت فوق الحاضرين، وقد تكرر المشهد في محافظات عدة.

وفي اليوم نفسه، نُظِّم اعتصام على حدود رفح، شارك فيه المؤثرون المصريون عبر الإنترنت، وسُمح عقبه بمرور نحو عشرين شاحنة مساعدة، في رد فعل سريع ومثير للسخرية، نظراً الى ضآلة حجم المساعدات التي سمح بمرورها، ثم أغلقت الحدود مرة أخرى.

 إلا أن هذه خطوة السيسي هذه، جاءت بنتائج عكسية. إذ خرج بعض طلاب الجامعات من الجامعات إلى الشوارع، على رغم محاولة رجال الأمن إيقافهم، كما حدث في القاهرة والإسكندرية والمنيا.

وفي القاهرة والإسكندرية، اندلعت تظاهرات عفوية، جنباً إلى جنب مع التظاهرات التي ترعاها الدولة، وخلال التظاهرات العفوية، عبّر المتظاهرون عن غضبهم وإحباطهم ليس فقط من إسرائيل، ولكن أيضاً من نظامهم، بسبب موقفه المخزي من حرب غزة، واقتحم بعض هؤلاء صفوف الشرطة إلى ميدان التحرير، مكررين هتافات ثورة يناير 2011 وهتفوا “دي مظاهرة بجد مش تفويض لحد” في رد واضح على دعوة السيسي، وتم تفريق المتظاهرين من قوات مكافحة الشغب وآخرين بملابس مدنية، ومطاردتهم في الشوارع المحيطة، واعتقال بعضهم بشكل عشوائي.

واعتقلت قوات الأمن، في ما بعد، الكثير من الناشطين الذين اعتقدوا أنهم على صلة بهذه التظاهرات من منازلهم. 

وبين 20 و24 تشرين الأول الماضي، تم اعتقال 72 شخصاً على الأقل، من بينهم أربعة أطفال، في القاهرة والإسكندرية بموجب قوانين الإرهاب، ولم يتم إطلاق سراحهم حتى الآن.

بسبب هذه الاحتجاجات العفوية، تم حظر المزيد من الاحتجاجات في الأسبوع التالي، وبعد صلاة الجمعة في مسجد الأزهر، طوقت قوات الأمن التظاهرات المؤيدة لفلسطين، ومنعت أشخاصاً آخرين من الانضمام إليهم، وأمرت الشرطة المتظاهرين بالتفرق. وبعد ذلك هاجموا بالهراوات أولئك الذين بقوا أو هتفوا، واعتقلوا بعضهم، وتم أيضاً تفريق المتظاهرين في ميدان مصطفى محمود، وفي جامعات مختلفة.

في حين نجحت مسيرة نسائية، في مباغتة الأمن في يوم المرأة العالمي، واخترقت شوارع وسط القاهرة، بعدما انطلقت من أمام مقر اتحاد المرأة الفلسطينية، لدعم نساء غزة والسودان، قبل أن يحاصرها الأمن ويمنعها من استكمال طريقها ويفرقها.

لا أحد يعرف تحديداً، لماذا اتخذ السيسي قراراً بالسماح بالتظاهر في 20 تشرين الأول الماضي، ولكن الأحداث التالية أشارت إلى أنه كان في الغالب يحاول استخدام مشاعر المصريين المتأججة تجاه الفلسطينيين في غزة، لتعزيز شعبيته المتضائلة، قبيل الانتخابات الرئاسية، ولم يكن السيسي يخشى بالطبع النتيجة، فهي محسومة سلفاً، ولكنه كان يطمح الى تصوير نفسه كبطل شعبي حريص على الأمن القومي للبلاد، في محاولة لاستعادة مشهد 30 تموز/ يونيو 2013.  

كانت أحداث 20 تشرين الأول الماضي، بمثابة عملية جس نبض، لقياس مشاعر الشارع المصري ومدى توتره، وجاءت الدلائل لتؤكد مدى سهولة تحول تظاهرة عفوية إلى أخرى مناهضة للنظام، ونظراً إلى أنه من غير المتوقع أن تهدأ الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في مصر، ولا الحرب المستمرة على غزة، ولا الإحباط والغضب المتزايدين عند المصريين في أي وقت قريب، ولأن مسرحية الانتخابات الرئاسية، كانت قد انتهت وتم تنصيب السيسي للمرة الثالثة، يبدو أن قراراً قد اتخذ بألا حاجة لمزيد من المغامرة. 

القمع الناعم يتحول إلى قبضة حديدية

خلال شهر رمضان الفائت، دعت جماعة “صحافيين من أجل فلسطين” إلى وقفة احتجاجية أسبوعية على سلالم نقابة الصحافيين، كسر المشاركون صيامهم بالخبز والماء فقط احتجاجاً على تجويع الفلسطينيين في غزة، وتزامن موعد التظاهرة الأخيرة مع يوم تنصيب السيسي الثالث، كانت التحذيرات حاسمة: يجب تأجيل التظاهرة وإلا ستكون العواقب وخيمة. وبالفعل، تم تأجيل الوقفة الاحتجاجية لليوم التالي، مع ذلك، اعتقلت قوات الأمن أشخاصاً عدة وفتّشتهم بالقرب من نقابة الصحافيين بعد الاحتجاج، قبل إطلاق سراحهم. وبعد ساعات عدة، داهمت منازل 16 شخصاً، من بينهم فتاة، واعتقلتهم وصادرت كاميرات المراقبة حول منطقة الاعتقال، وأثناء الاحتجاز بتهم تتعلق بالإرهاب، تم الاعتداء على المعتقلين والتحرش بهم جنسياً داخل مقر الأمن الوطني، قبل أن يتم الإفراج عن 14 منهم، ولا يزال اثنان آخران رهن الاعتقال، بتهمة الانتماء الى تيار الأمل، التيار السياسي لأحمد طنطاوي، الذي أعلن نيته الترشح للرئاسة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، إلا إنه مُنع من جمع التوكيلات الشعبية اللازمة للترشح، ووجهت له ولعدد من أفراد حملته تهماً بتزوير التوكيلات، لتصدر ضده، هو وأفراد من حملته، أحكاماً بالسجن ويتم اعتقالهم في ما بعد لتنفيذ الحكم.

في 23 نيسان الماضي، حاول تجمع يضم حوالى عشرين ناشطة نسوية، معظمهن من الباحثات والمحاميات والصحافيات والطالبات، تسليم رسالة إلى المسؤولين في مكتب الأمم المتحدة للمرأة، للاعتراض على اللامبالاة تجاه الانتهاكات المرتكبة ضد المرأة خلال الحروب في السودان وغزة. فرقت قوات الأمن التجمع بعنف، وضربت المتظاهرات، وسرقت بعض هواتفهن، واعتقلت 16 امرأة منهن، كما قُبض على اثنين من الصحافيين، صادف مرورهما بالقرب من التجمع. أفرجت السلطات المصرية في وقت لاحق عن جميع المعتقلين بكفالة تتراوح ما بين خمسة إلى عشرة آلاف جنيه، وضمان محل إقامة للمتهمين الذكور، بعد اتهامهم بالانضمام إلى جماعة غير قانونية والمشاركة في تجمع غير مصرح به.

تقدم عدد من المخلى سبيلهن، بعد شهر من الواقعة، ببلاغ إلى النائب العام بشأن عدد من الانتهاكات التي تعرضن لها وشهدنها، أثناء القبض عليهن وبعده، من بينها، استعمال القسوة أثناء القبض والاحتجاز، وعدم اتباع الخطوات المنصوص عليها قانوناً في فض التجمعات، كما شملت الاتهامات هتك عرض بعض المحتجزات أثناء تفتيشهن، والتحرش بهن أثناء الاحتجاز.

في 30 نيسان الماضي، تم اعتقال خمسة مصريين تجرأوا على رفع علم فلسطين على شرفات منازلهم في الإسكندرية، ومثلوا أمام نيابة أمن الدولة إلى جانب عامل لم يشارك في الواقعة، متهمين “بتأسيس جماعة إرهابية بهدف الإطاحة بالنظام”، والدعوة إلى تجمعات وبث أخبار كاذبة “لتعكير صفو السلام العام”. الرجال الستة ما زالوا رهن الاعتقال. 

في وقت سابق من الشهر نفسه، تم اعتقال ستة آخرين على الأقل، من بينهم طفلان، لكتابتهم عبارات دعم للفلسطينيين على كوبري بدار السلام جنوب القاهرة، وتم القبض على ما لا يقل عن 11 آخرين، بسبب بوستات نشروها لدعم الفلسطينيين على وسائل التواصل الاجتماعي، كما تم اعتقال أمين شرطة تسلّق لوحة إعلانية فوق إحدى البنايات في حي سيدي جابر في الإسكندرية، خالعاً بذته العسكرية علناً، هاتفاً ضد السيسي، ومتهماً إياه بالتخلي عن حقوق فلسطينيي غزة. وضربت قوات الأمن الرجل بعدما لجأت إلى سلم سيارة إطفاء، لإجباره على النزول ثم احتجزته، ولا يزال مكان وجوده غير معروف.  

في 5 أيار الماضي، تم تداول بيان وقعته حركة جديدة تسمى “طلاب لأجل فلسطين” على وسائل التواصل الاجتماعي، يدعو الطلاب في جميع أنحاء البلاد إلى الانضمام للحركة، وطالب البيان وزارة التعليم بـ”مقاطعة جميع المنتجات والشركات الداعمة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي”. وفي بيان ثانٍ، طالبت الحركة بـ”إعفاء الطلاب الفلسطينيين في مصر من الرسوم الدراسية”، وفي ثالث، نددت بـ”الغزو الإسرائيلي لمدينة رفح”. ورد النظام باعتقال ثلاثة من أعضاء هذه الحركة، واحتجزتهم نيابة أمن الدولة العليا لمدة 15 يوماً، وما زالوا محتجزين حتى اليوم.

سحق القمع الوحشي وغير المبرر تماماً حركة التضامن مع فلسطين، خوفاً من اتساع رقعة الحركة الاحتجاجية وتحوّلها إلى الشأن الداخلي، فتوقفت الاحتجاجات تماماً، ولم يحدث أي رد فعل، حتى بعد غزو رفح واحتلال الجيش الإسرائيلي المعبر، في انتهاك واضح لاتفاق السلام البالي بين مصر وإسرائيل. 

لكن ما زال البعض يحاول، إذ علقت نقابة الصحافيين صورة جندي قتيل في تبادل لإطلاق النار مع الجيش الإسرائيلي على الحدود، وتجاهلت آخر، فيما يصر النظام أنه قُتل بنيران صديقة، بينما أقامت أحزاب العيش والحرية والدستور تأبيناً شعبياً للقتيلين في مقر العيش والحرية، وعقدت لجنة التضامن مع الشعب الفلسطيني، لقاء مع عدد من نواب البرلمان لبحث سبل مواجهة اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل. 

من دون شك، كان القمع الجنوني هو سبب إخماد حركة التضامن مع فلسطين، لكن ربما إلى حين، كما سهّل إخماد الحركة، أنها كانت، للمرة الأولى، بلا مركز، إضافة إلى أنها لم تنجح في التوسع خارج الإطار التقليدي للناشطين، لعدم طرحها مبادرات ملهمة، تجذب المصريين الغاضبين، وهو ما يمكن تداركه. علاوة على ذلك، لا يمكن إغفال أثر استئصال جماعة الإخوان المسلمين من الحياة السياسية والحياة العامة في مصر.

21.06.2024
زمن القراءة: 14 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية