fbpx

مسرحية “غمّض عين فتّح عين”… هذا العالم سينتهي بضجّة مدوّية 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بداية العرض ونهايته هما تفجير المرفأ وما بينهما الحرب الأهلية، هنالك محاولة لوضع هذه المآسي على خط واحد أو كانعكاسات لبعضها، وأسفل هذه الأحداث الهائلة هنالك زوجان يهرولان لإنجاب طفل، أو يتشاجران بشأن زيارة عائلية.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الأثر الأعمق لخراب العالم لا يتحقق عند تصوير لحظة دماره بل عبر سرد رحلة بنائه، التي تكثف الزمن والذاكرة وتنحت العواطف الإنسانية، لتمنح الانهيار هالته القاسية. هذا المبدأ الذي يشبه تماماً لعبة أحجار الدومينو هو الاستعارة التي بنى عليها كل من سارة عبده وكريم الشبلي عرضهما “غمض عين فتح عين”، الذي يصوّر الرحلة السيزيفية لزوجين في صراعهما المستمر لتحقيق طموحاتهما البسيطة، على رغم الهزات السياسية والاجتماعية التي تضرب حياتهم. 

شهد العرض الذي استضافته خشبة مسرح “مونو” في بيروت، طوفاناً جماهيرياً متوقعاً، إذا ما أخذنا بالاعتبار شهرة الممثلين الكوميديين الذين يؤدونها، وأقصد هنا فؤاد يمين وسينتيا كرم. إضافة إلى الجاذبية الجماهيرية للقالب الميلودرامي والكوميدي الذي تنتهجه المسرحية.

يمثل العرض مرحلة النضوج الأخيرة لمشهد مسرحي تم تقديمه سابقاً بعنوان “نحنا وناطرين نوح”، وقد تم تطوير هذا المشهد إلى مسرحية بخمسة فصول تقتطع محطات زمنية يومية وحاسمة من حياة زوجين يعيشان في انتظار أبدي للسعادة.

الحمام كقاعة متعدّدة الاستعمالات 

ينطلق العرض بمشهد لعجوز يجلس في الحمام ويتابع صوراً لعارضات و”محتوى من هذا القبيل” على هاتفه، وزوجته التي تقتحم مساحته كل حين في نقاش مطول عن الابن الوحيد المهاجر (نوح). ثرثرة العجوزين التي تبدو وكأنها مكررة إلى ما لا نهاية، تدور حول لحظة عودة (الابن الضال) غير المؤكدة، والذي انفصل عن هوية العائلة وانحصرت علاقته بها على أساس الميراث فقط. هذه الفكرة تصبح المحرك الأساسي للحوار في هذا المشهد المتخم بالكوميديا مع الاشتغال على أداء نمطي في تجسيد صورة العجائز. 

على رغم صور الشيخوخة القاسية حد الهزل والانتظار العبثي، يتلون المشهد بعاطفة جذابة بين الزوجين تُبنى على أساس الذكريات والتشارك في اليوميات، وترتسم هذه العاطفة كمصدر وحيد ورهيف لمقاومة الوحدة.

صحيح أن الزوجة تحاول منع الزوج من بيع المنزل لابن أخيها، ولكنه يصر على ذلك ليس عقاباً للابن، بقدر ما هي محاولة منه لتأمين حياة زوجته عند رحيله بمبلغ مادي لا يشاركها أحد فيه. وعند نهاية المشاحنات بين الزوجين، نراهم يعانقان بعضهما، لتتمزق الخشبة بعدها على صوت انفجار مرفأ بيروت.

بعد ذلك، ينطلق العرض بحبكة أقرب الى المونتاج السينمائي برحلة زمنية نحو الخلف، إذ يعرض المشهد الثاني لحظة تأسيس المنزل ما قبل الزواج، فنرى العريس يقوم بإصلاحات في الحمام الذي يبقى مكان الحدث طيلة الخمسة مشاهد، في محاولة تكثيف خصوصيته داخل المنزل، فهو مكان لكشف اختبارات الحمل ومصادفة أعراض الأمراض، والملجأ أثناء القصف، والملاذ الأكثر استحواذاً على الوقت لدى المسنين. وقد تم رسم سينوغرافيا الحمام عبر ديكور متحرك فعال جداً على مستوى ديناميكية النقل بين المشاهد. 

في هذا المشهد، ينتظر العروسان لحظة زواجهما باعتبارها ديمومة السعادة، لكن تقف أمام استكمال هذا الحلم عوائق مادية تخص تجهيز المنزل. تقترح الخطيبة أن تساعد بهذا الخصوص رغم ممانعة الزوج المتأثر بأخلاق المجتمع الذكوري. أما المشهد الثالث فيقدم لنا حالة أخرى من الانتظار، وهذه المرة لإنجاب طفل بعد خمس سنوات من الزواج يحاصرها الضغط الأسري والاجتماعي، لتنذر الزوجة نفسها بأن ترتدي ثوب العذراء مريم لحين حصولها على الطفل. وفي الحمام، تتلمس دماء إجهاضها، ليعانقها الزوج رغم فشل الحمل “المقدس”. 

تم توظيف المشهدين الثاني والثالث لرسم صورة حياة بسيطة قدر الإمكان لزوجين من الطبقة الوسطى، منخرطين تماماً في أخلاقيات المجتمع ونظامه. هما النموذج الأكثر تكريساً للأسرة والأكثر وضوحاً وبساطة، مع لمسة من الكوميديا الزوجية بهدف خلق ألفة مع الشخصيات، لتكوين الصدمة العاطفية في ما بعد. فالشخصيات غير معدة لصراعات اجتماعية أو نفسية، ليس هدفها الصراع مع المؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية، إنها تحاول فقط العيش، وتعاطفنا اتجاهها قائم على وعينا بهشاشتها ومعرفتنا بأحلامها المبتذلة. 

ضمن لعبة المرايا التي ستتخذ أكثر من شكل في هذا العرض، نرى في المشاهد كافة أن العائلة مراقبة من أسرة تقطن في البناء المواجه. هذه الأسرة تتكون من أخ الزوجة وابنه الذي سيشتري منزل العائلة لاحقاً وزوجته. تمثل هذه الأسرة المسار الناجح على المستوى المادي والاجتماعي مقارنةً بالصورة التي نشهدها على الخشبة رغم وضاعتها الأخلاقية مقارنة بلطف الشخصيات التي نتابعها. تعيش العائلتان سباقاً عبثياً نحو نجاح اجتماعي، ويقتضي هذا السباق بالضرورة مراقبة مستمرة تجعل كل عائلة مقياساً لمدى نجاح الأسرة الأخرى.

على رغم صور الشيخوخة القاسية حد الهزل والانتظار العبثي، يتلون المشهد بعاطفة جذابة بين الزوجين تُبنى على أساس الذكريات والتشارك في اليوميات، وترتسم هذه العاطفة كمصدر وحيد ورهيف لمقاومة الوحدة.

لو لم تكن وحيداً لكان الانفجار أكثر رأفة

في المشهد الرابع، يتم الإعداد للفاجعة، ننتقل في الزمن لفترة الحرب الأهلية. الزوج يرتدي زي الميليشيا العسكري، منخرط تماماً في الصراع الحاصل. أما الزوجة فلا تزال على عاداتها الروحانية. وهذه المرة هنالك (نوح) الابن الذي يلعب خارج المنزل. يصر الزوج على الخروج للاطمئنان على رفاقه في الكتيبة، على رغم خطورة الوضع في الخارج. وعند مغادرته يحصل قصف للحي، نعلم بعدها أن الطفل بخير عند الجيران، أما الزوج فيبقى مصيره مجهولاً. 

تنسخ المسرحية الفصل الأول في مشهدها الختامي، إذ تدخل العجوز إلى المنزل على الحوار ذاته، لكن هذه المرة لا وجود لزوج يجادلها في الحمام بينما يتصفح جواله -إنها وحيدة تماماً- يُسقط هذا الأسلوب الميلودرامي القائم على عنصر المفاجأة، الانطباع الكوميدي عن الفصل الأول -وعن المسرحية ككل- ليفجر لحظة عاطفية عنيفة لدى الجمهور تتبدى من خلالها مشاعر الوحدة والفقدان. 

تجعل هذه الحبكة المستخدمة بكثرة في الأفلام السينمائية، الجمهور يعيد قراءة علاقة الزوجين عبر ربطها مع المدينة والحرب والفقدان والوحدة. ليتولد لديه شعور أقرب إلى اللوم بسبب ضحكه طيلة المسرحية. 

المسرح يعود الى وظيفته الأساسية

تندرج المسرحية تحت نوع الكوميديا الزوجية مع لمسة ميلودرامية تكسر هذا المستوى. وفي هذا الإطار، أخذ الأداء إيقاعاً سريعاً جداً – على الأقل في العرض الذي حضرته- فأنت أمام حوار أقرب الى لعبة تنس الطاولة من دون أي توقف.

 بناء سردي هدفه تركيب مواقف كوميدية مع استخدام تعليقات ساخرة، ذلك كله دفع الممثلين نحو تجسيد أنماط أدائية للعجائز. فلا شك في أن الصور النمطية المكرسة القادرة على توحيد صفات عامة، تستطيع خلق الشعور الجمعي بالحس الهزلي، ستكون الحل الأضمن لسماع صوت القهقهة طيلة العرض. ومن المؤكد أن هذا الشكل الأدائي والسردي ساعد في توسيع القاعدة الجماهيرية للعرض، وقد تم توظيفه بشكل ناجح. 

تُحسب للممثلين القدرة الهائلة على اللعب على مستويات زمنية عدة سواء عبر الجسد أو الظرف، وتجسيد حقب كاملة وليس فقط شخصيات. يضاف الى ذلك تركيز هائل للحفاظ على طاقة متفجرة وعاطفة مركبة طيلة العرض تناسباً مع إيقاع العرض الصاخب على مستوى المشاعر الداخلية والظرف المقترح.

الفكرة الأساسية لكل من شبلي وعبده هي تركيب هذا البناء الجذاب جماهيرياً على قصة تراجيدية المضمون، وتحميلها برسائل سياسية واجتماعية ضمن مستوى التعاطف وليس المساءلة أو التنقيب في السياسي البحت. 

لا أحاول التقليل من هذه الصبغة لصالح الفن ذي الخطاب المباشر والنزعة الصرفة نحو شتم الحرب أو الانفجار، فهذا العرض قائم على ثمن التذكرة، غير حاصل على أي منحة إنتاجية من المؤسسات الثقافية. وهذا ما جعل العرض يضع في المقام الأول وظيفته الأساسية كفنّ، وهي الترفيه. إنه يفكر في آلية تلقّي الجمهور قبل كل شيء، مدرك تماماً لخطورة الملل وقدرته على شل العرض، ولم يقلل نهج المسرحية الذي اعتبر الضجر هو شيطان المسرح، لم يقلل من الجودة مطلقاً، ولم يطرح أسئلة سطحية أو غير أخلاقية.

أعادت وظيفة الترفيه مبدأ الصنعة في المسرحية، فالجمهور لا يتعرض فقط لخطاب فكري أو استعارات هدفها إيصال رسائل ومضامين محددة، هنالك فوق هذا المستوى تفكير وعناية بالصنعة المسرحية، التي جعلت كل عناصر العرض وكلماته ذات ضرورة، واعتبرت الجمهور والشرط الزماني والجغرافي عناصر حاسمة لكيفية إدارة العمل.

انفجار المرفأ كمرآة للحرب الأهليّة

تتمثل الحرب أو الكارثة بلحظة واحدة قادرة على نسف الذاكرة كلياً وتدمير بناء أسري بأكمله، وعلى رغم ذلك لا تتحدث الشخصيات عن الإعصار السياسي أو الاجتماعي، فلا تتطرق الى مساءلة الحرب أو الانفجار. هي فقط أسيرة يومياتها وأحلامها الأسرية، راضخة كلياً للقواعد الاجتماعية المبتذلة، وترى القضايا السياسية أمراً قدرياً بالضرورة. 

على الخشبة شخصيتان تعتقدان أن السعادة مختبئة في مكان ما في المستقبل، متمركزة خارج الذاكرة والـ”هنا”، لذلك تعيشان حالة من الانتظار الأبدي من دون طرح أي سؤال عن الماضي. وأنت كمشاهد تتابع أثر الحرب عبر صوت واحد يدمر مسيرة طويلة من الأنتظار. والمضحك، أنه بعد ذلك تستمر الشخصيات بلعبة الانتظار ذاتها الى حين أن يقاطعها زلزال آخر.

ثنائية الهدم/ البناء شديدة الوضوح وتتعلق أساساً بمفهوم الزمن. البناء هو عملية مستمرة مهووسة بالمستقبل، يتكثف فيها الزمن من دون إدراك حقيقي للحظة الراهنة. أما الهدم فهو ثانية واحدة خارجة عن حدود الإرادة. تبدو الحرب كنيزك أو بركان تتجدد الحياة بعده كل مرة. وأثرها الحقيقي المتبقي هو الفقدان الذي يخصي السعادة البسيطة المتعلقة باليوميات والتشارك، وتجربتها القاسية تتعلق بالوحدة البشرية.

يتعلق تلمّسنا الحرب وانفجار 4 آب في هذه المسرحية بذاكرتنا نحن، لا بما تقدمه المسرحية من معلومات، لتصبح نقطة التماهي بيننا وبين الشخصيات هي ذلك الحدث.لا تقدم المسرحية خطاباً مباشراً عن القضية السياسية المتعلقة بالحرب أو التفجير، بل تناولتها عبر تشريح تطور أسرة من النواة إلى الموت. ليتجلى الأثر السياسي والاجتماعي عبر تفكيك مفردات هذه الأسرة اليومية، فالقصد الأساس ليس طرح أسئلة فكرية بقدر ما يتعلق بالشفقة والتعاطف مع هذه الشخصيات.

الحرب والمؤسسة الدينية الطائفية والخطاب الاجتماعي… كلها انسلت في حياة الشخصيات التي لم تفضّل المواجهة المباشرة مع هذا المجتمع ومؤسساته، بل ظلت أسيرة المأساة السياسية والاجتماعية الحاصلة. شخصيات هشة تماماً متوارية عن الواقع، وأسيرة أحلام صنعها المجتمع بالدرجة الأولى -سواء إنجاب الطفل أو الزواج- ومع إنقلاب العالم رأساً على عقب، نراها تخرج من التراب مجدداً وتستمر في الانتظار. 

تقريباً نحن في صدد شخصيات تشيخوفية الملامح في هشاشتها وأحلامها ومللها وانتظارها. لكن أسلوب الطرح الميلودرامي أعاد الشخصيات إلى مستوى الأنماط، وجرف النص باتجاه أكثر “حيوية” على مستوى التلقّي. 

بداية العرض ونهايته هما تفجير المرفأ وما بينهما الحرب الأهلية، هنالك محاولة لوضع هذه المآسي على خط واحد أو كانعكاسات لبعضها، وأسفل هذه الأحداث الهائلة هنالك زوجان يهرولان لإنجاب طفل، أو يتشاجران بشأن زيارة عائلية.