fbpx

سياسة “تعميم الأفواه”… المعنى الضائع في سوريا ولبنان

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إغراق السوشيال ميديا بالأخبار نفسها من قبل القائمين على سياسة “تعميم الأفواه” بكل أصنافها، يقودنا إلى”الحرمان من المعنى” وتهديد القدرة على الوصول إلى الحقيقة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تجيد الأنظمة العربية عموماً، والنظامان السوري واللبناني بخاصة، سياسة تكميم الأفواه، فـ”زوّار الفجر” منذ الاستقلال وحتى اليوم، كثروا أمام أبواب المواطنين، ولم يقلّوا للأسف. لكن، ما لم يكن في حسبان أجهزة مخابرات تلك الأنظمة، أن الأمور ستفلت منها، في خضم التطور الرقمي والتكنولوجي، وأن رقابتها، الخشبية الطابع، لن تطاول كل المساحات الافتراضية.

 في مقابل  ذلك، تُطلق هذه الأنظمة وأبواقها، سياسة يمكن تسميتها بسياسة “تعميم الأفواه”، والمقصود إغداق السوشيال ميديا بقنوات تُعيد وتعلك بنفس وجهات نظر الأحزاب السياسية والسلطات الدينية والأنظمة، التي توزع فيها الأحكام الدينية والأخلاقية على هذا وذاك، وتمنح غطاء سياسياً لمؤثر ما، وتعطي بركتها لمحتوى ما طالما أنه يتبع السياسة ذاتها. 

مصطلح “تعميم الأفواه” يعني أيضاً، أنه عندما تقرر جهة حكومية أو حزبية أو دينية ما، أن المثلية حرام وهي “شذوذ عن الطبيعة”، أو أن النزوح السوري استنزف الدولة اللبنانية ويهدد وجودها، أو أن هذا الرئيس أفضل من “داعش”، ستجد هذا القرار نفسه منشوراً عشرات المرات، يكرره إعلاميون وسياسيون ومطربون وممثلون ومخرجون ومؤسسات اجتماعية ودينية.

نحن أمام “اجترار” لكلام الجهة نفسه، وتعميم لرأي “السلطة” في موضوع محدد، لكن من دون تدخلها المباشر، بل عبر الاستفادة من الولاء الحزبي و الطائفي، أو ببساطة الخوف، ولا يعني ذلك أن السلطة لا تتدخل أحياناً للضغط على البعض أو غوايتهم بالمال والمناصب ليرددوا كلامها، وهذا بالضبط ما يمكن تسميته بـ”الأبواق الإعلامية”.

الجهات الدينيّة والسلطويّة تريد من مؤيدها، أن يتحدث/ينشر من دون تفكير حتى لو كان ما يتفوه به بلا روابط منطقية أو لغوية سليمة، وتريد منه أن يتحدث/ينشر من دون رويّة، يعني أن يُعمم معلومات من دون أن يتأكد من صحتها أو خطئها، فقط، لأنها أخبار صدرت عن جهة ما. 

“المؤيد” لا يعلم أنه بذلك يرتكب مغالطة الاحتكام إلى السلطة، وهي مغالطة منطقية، تقود مدعيها إلى العمى في تأييد ما يقوله/ينشره، سواء أكان جيداً أم سيئاً، فقط، لمجرد أنه صدر عن سلطة ما. أو ربما يعلم بدقة ما يقوله، لكنه يقوله على أية حال، المفارقة التي تشير إليها ليزا ويدن في تفسير قوة النظام السوريّ، إذ تقول إن قوة هذا النظام تكمن في قدرته على إجبار مؤيديه على قول ما هو غير منطقي،  سواء كنا نتحدث عن المطر كسبب لتظاهرات 2011، أو المؤامرة الكونية التي تستهدف سوريا.

يتشابه الأمر في لبنان، لننظر إلى الرأي الشائع عن اللجوء السوري، أو مشكلة الكهرباء، أو السياسات المالية للحاكم المركزي السابق رياض سلامة، هناك كمّ من الآراء حول الموضوع لا تعد ولا تحصى، إلا أنها لا تبتعد عن مصدرها الحزبي أو الديني أو السياسي، والأهم، لا تعتمد على الحقائق، بل الولاء الأعمى، بعبارة أخرى، ستكون هناك عشرات المواقع وآلاف الأقلام التي تكتب في محيط مصدرها، بالتالي كل تلك الآراء يمكن اختصارها بموقف أسيادها.

لا تسلم المواقع المناوئة لتلك الآراء من الوقوع في “الفخ” ذاته، حتى ولو صرّحت بأنها تقف بعيداً عن سياسة التعميم تلك أو اجترار رأي بخصوص مسألة من تلك المسائل، من أذى أبواق النظام، إذ تُدرِج الأخيرة، كل موقع مناوئ لها في خانة الخائن أو العميل وغيرها من التهم الجاهزة، وذلك لعدم إخبارها بالحقيقة التي نطق بها زعيم أو حزب ما، وأيضاً، نشرها أخباراً تعارض الأخبار الرسمية، الدينية منها والسياسية.

إغراق السوشيال ميديا بالأخبار نفسها من قبل القائمين على سياسة “تعميم الأفواه” بكل أصنافها، من الحملات الرقمية الممنهجة والذباب الإلكتروني إلى التغريد مع “صوت الحزب”، يقودنا إلى قصد آخر لهذه السياسة، غير الانتشار، وهو “الحرمان من المعنى”، لكن، ما هو الحرمان من المعنى؟ فهناك الحرمان من الكلام، الحرمان من القول، والحرمان من الكتابة. فما المقصود من هذا الفن؟

فن الحرمان من المعنى

في كتابه “الموجز في الإهانة”، يقرّ مؤلفه، برنار نويل، صاحب رواية “قصر العشاء الأخير”، التي عرّضته للمحاكمة، بأن القصة بدأت بكلمة، بابتكار كلمة، الرقابة على المعنى، “SENSURE” التي كانت بمحض المصادفة، ذات دلالة على الفور بالفرنسية وكانت، بمظهر كتابتها الخاطئة مقارنة بكلمة الرقابة، التقليدية، تثير الانتباه. كانت هذه الرقابة “CENSURE”، تعني على الدوام “الحرمان من الكلام”، وباتساع المعنى جميعَ القيود المفروضة على حرية التعبير، فيما هو من البديهي أن “الرقابة على المعنى التي ابتكرتها، أي برنار نويل، كانت تدين الحرمان من المعنى”.

 يستنتج نويل أن الغرب “اخترع وسائل ليُبطلَ بطريقة سرية مفعول الحرية الممنوحة لمواطنيه، وأبسط وسيلة لذلك هي خلط الأخبار والإكثار منها ليجعلها تفقد دلالتها… هكذا فإن الاستهلاكَ لم يكن يقصد إشباع الرغبة، بل كان يهدف فقط إلى الانتعاش الدائم للشهيّة”. 

إذا كان يحدث ذلك الخلط في بلدان يضمن القانون فيها حرية الفرد، فما هي الحال في دولنا العربية؟ إن النظامين الحاكمين في سوريا ولبنان، على تفاوت موضوع الحرية فيهما، فإنهما يلجآن إلى خلط الأخبار والإكثار منها لتفقد دلالتها، وهو سبيلهما الى تطبيق فن “الحرمان من المعنى”. 

هذان النظامان الأمنيان، لا يمكنهما مراقبة ملايين الناس، لذا، يعملان على تعميم قرار معين في مسألة معينة تشغل الرأي العام، فتنطلق أفواه السلطة في كل مكان، وتنشر القرار ذاته، وإن بصيغ مختلفة، ليتبناه بالمصادفة شخص مشهور، ثم يتلقفه صانع محتوى، ويتعثر فيه من لا علاقة له بالموضوع، يجد نفسه مضطراً “للتعبير عن رأيه” ضمن هذه المعمعة الافتراضية، بشيء لا يفقه به أصلاً، فينشر المنشور، ويظن أنه عبّر عن رأيه. هذا كله في ظاهره تعتبره السلطات جزءاً من حرية التعبير، لكنه غير ذلك تماماً، فهو خلط لكل الأوراق، وتمييع للقضية الأساسية.

أقرب مثال على مسألة خلط الأوراق وتمييع المطالب الأساسية للشعب، ما يجري في سوريا من ظهور لشخصيات تعتبر نفسها “معارضة داخلية”. إذ نشر عدد من “الناشطين” من الساحل على السوشيال ميديا، مثل شخصية “برهوم”، فيديوات يعبر فيها عن “مطالب الشعب السوري” بحسب اعتقاده، يبدو فيها أنه يتكلم بجرأة، لكنه، في كل مرة يردد السردية نفسها للمعارضة التي تصنعها المخابرات السورية، وهي أن كل المطالب “يجب أن تكون تحت سقف الوطن وقائد الوطن”، وقبل ذلك، “لا بد من تحية للجيش السوري وتنحيته عن ألعاب السياسة، فهو بطل”. غير ذلك، فمصيرك الاعتقال، كما جرى مع الناشط المعارض أيمن فارس ابن الساحل السوري، الذي اعتقله النظام، بعدما نشر فيديوات يتحدى فيها بشار الأسد شخصياً ويطالب بالقصاص من زوجته أسماء بعدما عاثت في سوريا فساداً ونهباً بحسب فارس.

غياب المعنى لا يعني غياب الحقيقة كلياً، بل إرباك من يحاول البحث عنه، إذ تحولت من شأن بديهي إلى رحلة بحث، وعراك بين مئات بل آلاف الأخبار والتحليلات، تلك التي ترتدي ثياب أشخاص عاديين “من الشعب” أو أشخاص “ذوي تأثير”، خصوصاً أن الثقة مهزوزة بوسائل الإعلام والأشخاص، وأسلوب إنتاج الدليل والإدانة، ما يتركنا أمام سؤال، شديد البساطة: من يستحق الثقة من حولنا ؟.

ديانا مقلد - صحافية وكاتبة لبنانية | 13.05.2024

قضية شادن فقيه: لسنا جاهزين للسخرية لكننا مستعدون لهدر الدم!

في بلدنا، يتم إعلاء شأن الانتماء الطائفي وجعله محوراً للحياة السياسية والاجتماعية، ما يجعل لتهمة ازدراء الأديان حساسيتها وسطوتها في آن، فيسهل إشهارها في وجه أي شخص يخرج عن السياق العام الخاضع لتلك المنظومة، فكيف إذا كان هذا الشخص "امرأة" لها هويتها الجنسية المثلية المعلنة لتكون هدفاً سهلاً يودّ كثيرون رجمه.