fbpx

مصادفة أن تبقى حياً في غزة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الحرب الآن في غزة هي حرب البقاء على قيد الحياة، لكن لا أعرف ما هي أدوات الحفاظ على البقاء، الأمر لا يتعلق بالطعام والشراب والدواء والمياه، هذه حروب جانبية مع انتظار الموت، ومع ذلك نتمسك بتوفير هذه الحاجات الأساسية الشحيحة للصمود، فالصبر هو السلاح الوحيد للناس.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

توفيت حليمة ابنة عمي عن 70 عاماً، كانت تسكن في مخيم جباليا للاجئين ثم نزحت إلى مخيم دير البلح، حيث أقامت في منزل ابنتها. لم أتمكن من وداعها، وممارسة طقوس الحداد بالصمت أو البكاء. أما استعادة ذكرياتي معها، وهذا ما يفعله المكلومون، فهي ترف لا تمنّ علينا به الطائرات الإسرائيلية.

 شعرت أنني فقدت إحساسي وإنسانيتي، ومن المستحيل الاتصال هاتفياً بأبناء عمي، شقيقتها وشقيقها الأكبر منها الذي يبعد منزله عن مكان لجوئي في مخيم رفح أقل من 500 متر، أو الاتصال ببناتها وأولادها المشتتين في أماكن مختلفة ومواساتهم، تمكنت فقط من الاتصال بابن عمي وزوج ابنتها، الذي أتمّ مع أختها الكبرى وابنها مراسم الدفن.

 ساعات النهار والليل تسير ببطء هنا في رفح. الليل قاسٍ. قصف الطيران الحربي الإسرائيلي لم يتوقف، واستهداف المدنيين مستمر، وسماع الأخبار قاس. أتقصّى أخبار الأقارب والأصدقاء بما يتوافر من بطاريات الهواتف المحمولة أو شبكة الاتصال. أخاف إجراء الاتصالات خشية سماع أخبار مفجعة، أكتشف إثرها أني ما زلت على قيد الحياة بالمصادفة.

أكتفي للاطمئنان على الاصدقاء بالرسائل النصية “كيف حالكم وطمنونا عنكم” ويكون الرد بعبارات قليلة: “الحمد لله نحن بخير”. نخاف أن نرد بعبارات أكثر، اذ قد تنطوي المبالغة على فأل شؤم قد يثمر عكس ما أرسلناه. 

على الرغم من القصف والقتل المستمر، والبيوت المكتظّة بالنازحين من مدينة غزة وشمالها، وعلى رغم طلب الجيش الإسرائيلي من النازحين التوجه الى جنوب القطاع، إلا أن القصف يلاحق النازحين. الناس في الشوارع بسبب ازدحام البيوت المزدحمة أصلاً. 

ما يجري هنا غريب، الأسواق مكتظة ، يحاول الناس شراء ملابس بعدما غادروا منازلهم على عجل، إنه التسوق تحت القصف. التسوق هو نوع من إقناع النفس بأننا ما زلنا على قيد الحياة.

اليوم السابع عشر هو الأكثر دموية. تدمير منازل المواطنين متواصل بزخم أكبر، بخاصة في رفح وفي جميع مدن القطاع ومخيماته. الكلمات لا تكفي. لا أستطيع التعبير عن حقيقة الكارثة وحجمها.

 الحرب الآن هي حرب البقاء على قيد الحياة، لكن لا أعرف ما هي أدوات الحفاظ على البقاء، الأمر لا يتعلق بالطعام والشراب والدواء والمياه، هذه حروب جانبية مع انتظار الموت، ومع ذلك نتمسك بتوفير هذه الحاجات الأساسية الشحيحة للصمود، فالصبر هو السلاح الوحيد للناس.

الوقود شريان الحياة الأهم في قطاع غزة، من دونه لا تصل المياه الشحيحة ولا الكهرباء والإنترنت، بينما إسرائيل تفرض عقوبات جماعية وتفرض قيوداً صارمة على إدخاله مع المساعدات الإنسانية القليلة التي تمثل نقطة في بحر النازحين واللاجئين، أما العالم فلا يستطيع الضغط على دولة الاحتلال.

بينما يحاول الناس البقاء على الحياة، يسود العالم نفاق وكذب وخداع وتضليل وأسطوانة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. ما يجري هو عقاب جماعي، أكثر من 5000 قتيل والعدد في ارتفاع، والعالم يتعامل معهم كأرقام لا كضحايا الحرب الإسرائيلية.

خطاب الإعلام الإسرائيلي يتبنى الحرب والدمار والخراب والاحتفاء بالقتل، والصحافيون والمعلقون العسكريون والسياسيون الإسرائيليون تخلوا عن مهنتهم ليمارسوا القتل بالكلمات والتحريض، يتحدثون وكأنهم يقودون الطائرات الحربية والدبابات، من دون أي إشارة الى قتل المدنيين.

في رفح، وصل عدد القتلى إلى 500، وطواقم الإنقاذ تتجه فقط نحو من يتنفس من المصابين، وتؤجل إنقاذ الآخرين الذين يعتقد أنهم قُتلوا الى حين آخر، والسبب عدم وجود رافعات ومعدات خاصة بالإنقاذ.

يوم الاثنين 23 تشرين الأول/ أكتوبر، بدأت التفكير منذ الصباح بكيفية توفير المياه التي أوشكت على النفاد، إذ استطعنا قبل أربعة أيام توفير 4 آلاف ليتر من المياه للاستخدام اليومي، عدا عن توفير غالونات مياه الشرب التي نستهلك منها نحو 32 ليتراً يومياً، لكن اليوم، العطش قريب، ولا بد من ماء.

الخضروات متوافرة وقد تكفي لأيام، إذ ما زالت بعض المزارع تنتج الخضروات رغم القصف والخوف، لكن البضائع الغذائية الأساسية على وشك النفاد، وتعمل “الأونروا” على توزيع الطحين على المخابز مقابل الحصول على حصة من الخبز للنازحين في مراكز الإيواء المكتظة بالناس الذين توفِّر لهم فقط مكاناً للنوم، من دون تقديم الخدمات أو توفير احتياجات الناس من طعام ومياه وحمامات.

لا حماية من القصف في هذه المراكز، فجميع المؤسسات الدولية، وبخاصة “الأونروا”، انهارت، والخطط الطارئة وخطط الاستجابة لمساعدة النازحين معدومة، والموظفون الدوليون اختفوا أو غادروا القطاع.

في زمن الحرب والقتل، يغيب خطاب حقوق الإنسان، ويتحول القانون الدولي إلى حملة علاقات عامة ووسيلة لضبط المصالح بين الدول، وتبرير القتل وتجويع الفلسطينيين في غزة، والتعامل معهم بعنصرية، وإنكار العدالة وحقهم في الحياة.