fbpx

“الإفراط” الفرنسي في التصدّي لمعاداة الساميّة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لم تكن فرنسا لتشهد هذا الجدل لولا ماضيها في معاداة السامية، والذي يعتبر علامة سوداء في سجل هذا البلد, لكن هل يبرر هذا الماضي الافراط الذي نشهده لدرجة انكار ارتكابات اسرائيل؟

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر، حلّ رئيس الوزراء الفرنسي السابق دومينيك دوفيلبان، ضيفاً على محطة TMC. بعد عرض تقرير عن خشية نجوم هوليوود، المنحازين الى الجانب الفلسطيني، من الإدلاء برأيهم حيال الأحداث الجارية في الشرق الأوسط، علّق دوفيلبان على ما عُرض قائلاً: “يلحظ تقريركم طغيان الهيمنة المالية على الإعلام والفن، بدليل عجزهم (أي الفنانين) عن البوح بآرائهم، خشية من فسخ عقود العمل”. 

ما أدلى به دوفيلبان، لا سيما الشق المتعلق بالهيمنة المالية، احتمل تأويلات متضاربة وصلت إلى حد اتهامه بمعاداة السامية. الجدل أشعلته محطة BFMTV التي بادرت إلى تخصيص فقرة خاصة عنوانها “الهيمنة اليهودية: دوفيلبان يثير الجدل”. خلال تلك التغطية، استعاد الصحافي ماتيو كرواساندو مداخلة رئيس الوزراء السابق قائلاً: “دوفيلبان أدان الهيمنة المالية اليهودية على المؤسسات الغربية”. 

رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا رأى أن دوفيلبان، عن إدراك أو عدم إدراك، تلفّظ بكلمات معادية للسامية: “حتى لو لم يسميهم على نحو مباشر، أشار بكلامه إلى اليهود، مقدماً إياهم بصورة المتحكّمين بالنظام المالي العالمي وبمجالي الإعلام والفنون”. 

إريك سيوتي سارع إلى التعبير عن صدمته مما ورد على لسان دوفيلبان. سيوتي الذي يرأس حزب الجمهوريين، وريث الديغولية، لم يتهم دوفيلبان مباشرة بمعاداة السامية، لكن كلماته الغامضة تذكرنا بنظريات مؤامرة وتعيدنا إلى حقبات مظلمة”، على حد تعبيره. بخلاف سيوتي، غرد جاك أتالي، الكاتب والمستشار السابق للرئيس فرانسوا ميتران، معتبراً أن دوفيلبان أطلق العنان لمعاداته السامية التي أخفاها طويلاً. 

في المقابل، هبّت جهات عدة للدفاع عن رئيس الوزراء السابق الذي لم يتلفظ بعبارة “اليهودية”، ما طرح علامة استفهام كبيرة عما إذا كانت غاية BFMTV افتعال الجدل. 

ذلك كان رأي الصحافي دانيال شنيدرمان، الذي هاجم المحطة المذكورة التي لم تكتف باجتزاء المقطع المصور، بل اقترفت خطيئة مهنية بادعائها أن دوفيلبان ذكر حرفيا “الهيمنة اليهودية”. شنيدرمان ألمح الى أن الغاية من التصويب على دوفيلبان هي إثارة لغط لمحاكمته إعلامياً، إدراكاً منهم لعدم امتلاكهم أي دليل يدينه قضائياً. 

من جهتها، لم تجد ناتاشا بولوني، مديرة تحرير صحيفة Marianne، في تلك الحملة، سوى مناورة لإسكات هذا الصوت المتمايز والقادر على مقاربة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي من منظور تاريخي- جيوسياسي. بولوني وضعت الحملة في خانة المسعى الأيديولوجي الرامي إلى فرض خيارين على الفرنسيين: إما الانحياز إلى الفريق الأطلسي وإما إلى فريق معاداة السامية المتمثل بجان لوك ميلانشون، على حد تعبيرها. بولوني وصفت ما أقدمت عليه BFMTV بعملية “تضليل إعلامية” غايتها إسكات أي صوت يغرد خارج تلك الثنائية. 

ما يدعم هذا الرأي، هو مداخلات دوفيلبان التي تحظى بنسب متابعة مرتفعة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر. برأي صحيفة Le Parisien، يختزل الرجل “صورة بطولية”، تعود الى خبرته في السياسة الخارجية. مقاربته الملفات الدولية لا ترتبط بأية حسابات داخلية وتتمايز عما يصدر عن الطبقة السياسية. 

بلوغه تلك المكانة مرده الى خطابه الشهير في مجلس الأمن الدولي يوم 14 شباط/ فبراير 2003، إبان تولّيه وزارة الخارجية، وعبر فيه عن موقف بلاده الرافض غزو العراق، وفقاً للصحيفة الفرنسية.

الباحث المتخصص في الدعاية السياسية والعلاقات الدولية جان كريستوف غاليان، اتخذ موقفاً وسطياً. في اتصال مع “درج”، وصف الصورة بالمعقّدة: لم ترد عبارة إسرائيل أو اليهود على لسان دوفيلبان، لكنه استخدم مصطلحات تعيدنا بالذاكرة إلى ما كان يتهم به اليهود في الماضي، ما يفسر الصدى الإعلامي لتلك المقابلة. 

ما أدلى به غاليان لـ”درج”، ينسجم مع ما ورد في صحيفة Libération اليسارية التي وصفت اتهام دوفيلبان بمعاداة السامية بـ “انعدام النزاهة الفكرية”. برأي جوناتان بوشيه – بيترسون، أساء دوفيلبان اختيار عباراته، ما وفر لخصومه ذريعة لمهاجمته، ملمحاً الى أن الدافع وراء تلك الحملة هو اعتداله ومواقفه الداعية إلى حل سلمي على أساس الدولتين.

في الواقع، لم تكن فرنسا لتشهد هذا الجدل لولا ماضيها في معاداة السامية، والذي يعتبر علامة سوداء في سجل هذا البلد، “مهد حقوق الإنسان”. 

كالكثير من المجتمعات والدول، انطوت معاداة السامية في فرنسا على ثلاثة أبعاد: البعد الأول ديني، لتحميل اليهود مسؤولية صلب المسيح. الثورة الفرنسية فتحت تدريجياً الباب أمام إنهاء التمييز بحقهم، لكن توجب انتظار العام 1846 لتختفي آخر النصوص القانونية التي كانت تميز اليهود، من دون أن يعني ذلك انحسار معاداة السامية. 

بلغ هذا الوجه مداه إبان الجمهورية الثالثة الفرنسية، نهاية القرن التاسع العشر، مع إحياء الخطاب الداعي إلى علمنة المؤسسات والتشريعات والمجتمع. استنفرت المؤسسات الكاثوليكية للتصويب على اليهود واتهامهم ببسط سيادتهم على العالم عبر إضعاف نفوذ الكنيسة. انتشر هذا الخطاب في الأوساط الشعبية، كما عملت بعض الأوساط الثقافية على تسويقه، بخاصة كتاب إدوارد درومون “فرنسا اليهودية” الصادر عام 1886.    

قضية دريفوس كانت المثال الأوضح على استفحال معاداة السامية في تلك الحقبة: في العام 1894، اتُّهم الضابط اليهودي ألفرد دريفوس بالتجسّس لصالح الألمان، لتظهر براءته بعد 12 عاماً من محاولة إدانته بكل السبل. هويته اليهودية كانت بنظر البعض دليلاً على انعدام وطنيته وانتمائه الفرنسي، لتنتشر دعاية مفادها: مع هيمنة اليهود على المصارف والإدارة والقضاء، سيتحولون إلى أسياد البلاد بمجرد تحكّمهم بالجيش. 

قضية أدت إلى أزمة سياسية وشرخ اجتماعي وفضيحة قضائية. تتضارب آراء المؤرخين حول مدى تأثيرها على ثيودور هرتزل وطروحاته، ويشير آخرون إلى توظيف الحركة الصهيونية تلك القضية: إذا كان اليهود يلقون هذه المعاملة في بلد حقوق الإنسان، فأي مصير ينتظرهم في البلدان الأخرى؟ 

البعد الآخر لمعاداة السامية كان اقتصادياً، جسّده الاشتراكيون في خضم الثورة الصناعية وما نتج منها من فروقات اجتماعية. انهيار بورصة باريس في العام 1882 عزز هذا الانطباع: أدين أوجين بونتو، مؤسس مصرف Union Générale، بعمليات مصرفية أفضت إلى هذا الانهيار. كما أشار مؤرخون إلى نية بونتو، بدعم من الكنيسة الكاثوليكية والجيش والأرستقراطية، إنهاء هيمنة المصارف اليهودية والبروتستانتية على السوق المالية الباريسية. لكن دعاية مضادة نجحت في نسج رواية مغايرة ألقت بالمسؤولية على المتموّلين اليهود.

أما الأكثر فداحة، فكان معاداة السامية ذات الوجه العنصري، إذ كانت لكتاب فرنسيين مساهمة في التسويق لتسلسل هرمي للأعراق: من خلال مقالته المنشورة في العام 1853 بعنوان “عدم مساواة الأجناس البشرية”، ألهم أرتور دو غوبينو تياراً واسعاً من معادي السامية وشكل مضمونها، حجة من الحجج المشككة في براءة الضابط دريفوس.  

هتلر وفيشي

وبالحديث عن معاداة السامية، يستحيل إغفال مساهمة السلطات الفرنسية، إبان الاحتلال النازي، في ترحيل آلاف اليهود إلى معسكرات الاعتقال. أشهرها ما عُرف بحملة Vél d’hiv حين ألقت الشرطة الباريسية القبض على نحو 13 ألف يهودي، ليلة 16 تموز/ يوليو 1942، ورحّلتهم إلى معسكر أوشفيتز. 

أياً تكن دوافع حكومة فيشي وأجهزتها وحججها الدفاعية، تلطخت يد فرنسا في عملية إبادة اليهود وتوجب الانتظار حتى العام 1995 ليقرّ جاك شيراك بمسؤولية الدولة الفرنسية عن تلك “الحقبة المظلمة”.  

ماضٍ يدفع الى التساؤل عما إذا كان الانحياز الفرنسي المطلق إلى الجانب الإسرائيلي، عقب عملية طوفان الأقصى، نوعاً من التكفير عن هذا الذنب؟

لا يؤيد جان كريستوف غاليان هذه الفرضية. برأيه، التحولات التي شهدها المجتمع الفرنسي منذ الحرب العالمية الثانية سمحت بالقطع مع تلك الحقبة. الموقف الفرنسي ينطلق من حسابات جيوسياسية واقتصادية بهدف الحفاظ على مصالح البلاد في منطقة غاية في التعقيد بحسب غاليان، الذي أضاف لـ “درج”: فرنسا ليست ألمانيا حتى تلاحقها عقدة الذنب تلك.

لكن منذ 7 تشرين الأول، أشارت البيانات إلى ازدياد منسوب معاداة السامية: خلال الأسابيع الستة التي تلت عملية “حماس”، سجلت فرنسا 1518 اعتداءً معادياً للسامية، فيما بلغ مجموع تلك الاعتداءات خلال العام الماضي 436 اعتداء، وفقاً لوزارة الداخلية الفرنسية. 

هل تشهد فرنسا وجهاً رابعاً من وجوه معاداة السامية ذي صلة بالإسلام، والذي يتم التسويق له إعلامياً وسياسياً؟ 

على رغم إشارته إلى البعد الديني كمكون من مكونات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وتأكيده على تضامن مسلمي فرنسا مع الجانب الفلسطيني، يبدي جان كريستوف غاليان حذراً في البت بتلك الفرضية: الجزم بها يتطلب إجراء دراسة معمقة بعد مدة زمنية، ليتضح ما إذا كان ارتفاع منسوب معاداة السامية ظرفياً أم بنيوياً. أما المؤرخ المتخصص في معاداة السامية، لوران جولي، فاعتذر من جهته عن الرد على هذا السؤال، موضحاً لـ “درج”، أن الإجابة عنه رهن بإجراء دراسة خاصة.