fbpx

أنطونيو غوتيريش الذي يرتبط اسمه بالحبّ

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بالتوازي مع الحرب الطاحنة في غزّة، يخوض غوتيريش منذ السابع من أكتوبر، معركة الضمير الإنساني ضد العنجهية الإسرائيلية، معركة أخرى غير متكافئة، تتفوّق فيها إسرائيل، وتدور رحاها في قاعة الأمم المتّحدة، وجها لوجه، بينه وبين السفير الإسرائيلي جلعاد إردان.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يكاد يكون الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريش، الوحيد بين الأمناء العامّين في تاريخ المنظّمة الدولية، الذي تجرّأ على تحدّي إسرائيل وفضح انتهاكاتها، بلا مواربة ولا مجاملة. 

وقد شكّلت تصريحاته، منذ الأيام الأولى للعدوان على غزّة، صدمة للغرور الإسرائيلي، فحين قال إن “هجوم حماس لم يأتِ من فراغ”، وإن “الشعب الفلسطيني يتعرّض لاحتلال خانق منذ أكثر من 56 عاماً”، بدا وكأنه يبرّر هجوم السابع من أكتوبر، ويعتبره نتيجة وليس فعلاً، أما حين رفض أن يكون “هناك طرف في صراع مسلّح فوق القانون الإنساني”، فبدا وكأنه ينتقد العنف الدموي الذي تمارسه إسرائيل ضدّ سكّان غزّة، دفاعاً عن النفس؛ الحقّ الذي وهبه الغرب لإسرائيل حصراً، مما دفع بالدبلوماسية الإسرئيلية إلى المطالبة بإقالته واعتباره غير مؤهّل لقيادة الأمم المتّحدة.

ومن موقعه كأمين عام للأمم المتحدة أدان غوتيريش عملية 7 أكتوبر، لكن هذه الإدانة لم توقف الحملة الاسرائيلية عليه، ذاك أن المطلوب من مسؤول دولي بحسب تل أبيب تغطية الإبادة، وكل شيء أقل من ذلك يعتبر تواطؤاً عليها!

بالتوازي مع الحرب الطاحنة في غزّة، يخوض غوتيريش منذ السابع من أكتوبر، معركة الضمير الإنساني ضد العنجهية الإسرائيلية، معركة أخرى غير متكافئة، تتفوّق فيها إسرائيل، وتدور رحاها في قاعة الأمم المتّحدة، وجها لوجه، بينه وبين السفير الإسرائيلي جلعاد إردان، إردان من موقع القوّة والسيطرة على كلّ منصّات العالم الحديث ومنابره، وغوتيريش من موقعه  الإنساني الشخصي المجرّد، ذلك أن صفته الرسمية تفقد ثقلها الدبلوماسي ومرجعيتها الأخلاقية، حين يناكف موظّف أعزل مثله، كياناً يحتكر الحقّ مثل إسرائيل. 

لم يترك غوتيريش على مدى أكثر من شهرين جهداً إنسانياً إلا وبذله، من أجل وقف المجزرة المستمرّة في غزّة، ويحاول وحده من بين كل قادة مؤسّسات المجتمع الدولي، أن ينتزع قراراً بحماية المدنيين، علاوة على مطلبه المتكرّر بوقف إطلاق النار، الأمر الذي تعدّه إسرائيل عملاً عدائياً ضدّها، لذلك تشنّ عليه حربا شعواء، تبدأ من اعتباره “خطراً على السلم العالمي”، ولا تنتهي بنعته ب”الانحراف”. 

بهدوء يجمع غوتيريش العناصر السياقية والنفسية للحرب الدائرة في غزّة، ليلمّح؛ من دون أن يوصّف، إلى ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية ضدّ السكان، فمرّة يقول: “إن انهيار منظومة الدعم سيؤدّي إلى زيادة الضغط من أجل النزوح الجماعي إلى مصر”، أو “إن نقل أكثر من مليون شخص في غزّة أمر خطر للغاية”، ومرّة أخرى يقول: “إن العدد الضخم للضحايا المدنيين يدلّ على وجود خطأ ما في العملية”، وكان قد قال بعد أسبوعين على الحرب: “إن حماية المدنيين، لا تعني إصدار أمر لأكثر من مليون شخص بالإخلاء، والاتّجاه جنوبا، ثم قصف الجنوب”. 

وفي سياق أكثر وضوحاً وعناداً، يتّهم غوتيريش إسرائيل ب”انتهاك القانون الدولي” ويسمّي حربها على غزّة ب”الكابوس المرعب”، ولا يتعب من المطالبة بـ”وقف فوري لإطلاق النار”، أو “وقف إطلاق نار إنساني”، برغم معرفته أن كلمته غير مسموعة عند الطرف المعنيّ. 

وأحيانا يرفع صوته كأنه يحرّض العالم على التحرّك، فيقول: “إن غزّة تحوّلت إلى مقبرة للأطفال” وصارت “مكانا غير قابل للحياة”، وينقل أخبارا عن “عدم وجود حماية فعّالة للمدنيين”، وعن “انهيار النظام الصحي، وانقطاع الحاجات الإنسانية البديهية كالمأوى والدواء والغذاء والماء والكهرباء والوقود”، وعن “التدمير الممنهج للبيوت والمؤسّسات والتجمّعات السكنية والبنى التحتية وتحوّل المدارس والمستشفيات إلى ساحات حرب”، طمعاً بأن تستجيب الدول لنداءاته الإنسانية المتكرّرة.

من موقعه كأمين عام للأمم المتحدة أدان غوتيريش عملية 7 أكتوبر، لكن هذه الإدانة لم توقف الحملة الاسرائيلية عليه، ذاك أن المطلوب من مسؤول دولي بحسب تل أبيب تغطية الإبادة، وكل شيء أقل من ذلك يعتبر تواطؤاً عليها!

الأربعاء الماضي، قرّر غوتيريش استخدام الصلاحيات المعطاة للأمين العام في الحروب، لوقف إطلاق النار ووضع حد لقتل المدنيين، بحسب ميثاق الأمم المتّحدة، فأعلن تفعيل المادّة 99، التي تخوّله “تنبيه مجلس الأمن إلى أيّ مسألة يرى أنها تهدّد السلم والأمن الدوليين”، اجتمعت الدول الأعضاء، وسقط مشروع القرار بضربة الفيتو الأميركي القاضية. 

في قرارة نفسه، يدرك غوتيريش أن خطوته لن تكتمل، لأن المادّة 99 تملك سلطة تحذيرية وليس إلزامية، لكن، يبدو أنه أراد أن ينبّه إسرائيل وصديقاتها الغربيات، إلى أن الحروب المقبلة سوف تبدأ من حيث انتهت حرب غزّة، ما يبشّر بزمن غير مسبوق من الوحشية، وربما أراد أن يُنهي رئاسته للمنظمة الأممية بموقف لا ينساه التاريخ، فقلّة قليلة من أسلافه، وربما لا أحد منهم، جاهر باعتراضه على سلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين، أو الوقوف بوجه الدول المتحكّمة بقرارات المنظّمة.

في التاريخ الحديث شواهد كثيرة، على المآسي الإنسانية، التي قام بها الجزء الغني من العالم في جزئه الآخر الفقير، وكان القلق أقصى مواقف الأمناء العامين، حتى باتت المنظّمة الدولية، بكل ما تمثّله، موضع تندّر وسخرية، وتحوّلت إلى ما يشبه جمعية خيرية، لا تملك صلاحيات أبعد من توزيع الإعاشات والمساعدات على المحتاجين والمتضرّرين من الحروب، أما فلسطين فكان نصيبها على مدى 75 عاما، الكثير من القلق وبطاقات الإعاشة والمدارس المطلية بالأزرق والمخيّمات تحت راية الصليب الأحمر.

لهذا، أثار إعلان غوتيريش غضب إسرائيل، فاعتبر وزير خارجيتها إيلي كوهين أن “فترة ولاية غوتيريش خطر على السلم العالمي”، وقال إن الأمم المتّحدة ب”حاجة إلى أمين عام يدعم الحرب على الإرهاب، وليس أميناً عاماً يتصرّف وفق النص الذي كتبته حماس”، ورأى أن تفعيل المادّة 99 والدعوة إلى وقف إطلاق النار “دعم لمنظّمة حماس الإرهابية”، أما غوتيريش فردّ بهدوئه المعهود: “حتى بعد الفيتو لن أستسلم”.

ثلاث نقاط ينطلق منها غوتيريش وتشكّل دائرة تحرّكه وضغطه: دور الأمم المتّحدة وشخصيته والقضية التي يدافع عنها، ثابت واحد ومتحولان.

عن الحرب الأوكرانية، قال إن “الغزو الروسي لأوكرانيا إهانة لضمائرنا”، وطار إلى كييف داعماً، وفي مؤتمر صحافي عقده إلى جانب الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي، رأى أن “الغزو الروسي سبّب معاناة هائلة”، وعرض وساطته الشخصية لبدء محادثات سلام بين الطرفين، وأدرج روسيا ضمن دائرة الدول والكيانات، التي تنتهك حقوق الأطفال في النزاعات.

في أوكرانيا، كان غوتيريش مرتاحاً في إداناته وتصريحاته وقراراته، ولأن اللاجئين بيض البشرة وبعيون زرقاء، لم يعارضه أحد، هذا إذا ركنّا الصراع بين الشرق والغرب جانباً.

في الحرب على غزّة، الوضع مختلف، هناك “جيش من أكثر الجيوش أخلاقا في العالم”، وهو يقاتل نيابة عن العالم المتحضّر “دفاعا عن قيم الحضارة الغربية”، فالأمر إذاً محسوم، وعلى الأمين العام تبني هذا الموقف، وإلا يصبح عدوّاً للحضارة والقيم والأخلاق، ويمارس إرهاباً صريحاً.

منذ أيّام، دخلت الحرب على غزّة شهرها الثالث، ومعها مواقف غوتيريش، فلم يتزحزح مقدار شعرة واحدة عن تعاطفه الإنساني، برغم الضغوط التي يتعرّض لها والاتّهامات التي تلاحقه، ذلك أن تعاطفه لا يصدر من كونه أميناً عاماً للأمم المتّحدة، بل من خلفيته الاشتراكية، ولذلك لا يكتفي بالتعبير عن القلق، أقصى ما كان يفعله سلفه، بل يُحارب بقلب شجاع، فتُقلق مواقفه الدول المطمئنة إلى حتمية انتصارها وسيطرتها على الرأي العام. 

غوتيريش هو سياسي برتغالي، وأحد أبرز وجوه الحزب الاشتراكي البرتغالي، الذي أوصله إلى رئاسة الحكومة في البرتغال، الدولة المتعثّرة اقتصاديا في الاتحاد الأوروبي، يمثّل حزبه الاشتراكية الأوروبية الوحيدة التي ما زالت صامدة، أمام مدّ التيارات اليمينية الشعبوية في أوروبا، ربما لأن اليسار في البرتغال شكّل؛ استثناء، نسقا سياسيا اجتماعيا حقيقيا، عبر حفاظه على علاقة إنسانية عميقة ومتشابكة بين الرأس والقاعدة، وربما لأن البرتغال دولة غير غنية ولا تقع في غرب أوروبا. 

والاشتراكيون الذين ينتمي إليهم، ضدّ الحرب أينما كانت، لهم حروبهم غير العسكرية، ضدّ استغلال الشعوب، ضدّ العنصرية، ضدّ كل ما هو غير إنساني، وهم لا يكتفون بالمعارضة الضيّقة، بل يدعون الشعوب إلى معارضة واسعة وعالمية، لذلك غالبا ما تحاربهم الحكومات، وتطالب بإسكاتهم، وتحبّهم الشعوب.

وبما أن التضامن الأممي مفهوم اشتراكي، من هنا تأتي مناصرة غوتيريش للشعوب المغلوبة ولأوكرانيا ولفلسطين ولغزّة حاليا؛ وإن كانت مناصرة الأخيرة مبطّنة وذكية ومدروسة المفردات، كذلك مناهضة الاستعمار، أو الاحتلال بالمفهوم المباشر، لذلك دعواته الصريحة والمتكرّرة إلى السلام العالمي وحلّ الدولتين.

هو أنطونيو مانويل دي أوليفييرا غوتيريش، من مواليد لشبونة عاصمة البرتغال، وصل إلى رئاسة الأمم المتّحدة، من تجربة سياسية في رئاسة الأممية الاشتراكية، وأخرى إنسانية في رئاسة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.

ولولا اسمه المرتبط بالقائد العسكري الروماني، الذي أتى إلى الشرق غازياً وعاد منه ظافراً بحبّ كليوباترا، ولولا وجهه ذو الملامح الغجرية؛ المجموعة العرقية التي كانت أحد ضحايا النازية في “أوشيفتز”، فالبشرة السمراء والخدّان المتهدّلان والعينان المحاطتان بالانتفاخات والشفتان اللتان ترقصان أثناء الكلام، لا ينقصها إلا كوفية، لتتّهمه إسرائيل بانتحال شخصية ياسر عرفات.