fbpx

اختفاء سلع أساسيّة من السوق المصريّة… التضحية بصحة المواطنين من أجل الدولار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

“ما يزيد من حجم الكارثة الصحية على المدى الطويل، أنه حتى تلك الأغذية الرديئة لم تعد رخيصة، ما يعني أن كمية السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد ستتراجع، بالإضافة إلى انخفاض جودة تلك السعرات.”

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في دولة يتخطى عدد سكانها الـ 105 ملايين نسمة، أصبح تصاعد أسعار السلع الأساسية بشكل مستمر الهم الشاغل لغالبية مواطنيها، فلا حديث في مصر سوى عن الأسعار ولا سؤال إلا عن قيمة الدولار في السوق الموازي، فيما ذابت الطبقات الاجتماعية والفروق المادية وتوحّدت المعاناة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية الضاغطة التي تعيشها البلاد.

 البداية كانت مع اشتعال الحرب الروسية – الأوكرانية في بداية عام 2022، وهروب نحو 25 مليار دولار من الأموال الساخنة، ما أدى إلى انكشاف مكامن الضعف والمشاكل والعيوب الهيكلية التي كان يُعاني منها الاقتصاد. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت أزمة شحّ العملة الأجنبية، وما تبعها من إجراءات بطيئة وسياسة مالية مرتبكة فاقمت من الأزمة، إذ تتسع الفجوة بين سعر الصرف في السوقين الرسمية والموازية إلى نحو 130 في المئة. وفي نهاية الشهر الماضي، كان الدولار يتداول في السوق الموازي عند مستوى 70 جنيهاً، بينما يظل ثابتاً عند مستوى 30.9 جنيه في البنوك. 

 وكانت النتيجة صدمات كارثية، تمثلت في انخفاض قيمة العملة وتآكل القيمة الحقيقية للمدخرات والأجور، وتراجع القدرة الشرائية. ونجد أن تضخم أسعار الطعام والشراب وصل إلى مستويات قياسية خلال العام 2023، بنسبة 63 في المئة على أساس سنوي. ما جعل مصر تحتل المركز الأول ضمن الدول الأكثر تضرراً من تضخم الغذاء بحسب بيانات البنك الدولي. لذلك نحاول في هذا التقرير معرفة أسباب انفلات الأسعار، وما أسفر عنها من نتائج كارثية. 

التضحية بالاقتصاد من أجل الدولار

منذ بداية أزمة شحّ العملة الصعبة في عام 2022، لجأت الحكومة المصرية إلى تقييد الاستيراد من الخارج للحفاظ على ما تبقى لديها من دولارات، ونتيجة لذلك تأثرت الصناعة المحلية بسبب عدم القدرة على استيراد المواد الخام والسلع الوسيطة اللازمة لاستمرار دورة الإنتاج، فضلاً عن تأثر الأسواق التي تعتمد على واردات الغذاء الخارجية. 

كذلك، تأثرت القطاعات التي تُنتج الغذاء محلياً بسبب أزمة نقص العملة، مثل قطاعات الإنتاج الحيواني وصناعة الدواجن والاستزراع السمكي. إذ تستورد مصر من الخارج نحو 90 في المئة من مستلزمات إنتاج الأعلاف. وهو ما ساهم في ارتفاع أسعار الأعلاف إلى مستويات قياسية بلغت نحو 300 في المئة في عام 2022، وأدى إلى تراجع المعروض من السلع، وساهم في ارتفاع الأسعار بشكل غير مسبوق. وكانت على رأسها سلع أساسية مثل الزيت والسكر والأرز والبيض واللبن واللحوم والبقوليات.

الأزمة التي تفاقمت كثيراً، لم تقتصر على العملة فقط، فقد تسببت في تكبّد نسبة كبيرة من المنتجين في هذه القطاعات الاستراتيجية خسائر كبيرة. فعلى سبيل المثال، خسرت صناعة الماشية واللحوم نحو 60 في المئة من قدرتها الإنتاجية خلال عام 2022، كما تراجع إنتاج صناعة الدواجن نتيجة خروج نحو 40 في المئة من المنتجين والمربين، ليتراجع إنتاج البيض إلى 9 مليارات بيضة سنوياً، بعدما كان 14 مليار بيضة عام 2021.

وللأسباب المذكورة نفسها، فإن أزمة استيراد مدخلات الإنتاج الزراعي تتسبّب في تقلص الكميات المزروعة من محاصيل زراعية استراتيجية، مثل البطاطس والبصل، ما يعني أنه حتى إذا تحققت معجزة من السماء، وحُلّت أزمة نقص العملة الأجنبية واستعاد الجنيه قيمته، فإننا سنكون أمام معضلة أخرى، وهي أن انخفاض الإنتاج وتراجعه ونقص المعروض لن يكون مجرد أزمة مؤقتة، بل هو وضع قائم، ولن تكون عودة المُنتجين بالأمر السهل بعد تضررهم وتكبدهم خسائر كبيرة دفعتهم الى الإغلاق الإجباري سابقاً.

“متوسط الأجور الحالي انخفض بنسبة 70 في المئة عن السنين الماضية، بسبب التخفيضات المستمرة في سعر الصرف وتقاعس الدولة والقطاع الخاص عن زيادة الأجور وتعويض هذه التخفيضات. “

الدخل بالجنيه والأسعار بالدولار

تسبّبت أزمة نقص الدولار في حركة اضطرابات عنيفة وغير مسبوقة لم تشهدها مصر من قبل. وما نلاحظه أن كل تخفيض يُحفز المضاربات على السلع في الأسواق، فيجد المستهلك أن أسعار السلع ترتفع مراراً في اليوم الواحد من دون مبرر، في ظل اختفاء بعض السلع من الأسواق ثم العودة الى طرحها بأسعار مضاعفة.  

في حديثها مع “درج”، تُفسّر الباحثة في الاقتصاد السياسي سمر عادل هذه الظاهرة  قائلة، “الإشاعات هي المحرك الرئيسي لهذه المضاربات، كما أن الخوف من التعويم القادم يُحفز الانخفاض في قيمة العملة بالسوق الموازية ويدفع الجميع الى التخلص من الجنيه”.

وبحسب تحقيق لـ”مدى مصر”، فإن شركات الحديد الصلب تتجه تحت ضغط أزمة العملة، إلى بيع منتجاتهافي السوق المصرية بالدولار، كما لجأت كبرى شركات الأعلاف إلى البيع بالدولار، وهي المكونات المستخدمة في إنتاج الدواجن والبيض واللحوم والألبان، وهذا يعد مخالفة قانونية.

 ومع انخفاض قيمة العملة ومعاناة الشركات في تدبير الدولار لاستيراد مستلزمات الإنتاج، تتّجه بعض الشركات في قطاعات استراتيجية إلى تحويل إنتاجها نحو التصدير بدلاً من البيع في السوق المحلية، وهو ما حدث في كثير من السلع الاستراتيجية، مثل السكر، إذ عملت الشركات المنتجة للسكر، ومنها شركات حكومية، على تصدير الإنتاج للاستفادة من الأسعار العالمية المرتفعة، وهو ما تسبب في تضاعف أسعاره واختفائه من الأسواق، الى درجة أصبح الحصول على عبوة سكر من المتاجر عملية شاقّة.  

ونتيجة تقلّب الأسعار، يلجأ المُصنعون والتجار إلى تسعير المنتج المحلي وفقاً لسعر الجنيه في السوق الموازية، وتبعاً لذلك تتحرك الأسعار صعوداً أو هبوطاً. ومع التقلبات العنيفة في السوق وصعوبة حساب أسعار التكاليف والتشغيل، يتجه البعض الى التحوّط، فبدلاً من زيادة المنتج مئة جنيه يتم رفعه 400 جنيه للتحوط من ارتفاع الخامات، بحسب شهادة أحمد عبدالحميد، “رئيس غرفة صناعات مواد البناء باتحاد الصناعات المصرية”، لوكالة اقتصاد الشرق.

لا تتوقف أزمة تسعير المنتجات عند ذلك، إذ تربط بعض الشركات سعر منتجاتها في السوق المحلية بسعرها التصديري في الأسواق العالمية. فكان من الطبيعي أن يؤدي هذا التشوه والخلل إلى انفلات الأسعار.

ترى الباحثة في الاقتصاد السياسي سمر عادل، أن السبب في ذلك كله يعود الى غياب الرقابة وعدم وجود رادع، بعدما تُركت السوق فريسة للتجار والمُصنعين، يضعون الأسعار وفقاً لأهوائهم. وتُضيف: يبدو كأنه لا توجد أي أدوات في أيدي صُناع القرار للتحكم في السوق، والشعب المصري هو المتضرر الأكبر. 

تأثير الأزمة على الطبقات الفقيرة

في دولة لديها متوسط أجور ضمن الأقل عالمياً، بقيمة 145 دولاراً، إذ جاءت في المركز 102 والأخير وفقاً لموقع World of Statistic،  ليس من السهل على مواطنيها تحمّل موجات تضخم عنيفة، وبخاصة عندما يأتي في صورة ارتفاع في أسعار السلع الغذائية الأساسية. 

في حديث للباحث الاقتصادي محمد رمضان مع “درج”، يقول إن متوسط الأجور الحالي انخفض بنسبة 70 في المئة عن السنين الماضية، بسبب التخفيضات المستمرة في سعر الصرف وتقاعس الدولة والقطاع الخاص عن زيادة الأجور وتعويض هذه التخفيضات. 

ويرى أن في الأمر مفارقة كبيرة، إذ تدفع الحكومة والقطاع الخاص أجوراً متدنية وبالعملة المحلية للعاملين لديها، فيما يبيعون السلع والخدمات بالسعر العالمي.

تفاقم هذه الضغوطات من الأوضاع المعيشية وتقيد قدرة المواطنين على الحصول على الغذاء. يكشف تقرير “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء”، أن 74  في المئة من الأسر خفّضوا استهلاكهم من السلع الغذائية بسبب ارتفاع الأسعار في عام 2022. ويفيد بأن 90 في المئة من الأسر خفضوا استهلاكهم من البروتينات (لحوم ودواجن وأسماك)، و68 في المئة خفضوا استهلاكهم من البيض، و57 في المئة من الخضروات.

لذلك، من المتوقع أن تزداد مخاطر انعدام الأمن الغذائي، نتيجة عدم قدرة معظم المواطنين على تحمّل تكاليف نظام غذائي صحي. 

يقول محمد رمضان، خلال فترات التضخم سابقاً كان الفقراء في مصر يميلون إلى تعديل نظامهم الغذائي، والحصول على السعرات الحرارية من خلال استهلاك أطعمة ذات قيمة غذائية منخفضة مثل الحبوب والنشويات والزيوت لأنها الأرخص ثمناً، ولكنها ضارة صحياً لأنها لا توفر غذاءً متزناً يحتوي على العناصر الغذائية كافة. 

ويضيف: ما يزيد من حجم الكارثة الصحية على المدى الطويل، أنه حتى تلك الأغذية الرديئة لم تعد رخيصة، ما يعني أن كمية السعرات الحرارية التي يحصل عليها الفرد ستتراجع، بالإضافة إلى انخفاض جودة تلك السعرات. 

وتكشف بيانات “منظمة الأغذية والزراعة”، أن نحو 7.8 مليون شخص في مصر يعانون من نقص التغذية، إذ ارتفعت النسبة إلى 7.2 في المئة من إجمالي السكان عام 2020/2022، بعدما كانت عند 5.3 في المئة عام 2012/2014. وبحسب دراسة صادرة عن البنك الدولي عام 2018، حلّت مصر ضمن أكثر 20 دولة على مستوى العالم معاناةً من سوء التغذية الحاد.