fbpx

الأمن الذاتي وبدائله الهشّة: لا مكان للـ”غرباء” في مناطقنا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تحوّل مشروع الأمن الذاتي المحق والضروري في هذه الظروف المضطربة التي يعيشها لبنان، إلى فرصةٍ لتصفية حسابات سياسية وتعزيز لخطاب الكراهية والعنصرية بحق النازحين السوريين والغرباء عموماً، ومشروع لانتهاكات معنوية وجسدية قد يتعرض لها الفرد بمجرد دخوله إلى مناطق يعدّ فيها “غريباً”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في الساعة السابعة من ليل الثلاثاء، اتصل بي شقيقي محمد (17 عاماً)، ليخبرني التالي: “توجهت واثنان من أصدقائي على متن دراجاتنا النارية عند الخامسة والنصف إلى منطقة الأشرفية لملاقاة شابٍ يدعى جوزف، بعدما تواصلنا معه مسبقاً عبر حسابه على “فيسبوك”، لمعاينة دراجة نارية كان قد عرضها للبيع على صفحته الشخصية. فور وصولنا الى المنطقة المذكورة، أخبرنا جوزف أنه سيتأخر لنصف ساعةٍ وأكثر، على أن ننتظره في مكان قريب من نقطة اللقاء المتفق عليها، فما كان منا إلا الجلوس على أحد السلالم الطويلة. إلا أنه وبعد أقل من عشر دقائق، لاحظنا أن ثمة شابين يقومان بمراقبتنا، فشعرنا بالقلق، وقررنا مغادرة المكان وانتظار الشاب في نقطة قريبة من منزله. أثناء مغادرتنا، حاول أحد الشبان اعتراض دراجتي النارية، إلا أنه تراجع في اللحظة الأخيرة خشيةً أن أعرّضه للخطر”.

يتابع أخي محمد قائلاً: “وصلنا إلى “اللوكيشن” الذي أرسله جوزف لمنزله، وجلسنا أسفل أحد المباني لانتظاره، وما هي إلا دقائق، حتى وقف قبالتنا شابٌ يعمل في إحدى الصيدليات الموجودة في الشارع، وقام بإجراء مكالمة هاتفية بينما يحدق بنا بحذرٍ بالغ، لأتفاجأ وأصدقائي، بمجموعةٍ مكونة مما يقارب الثلاثة عشر رجلًا، ببنى عضلية مفتولة، يتّشحون بالسواد، بوشوم كثيرة، يتوجهون نحونا دفعةً واحدة، وكأنهم ظهروا من العدم”.

يضيف محمد، “وصل الشبان، وطلبوا منا الوقوف، وبدأوا بطرح أسئلة متتالية عن أسمائنا وهوياتنا، ومن أي قدمنا، وسبب وجودنا في هذا المكان. ثم أمرونا بالتزام الصمت، وقاموا بتفتيش ملابسنا ودراجاتنا النارية. لم يقوموا بتقييدنا، لكنهم طلبوا منا عدم التحرك، ووضع أيدينا خلف ظهورنا والاستدارة باتجاه الحائط لحين انتهائهم من تفتيش أغراضنا، كما لو كنا مجرمين مدانين”.

يختم محمد “الحكاية” قائلاً، “بعد اطلاعه على الرسائل المتبادلة بين صديقي وجوزف، الذي تبين أنهم يعرفونه جيداً ويعلمون أين يقطن، وتواصلهم معه وتأكدهم أننا هنا بقصد معاينة الدراجة النارية، غادرت المجموعة، باستثناء شاب واحد أمروه بالبقاء معنا حتى وصول جوزف إلى المنطقة، ليغادر فور وصوله وتأكده أن كل شيء على ما يرام”.

أغلقت الهاتف وتوجهت لرؤيته في المنزل للاطمئنان عليه.

“هل تعرضتم لأي اعتداء جسدي؟” سألته، أجاب بالنفي، وأضاف: “شعرنا بالخوف والترهيب. حاولنا التصرف بأكبر قدر ممكن من الهدوء والتروي، لكي لا نثير الشكوك بداخلهم، أو نفتح لهم باباً مجانياً لتعريضنا للأذى. كنا مدركين أننا لم نقم بأي خطأ يستلزم العنف نحونا، فالتزمنا بما طلبوه بالحرف الواحد. جرت العملية كلها خلال أقل من نصف ساعة، لكن دقيقة الصمت أمامهم، كانت أشبه بساعة”.

سألني “من هؤلاء؟”، فأجبته: “جنود الرب، ولعلهم اشتبهوا بوجودكم في المنطقة بهدف السرقة”.

“منيح كنت مخبي سنسال السيف تحت الكنزة” قالها مازحاً، فصفعته على رأسه، وأخبرته ألا علاقة للسيف وما يعنيه بما جرى، وأن “الجماعة” يحاولون فقط حماية مناطقهم من الفلتان الأمني الذي ينهش مفاصل البلد، ويحوّل حياة الناس إلى خوف يومي، عليهم التعامل معه بشكل ذاتي، في ظل غياب الدولة وتقاعس مؤسساتها الأمنية عن القيام بمهامها في حماية المواطنين وأرزاقهم.

لم يكن شقيقي محمد يعرف عن “جنود الرب” أكثر مما شاهده من “نكات” انتشرت حولهم على مواقع التواصل الإجتماعي في مواقف عدة. لكنه على الأكيد، لم يتوقع يوماً أن يقع فريستهم عند دخوله الأشرفية للمرة الأولى، ولم يخطر بباله أن زيارته السريعة للمنطقة، ستتحول بفعل عوامل من الصعب شرحها له، إلى إهانة علنية واستجواب في جريمة افتراضية لم يقم بها.

ولم أخبره بالطبع، أن مسعى الشاب الذي حاول اعتراض دراجته في البداية، كان بإمكانه أن يعرضه هو لخطر جسدي جسيم، وقد يتحول، في أسوأ الاحتمالات، الى كارثة كتلك التي وقعت يوم 23 شباط/ فبراير الماضي في منطقة “الأونيسكو”، حيث أقدم عنصر من فوج حرس بيروت، على ركل دراجة نارية يستقلها شابان من التابعية السورية، بعدما “اشتبه” بهما، ما أدى إلى وقوع حادث سير، تسبب بمقتل شاب منهما وإصابة الآخر بجروح بليغة.

الجريمة التي سعت كل مفاصل الدولة الى التخفيف عن مرتكبها، وحمايته من الملاحقة القانونية، وتحميل مسؤوليتها بشكل غير مباشر للقتيل نفسه، الذي “هرب” من الحاجز مسرعاً فكان هذا مصيره، وفق ما قاله محافظ مدينة بيروت مروان عبود، الذي استجرّ الحرب الأهلية في تبريره تجاوزات الفوج الكثيرة.

اكتفيت بتوجيهه لعدم الذهاب مجدداً إلى مناطق بعيدة، قد يعرض فيها نفسه وأصدقاءه لاحتمالات عدة من الخطر الجسدي والمعنوي، وبأن يلتزم التجول في المناطق التي يُعرف فيها أنه ليس غريباً أو مثيراً للريبة بأي شكلٍ ممكن، وأن اسمه وهويته لن يشكلا أي فارقٍ لدى السائلين.

“خدمة التوصيل” حكرٌ على اللبنانيين

لم أخبر شقيقي أيضاً، أن السرقة ليست الذريعة الوحيدة التي باتت بعض الجهات تتمسك بها، لمعاقبة الغرباء، ومحاولة منعهم من الوجود في مناطق معينة، فحتى العاملين في خدمات التوصيل، من الغرباء، لا سيما غير اللبنانيين، يعانون من مضايقات عدة، ومحاولات لعرقلة أعمالهم، وتُقام لأجلهم حواجز تفتيش ومساءلة، بعضها قانوني وبغطاء من الدولة المتهالكة، وبعضها بقرار شخصي ومحلي من شبانٍ أخذوا على عاتقهم إخلاء الساحة من “الغرباء”، ومنعهم من التجول في أحيائهم وبلداتهم، تحت أي ذريعة كانت، وإلا، سيكون مصيرهم في أحسن الأحوال، كمصير غيرهم ممن تعرضوا للضرب فقط لأن مرورهم صادف في شوارع وطرقات، يريدها سكان المنطقة “لبنانية” بامتياز.

ولم أطلعه على حادثةٍ سابقة شهدتها منذ ما يقارب الشهر، ولم أجد حينها الكلمات الكافية للتعبير عن سورياليتها وغرابتها، عندما قمت بطلب “دراجة نارية” من خلال أحد تطبيقات التوصيل، للتوجه من منطقة فرن الشباك إلى الأشرفية أيضاً، لزيارة منزل أحد الأصدقاء، حيث وصل إلى النقطة المحددة للالتقاط، شابٌ يرتدي سترة “توترز”، وهي منصة لتوصيل المنتجات المتعددة، واضعاً أمامه كيساً محملاً بالأغراض.

لم يكن المشهد غريباً حد تلك اللحظة، فظروف البلد الاقتصادية جعلت من الكثيرين يبحثون عن أي مردود مالي إضافي، لكن لحظة التحول كانت عند وصولنا إلى أحد الحواجز التي يقيمها الفوج أيضاً على مداخل المنطقة، فما كان من السائق إلا أن توقف ومد يده لإخراج محفظته، وتوجه بالكلام في تلك الأثناء إلى العنصر الواقف قائلًا: “عسكري”، ليجيبه الثاني بكامل الألفة والمودة: “تفضّل خيي”.

سألته عن سبب توقيفنا، فأخبرني بأن الأمر مرتبطٌ بعمال الـ”دليفري” من التابعية السورية، وأن هذه الحواجز ومثيلاتها في مناطق أخرى، إنما هي للتدقيق بهوية العمال والتأكد من “أهليتهم القانونية” للقيام بهذا العمل.

ذلك في حين أن عنصر الفوج الذي أوقفنا، لم يلزمه أكثر من أن يتكلم السائق الذي يقلني بلهجته “اللبنانية”، متجاهلاً احتمالية “الكذب” في ما قاله بكونه يعمل في السلك العسكري، متناسياً أن جنسيته لا تحميه من ارتكاب الجرائم، سواء بوجوده المجرد في المنطقة، أو من خلال وظيفته الثانية أو الثالثة، كعامل توصيل مزدوج. وقد برر عبود في حديثه عقب جريمة “الأونيسكو” هذا التشديد على السوريين، الذي يقابله تراخٍ مع اللبنانيين، بذريعة أنهم “يعيشون أزمة اقتصادية خانقة، لا يعيشها السوري الذي يستفيد من مساعدات الأمم المتحدة”.

كل عنصري خفير

بإنشائها منصة “تبليغ” المتخصصة بالتبليغ عن مخالفات النازحين السوريين الموجودين في بيروت الإدارية، والتي بدأ العمل بها مطلع العام، وبتغاضيها المتكرر عن حالات العنف الصادرة من أفراد موكلين بحماية مناطقهم، بحق المشتبه بهم، الموثقة بالصوت والصورة، والمنتشرة عبر مواقع التواصل الإجتماعي، وتبريرها جريمة قتل النازح السوري محمد الحريري على يد فوج حرس بيروت، وبالدفاع المستميت عن عناصرها رغم هفواتهم القاتلة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

أعطت الدولة الصلاحية والشرعية لكل مواطن ليحقق فدراليته المتخيلة، وليمارس عنصريته المحتملة حيث يقدر ويستطيع، وعززت هذه العنصرية من خلال تحميل النزوح السوري مسؤولية التفلت الأمني الواضح في البلد، من أصغر مؤشراته إلى أكبرها، من خلال هذه الإجراءات وعبر تصريحات متكررة من رجال بموقع المسؤولية في البلد، وهي تحاول إلقاء اللوم على الغريب والخارج دائماً، لتفادي تحمّل مسؤوليتها والإشارة الى التقصير الواضح للقوى الأمنية في ظل كل ما يحدث.

تحوّل مشروع الأمن الذاتي المحق والضروري في هذه الظروف المضطربة التي يعيشها البلد، والتي تتفاقم يوماً بعد يوم من دون وجود بوادر لانفراجات قريبة، إلى فرصةٍ لتصفية حسابات سياسية وتعزيز فاضح لخطاب الكراهية والعنصرية بحق النازحين السوريين والغرباء عموماً، ومشروع لانتهاكات معنوية وجسدية قد يتعرض لها الفرد بمجرد دخوله إلى مناطق يعدّ فيها “غريباً”، ولتحوير حقيقة أن البلد يعاني من أزمة أمنية واجتماعية يجب تداركها قبل أن تتحول إلى كارثة أكبر، وقبل أن تتحول جرائم القتل بهدف الدفاع عن الأرزاق الى خبر يومي عابر.