fbpx

20 عاماً على غزو العراق: مزيد من الحروب والضحايا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ساد في العراق ما بعد صدام حسين، صراع عنيف على السلطة والنفوذ الذي غير المنطقة بشكل عميق، ترافق مع تصاعد نفوذ إيران في العراق.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يسير أبو علي مع الحشود البشرية متّجهاً إلى عمله، وبينما ينتظر الباص أطالع معه وجوه الناس المبتسمين، الذين يعبرون الشوارع ويرتدون الثياب الجميلة،  ففي مثل هذا اليوم، وقبل 20 عاماً، كانوا يفكرون بالاختباء وحماية أنفسهم  من أصوات القصف والأخبار المكثفة، ما يحدث اليوم تغيير “شكلي” لكنه جذريّ، أتمنى لهم الأفضل، لكني وأبو علي، وهم كذلك، ندرك أن أرواحنا بعد 20 عاماً من غزو العراق عام 2003 باتت متهالكة. 

سألت أبو علي عن الفرق بين 2003 وما بعدها، فأجاب: “كنت أخشى أن أقول بأني أكره صدام حسين أمام أخوتي، كثيرون وشوا بأخوتهم من أجل كلمة (عفية صدامية)، واليوم لم يختلف الوضع كثيراً، أمر غريب، يخشى الواحد منا اليوم الحديث عن الحكام أمام الجميع، لكن ما الذي سيحدث؟  أعلم أننا رقصنا حين ألقي القبض على صدام، وسنرقص حينما ينتهي حكم الطغاة”. 

يعتقد أبو علي أن العراق مُصاب بلعنة الطغاة، هو الذي كان يحلم بنهاية حقبة صدام  التي سرقت منه ونهبت شبابه، يشهد الآن كيف يُعيد التاريخ نَفسه مع أولاده، يرى أمنياتهم وأحلامهم تغتالها حكومات لا تزال تتعامل مع العراقيين بوصفها “موقتة”.  

هل تغير شيء فعلاً؟

لم يختلف شيء، كل ما في الأمر أننا سلكنا طرقاً وعرة، عادت بنا إلى المكان ذاته، ولم نكسب خلال سيرنا في الطريق سوى خسارة الملايين من الناس وأنفسنا، كانت حرب 2003 بمثابة انتقال الحكم من طاغية الى طغاة، أميركا أرادت أن تنتزع حكم صدام فعوّضته بطواغيت صغيرة، انتقلنا من مرحلة الحروب الحدودية الى الحروب الداخلية، ومن الحصار والجوع الجماعي الى التباين الطبقي. 

يوضح راضي أحمد الستيني، الذي عاش جميع الحروب العراقية منذ الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينات وحتى اليوم، أن انتظار العراقيين تلك السنوات كلها، جاء مخيباً للآمال، كونهم أرادوا نتيجةً ما لصبرهم وتحمّلهم ومشقّتهم، يسأل: “لمَ كُتب علينا أن نقارن؟ أدركُ أن المقارنة بين صدام وما لحقه جائرة، وكأنه مكتوب علينا، أن نقارن السيئ بالأسوأ، كانت البلاد منهارة داخلياً،  وأصبحت الآن منهارةً داخلياً وخارجياً”. 

يقول راضي أن العراقيين لم يدركوا أن البلد الذي ينال حريته بالصواريخ والقنابل، لن يولد بشكل سليم وصحي، يسأل: “ما الذي كنا نتوقعه من جنود قادمين على دبابات، حملت على ظهورها وجوهاً لا تعرف شيئاً عن الحصار والغارات، بدأت أميركا قتلنا بكذبة، توقعنا أنهم سيفعلون شيئاً، نعم فعلوا، فعلوا أشياء وأشياء، لكن الأشد أذيّة هو أن أميركا حاولت أن تقنع العالم -حتى من خلال أفلامها- أنهم كانوا أبطالاً، أما بالنسبة إلينا، فمن لم تأخذه سيارة فدائيي صدام، ستأخذه مدرعة مشاك أميركية، أو سيارة اختطاف في الحرب الأهلية. إنها دائرة من العنف المتكرر، يتغير الجناة ولهجتهم ولغتهم وأدواتهم، أما نحن فما زلنا  أنفسنا”.

20 عاماً على حرب أطاحت بمستبد تاريخي هو صدام حسين، لكن الغزو الأميركي للعراق غيّر تاريخ البلد والمنطقة جذرياً، أتى الغزو بذريعة هجوم 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابي على مركز التجارة العالمي، ومزاعم امتلاك صدام حسين أسلحة كيماوية تبينّ لاحقاً كذبها. 

التهليل لإسقاط مستبد دموي تبدل سريعاً نحو جرائم حرب مفتوحة، فالقوات الأميركية بقيت في العراق بعد سقوط صدام ظاهرياً للمساعدة في إعادة بناء البلاد، لكن المواجهة معهم تحولت  الى حمام دم، فقتل آلاف عدة من القوات الأميركية، وأكثر من 100000 عراقي، ودفعت البلاد إلى الهاوية.

ساد في العراق ما بعد صدام حسين، صراع عنيف على السلطة والنفوذ الذي غير المنطقة بشكل عميق، ترافق مع تصاعد نفوذ إيران في العراق. فشلت جهود كسر المحسوبية التي نهبت مليارات الدولارات من خزائن الدولة وصبّتها في جيوب الأقوياء والشبكات التي استخدموها لترسيخ أنفسهم.

كانت سنوات تنظيم الدولة الإسلامية من بين السنوات الأكثر ظلمة في تاريخ العراق والشرق الأوسط الحديث، ولدت هذه الجماعة جزئياً من السنّة الساخطين في العراق، وتضخمت بفعل إطلاق سراح سجناء إسلاميين في سوريا لتلويث انتفاضة مدنية، دعمها زعماء طائفيون.

تحوي بغداد أموالاً جديدة حالياً، والجدران التي قسمت المدينة لوقف العنف الطائفي بعد الغزو الأميركي، تم هدمها في الغالب. يسعد العراقيون بأمان مستقطع، لكن الدولة تظل ضعيفة وعرضة للمصالح الخارجية. الكثير من الفنادق والمطاعم الجديدة الكبيرة ليست إلا قلاعاً لغسيل الأموال. لا تزال البلاد واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم ، وسيادة القانون ضعيفة، وغالباً ما يتم تطبيقها بشكل عشوائي.

حصار وقمع وجوع

لم تقدم الحياة للعراقيين أي سبيل للاختيار حسب زياد البكري،  يكمل قائلاً “كانت وما زالت تفرض علينا عيشنا، إنه قدرنا، أنا أعلم أنه قدرنا وليس لي سوى الاستسلام، كم كنت أحلم بأن يختبر أبنائي حياة أفضل مما رأينا، لكنني في هذه البلاد واهم”. 

يضيف البكري: “يمكنك الحديث عن أي شخص تريده في الحكومة، لكن لا نضمن لك بقاء صوتك، يمكنك التظاهر وقتما تشاء وضد من تشاء، من دون أن نضمن لك اختراق رصاصة مطاطية لرأسك، يمكنك أن تكتب منشورات تفضح بها مسببي الخراب في بلادك، ولا نضمن لك أن الشرطة ستحمي منزلك من الهدم. ما يميز قبل 2003، هو أن الحكومة اختصرت عليك هذه المماطلات وفرضت عليك الصمت من دون محاولات، أنت ميت، في كل الأحوال”. 

ما يميز هذه الحكومة التي تقوم بتدوير الوجوه، أنها، وهنا مجرد ظنّ، أكثر ذكاء بقليل من صدام حسين، إذ لم يعارض الأخير فكرة تصدير نفسه للعالم كديكتاتور وظالم، في حين أن حكومة ما بعد 2003، كما يصفها البكري، “قدمت نفسها للعالم بوصفها “ديمقراطيّة”، وبثت على شاشاتها مشاهد من التظاهرات والهتاف ضدها، لكنها في الخفاء، لم تكن بحاجة الى تدريب، كانت تسير على تعليمات صدام وطرقه بالتعامل مع المواطنين”. 

يسأل البكري :”من قال إن الحصار انتهى؟”، ليجيب بعدها: “بعض المدن الكبرى في العراق لا تمثل حال البلاد، يمكنك إجهاد نفسك قليلاً والتوجه إلى الباب الشرقي، ما زالت بعض الأسواق وزبائنها يعيشون فقر أيام التسعينات وجوعها، ولم يروا “التغيير الاقتصادي” الكبير الذي يُبهر الجميع اليوم، يختم حديثه قائلاً: “نحن لسنا دولة غنية بل دولة غسيل أموال”.

دور أميركا في اقتتال الشعب العراقي

واحدة من بشاعات حكم صدام، ترسيخ الحقد غير المرئي بين مذاهب الشعب العراقي، فأصبحت للحرب، فرصتها المريحة ووقتها المناسب لإعلان الاقتتال، وربما، لا شأن لأميركا بهذا الكره، لكن الاحتلال ساعد بذلك، من خلال تهديم البنى التحتية للدولة السابقة عمداً، ومحاولة بناء دولة جديدة هشة لا تستطيع إحكام سيطرتها على شعب ثائر وجائع وخائف.

كانت أولى جرائم أميركا هي حل الجيش العراقي، وتعميد بديل جديد، ومن الطبيعي إذاً أن تحصل هذه الحروب المتتالية كلها خلافاً لحرب 2003، نحن أمام  شعب يرى الفوضى للمرة الأولى، والبلاد كساحة ثأر وتصفيات، وحكومة لا تعرف رأسها من قدميها، كل ما وجدوه من العراق هو المال، فما المتوقع؟ لو كنا أمام أقوى جيش في العالم، فلن يتمكن من ضبط خراب أجيال متعاقبة وأرواح هائجة. 

التفاصيل ذاتها

“كنت كلما رأيت اللحم واشتهيت أكله في الحصار، لعنت صدام في سري، وتمنيت لحظة واحدة في الجحيم من دونه، عشنا الجوع والخوف، أصبح الخوف جزءاً من طبيعة المواطن العراقي، حتى أن ابنتي تقول لي دائماً، أنتم جيل جبان، حينما كنت أرفض خروجها للتظاهر، ما حدث هو أننا كنا نخاف حقاً، من لا يخاف، انتحاري، كان يكفينا الانتحار اليومي المرافق لقرارات دخول صدام مختلف الحروب”، هكذا تصف رائدة أحمد، المهندسة المتقاعدة، حقبة صدام، وتضيف “ذهب صدام وفرحت، ثم صرت أتناول اللحم بغصة، لا أدافع عن حكم طاغية، ولا أقارن، المقارنة مهينة ما بين سيئ وأسوأ، لكن هل كُتب علينا أن نعيش؟، أهذه هي الحياة التي سنحاسب عليها يوماً؟. 

تقول رائدة أحمد، إن التغير النفسي والروحي للمجتمعات، سمّ لا مفر منه، ما حدث احتلال، وتغيير لحقبة سياسية استمرت في الحكم لثلاثين عاماً، تخللتها مئات الشروخ والخروق التي لا تزال شاخصة حتى اليوم في الحكومة الجديدة، ومنها السير على قوانين صدام، بخاصة تلك “القمعية” منها، وتسأل: “لم جاء الأميركان؟ قالوا إنهم يودون إنقاذ الشعب من طاغية، لكنهم بدّلوا الوجوه فقط، وأحجام الثياب الرسمية، وبقيت القوانين الظالمة، والمدن الجائعة والأحياء غير المبلطة على حالها، وصار كُلّ شيء أغلى ثمناً، لا يمكنك اليوم شراء منزل بسعة 30 متراً، لقد أخذت الحكومة الجديدة أرضك، سابقاً كانت كل الأراضي والقصور مُلكاً لصدام، وأصبحت اليوم مُقسّمة، كإرث قديم لوجوه جديدة”. 

“نحن مُحطمون من الداخل”

أتحدّث عن بلاد شُوّه كل شيء فيها، حتى العمران الذي كان أجمل ما يميزها، كنت أكره بغداد إلى حد لا يمكن تخيله، كانت بالنسبة لي مدينة تعوم على الجثث وقصص الضحايا وزنازين صدام وحاشيته، وسجونه ومنصات إعدامه مُتمثلةً بالشوارع والجامعات والمنتديات الثقافية، كنت أتخيل أن كل منزل، فيه فقيد من حرب، أو معتقل، أو حكم إعدام جائر. صرت أسير، وأتخيل أن كل منزل يحوي معدومين اثنين ومعتقلين وشهيدين ومخطوفين، وآثار خراب متراكم على أبنية كانت جميلة. 

تعلق رائدة أحمد: “لم تفعل الحرب شيئاً سوى أنها أضافت مزيداً من الضحايا والأيتام والحسرات، أنا أكره صدام وأكره أميركا، وأكره الحكومة الحالية، هل هذا جيد؟!”.

تضيف أنه لم تكن باليد حيلة، أراد العراقيون النجاة، فتمسكوا بزورق مثقوب، اكتشفوا لاحقاً أنه مليء بالثعابين، إنه قدر العراقيين، أن يخرجوا من كهف، ويقعوا في حفرة، ألا يعيشوا سوى الخوف والرعب، وتختم قائلةً: “جميعنا كَذَبَة، نحاول العيش بطريقة مضحكة، لكننا مُحطمون من الداخل”. 

21.03.2023
زمن القراءة: 7 minutes

ساد في العراق ما بعد صدام حسين، صراع عنيف على السلطة والنفوذ الذي غير المنطقة بشكل عميق، ترافق مع تصاعد نفوذ إيران في العراق.

يسير أبو علي مع الحشود البشرية متّجهاً إلى عمله، وبينما ينتظر الباص أطالع معه وجوه الناس المبتسمين، الذين يعبرون الشوارع ويرتدون الثياب الجميلة،  ففي مثل هذا اليوم، وقبل 20 عاماً، كانوا يفكرون بالاختباء وحماية أنفسهم  من أصوات القصف والأخبار المكثفة، ما يحدث اليوم تغيير “شكلي” لكنه جذريّ، أتمنى لهم الأفضل، لكني وأبو علي، وهم كذلك، ندرك أن أرواحنا بعد 20 عاماً من غزو العراق عام 2003 باتت متهالكة. 

سألت أبو علي عن الفرق بين 2003 وما بعدها، فأجاب: “كنت أخشى أن أقول بأني أكره صدام حسين أمام أخوتي، كثيرون وشوا بأخوتهم من أجل كلمة (عفية صدامية)، واليوم لم يختلف الوضع كثيراً، أمر غريب، يخشى الواحد منا اليوم الحديث عن الحكام أمام الجميع، لكن ما الذي سيحدث؟  أعلم أننا رقصنا حين ألقي القبض على صدام، وسنرقص حينما ينتهي حكم الطغاة”. 

يعتقد أبو علي أن العراق مُصاب بلعنة الطغاة، هو الذي كان يحلم بنهاية حقبة صدام  التي سرقت منه ونهبت شبابه، يشهد الآن كيف يُعيد التاريخ نَفسه مع أولاده، يرى أمنياتهم وأحلامهم تغتالها حكومات لا تزال تتعامل مع العراقيين بوصفها “موقتة”.  

هل تغير شيء فعلاً؟

لم يختلف شيء، كل ما في الأمر أننا سلكنا طرقاً وعرة، عادت بنا إلى المكان ذاته، ولم نكسب خلال سيرنا في الطريق سوى خسارة الملايين من الناس وأنفسنا، كانت حرب 2003 بمثابة انتقال الحكم من طاغية الى طغاة، أميركا أرادت أن تنتزع حكم صدام فعوّضته بطواغيت صغيرة، انتقلنا من مرحلة الحروب الحدودية الى الحروب الداخلية، ومن الحصار والجوع الجماعي الى التباين الطبقي. 

يوضح راضي أحمد الستيني، الذي عاش جميع الحروب العراقية منذ الحرب العراقية – الإيرانية في الثمانينات وحتى اليوم، أن انتظار العراقيين تلك السنوات كلها، جاء مخيباً للآمال، كونهم أرادوا نتيجةً ما لصبرهم وتحمّلهم ومشقّتهم، يسأل: “لمَ كُتب علينا أن نقارن؟ أدركُ أن المقارنة بين صدام وما لحقه جائرة، وكأنه مكتوب علينا، أن نقارن السيئ بالأسوأ، كانت البلاد منهارة داخلياً،  وأصبحت الآن منهارةً داخلياً وخارجياً”. 

يقول راضي أن العراقيين لم يدركوا أن البلد الذي ينال حريته بالصواريخ والقنابل، لن يولد بشكل سليم وصحي، يسأل: “ما الذي كنا نتوقعه من جنود قادمين على دبابات، حملت على ظهورها وجوهاً لا تعرف شيئاً عن الحصار والغارات، بدأت أميركا قتلنا بكذبة، توقعنا أنهم سيفعلون شيئاً، نعم فعلوا، فعلوا أشياء وأشياء، لكن الأشد أذيّة هو أن أميركا حاولت أن تقنع العالم -حتى من خلال أفلامها- أنهم كانوا أبطالاً، أما بالنسبة إلينا، فمن لم تأخذه سيارة فدائيي صدام، ستأخذه مدرعة مشاك أميركية، أو سيارة اختطاف في الحرب الأهلية. إنها دائرة من العنف المتكرر، يتغير الجناة ولهجتهم ولغتهم وأدواتهم، أما نحن فما زلنا  أنفسنا”.

20 عاماً على حرب أطاحت بمستبد تاريخي هو صدام حسين، لكن الغزو الأميركي للعراق غيّر تاريخ البلد والمنطقة جذرياً، أتى الغزو بذريعة هجوم 11 أيلول/ سبتمبر الإرهابي على مركز التجارة العالمي، ومزاعم امتلاك صدام حسين أسلحة كيماوية تبينّ لاحقاً كذبها. 

التهليل لإسقاط مستبد دموي تبدل سريعاً نحو جرائم حرب مفتوحة، فالقوات الأميركية بقيت في العراق بعد سقوط صدام ظاهرياً للمساعدة في إعادة بناء البلاد، لكن المواجهة معهم تحولت  الى حمام دم، فقتل آلاف عدة من القوات الأميركية، وأكثر من 100000 عراقي، ودفعت البلاد إلى الهاوية.

ساد في العراق ما بعد صدام حسين، صراع عنيف على السلطة والنفوذ الذي غير المنطقة بشكل عميق، ترافق مع تصاعد نفوذ إيران في العراق. فشلت جهود كسر المحسوبية التي نهبت مليارات الدولارات من خزائن الدولة وصبّتها في جيوب الأقوياء والشبكات التي استخدموها لترسيخ أنفسهم.

كانت سنوات تنظيم الدولة الإسلامية من بين السنوات الأكثر ظلمة في تاريخ العراق والشرق الأوسط الحديث، ولدت هذه الجماعة جزئياً من السنّة الساخطين في العراق، وتضخمت بفعل إطلاق سراح سجناء إسلاميين في سوريا لتلويث انتفاضة مدنية، دعمها زعماء طائفيون.

تحوي بغداد أموالاً جديدة حالياً، والجدران التي قسمت المدينة لوقف العنف الطائفي بعد الغزو الأميركي، تم هدمها في الغالب. يسعد العراقيون بأمان مستقطع، لكن الدولة تظل ضعيفة وعرضة للمصالح الخارجية. الكثير من الفنادق والمطاعم الجديدة الكبيرة ليست إلا قلاعاً لغسيل الأموال. لا تزال البلاد واحدة من أكثر الدول فساداً في العالم ، وسيادة القانون ضعيفة، وغالباً ما يتم تطبيقها بشكل عشوائي.

حصار وقمع وجوع

لم تقدم الحياة للعراقيين أي سبيل للاختيار حسب زياد البكري،  يكمل قائلاً “كانت وما زالت تفرض علينا عيشنا، إنه قدرنا، أنا أعلم أنه قدرنا وليس لي سوى الاستسلام، كم كنت أحلم بأن يختبر أبنائي حياة أفضل مما رأينا، لكنني في هذه البلاد واهم”. 

يضيف البكري: “يمكنك الحديث عن أي شخص تريده في الحكومة، لكن لا نضمن لك بقاء صوتك، يمكنك التظاهر وقتما تشاء وضد من تشاء، من دون أن نضمن لك اختراق رصاصة مطاطية لرأسك، يمكنك أن تكتب منشورات تفضح بها مسببي الخراب في بلادك، ولا نضمن لك أن الشرطة ستحمي منزلك من الهدم. ما يميز قبل 2003، هو أن الحكومة اختصرت عليك هذه المماطلات وفرضت عليك الصمت من دون محاولات، أنت ميت، في كل الأحوال”. 

ما يميز هذه الحكومة التي تقوم بتدوير الوجوه، أنها، وهنا مجرد ظنّ، أكثر ذكاء بقليل من صدام حسين، إذ لم يعارض الأخير فكرة تصدير نفسه للعالم كديكتاتور وظالم، في حين أن حكومة ما بعد 2003، كما يصفها البكري، “قدمت نفسها للعالم بوصفها “ديمقراطيّة”، وبثت على شاشاتها مشاهد من التظاهرات والهتاف ضدها، لكنها في الخفاء، لم تكن بحاجة الى تدريب، كانت تسير على تعليمات صدام وطرقه بالتعامل مع المواطنين”. 

يسأل البكري :”من قال إن الحصار انتهى؟”، ليجيب بعدها: “بعض المدن الكبرى في العراق لا تمثل حال البلاد، يمكنك إجهاد نفسك قليلاً والتوجه إلى الباب الشرقي، ما زالت بعض الأسواق وزبائنها يعيشون فقر أيام التسعينات وجوعها، ولم يروا “التغيير الاقتصادي” الكبير الذي يُبهر الجميع اليوم، يختم حديثه قائلاً: “نحن لسنا دولة غنية بل دولة غسيل أموال”.

دور أميركا في اقتتال الشعب العراقي

واحدة من بشاعات حكم صدام، ترسيخ الحقد غير المرئي بين مذاهب الشعب العراقي، فأصبحت للحرب، فرصتها المريحة ووقتها المناسب لإعلان الاقتتال، وربما، لا شأن لأميركا بهذا الكره، لكن الاحتلال ساعد بذلك، من خلال تهديم البنى التحتية للدولة السابقة عمداً، ومحاولة بناء دولة جديدة هشة لا تستطيع إحكام سيطرتها على شعب ثائر وجائع وخائف.

كانت أولى جرائم أميركا هي حل الجيش العراقي، وتعميد بديل جديد، ومن الطبيعي إذاً أن تحصل هذه الحروب المتتالية كلها خلافاً لحرب 2003، نحن أمام  شعب يرى الفوضى للمرة الأولى، والبلاد كساحة ثأر وتصفيات، وحكومة لا تعرف رأسها من قدميها، كل ما وجدوه من العراق هو المال، فما المتوقع؟ لو كنا أمام أقوى جيش في العالم، فلن يتمكن من ضبط خراب أجيال متعاقبة وأرواح هائجة. 

التفاصيل ذاتها

“كنت كلما رأيت اللحم واشتهيت أكله في الحصار، لعنت صدام في سري، وتمنيت لحظة واحدة في الجحيم من دونه، عشنا الجوع والخوف، أصبح الخوف جزءاً من طبيعة المواطن العراقي، حتى أن ابنتي تقول لي دائماً، أنتم جيل جبان، حينما كنت أرفض خروجها للتظاهر، ما حدث هو أننا كنا نخاف حقاً، من لا يخاف، انتحاري، كان يكفينا الانتحار اليومي المرافق لقرارات دخول صدام مختلف الحروب”، هكذا تصف رائدة أحمد، المهندسة المتقاعدة، حقبة صدام، وتضيف “ذهب صدام وفرحت، ثم صرت أتناول اللحم بغصة، لا أدافع عن حكم طاغية، ولا أقارن، المقارنة مهينة ما بين سيئ وأسوأ، لكن هل كُتب علينا أن نعيش؟، أهذه هي الحياة التي سنحاسب عليها يوماً؟. 

تقول رائدة أحمد، إن التغير النفسي والروحي للمجتمعات، سمّ لا مفر منه، ما حدث احتلال، وتغيير لحقبة سياسية استمرت في الحكم لثلاثين عاماً، تخللتها مئات الشروخ والخروق التي لا تزال شاخصة حتى اليوم في الحكومة الجديدة، ومنها السير على قوانين صدام، بخاصة تلك “القمعية” منها، وتسأل: “لم جاء الأميركان؟ قالوا إنهم يودون إنقاذ الشعب من طاغية، لكنهم بدّلوا الوجوه فقط، وأحجام الثياب الرسمية، وبقيت القوانين الظالمة، والمدن الجائعة والأحياء غير المبلطة على حالها، وصار كُلّ شيء أغلى ثمناً، لا يمكنك اليوم شراء منزل بسعة 30 متراً، لقد أخذت الحكومة الجديدة أرضك، سابقاً كانت كل الأراضي والقصور مُلكاً لصدام، وأصبحت اليوم مُقسّمة، كإرث قديم لوجوه جديدة”. 

“نحن مُحطمون من الداخل”

أتحدّث عن بلاد شُوّه كل شيء فيها، حتى العمران الذي كان أجمل ما يميزها، كنت أكره بغداد إلى حد لا يمكن تخيله، كانت بالنسبة لي مدينة تعوم على الجثث وقصص الضحايا وزنازين صدام وحاشيته، وسجونه ومنصات إعدامه مُتمثلةً بالشوارع والجامعات والمنتديات الثقافية، كنت أتخيل أن كل منزل، فيه فقيد من حرب، أو معتقل، أو حكم إعدام جائر. صرت أسير، وأتخيل أن كل منزل يحوي معدومين اثنين ومعتقلين وشهيدين ومخطوفين، وآثار خراب متراكم على أبنية كانت جميلة. 

تعلق رائدة أحمد: “لم تفعل الحرب شيئاً سوى أنها أضافت مزيداً من الضحايا والأيتام والحسرات، أنا أكره صدام وأكره أميركا، وأكره الحكومة الحالية، هل هذا جيد؟!”.

تضيف أنه لم تكن باليد حيلة، أراد العراقيون النجاة، فتمسكوا بزورق مثقوب، اكتشفوا لاحقاً أنه مليء بالثعابين، إنه قدر العراقيين، أن يخرجوا من كهف، ويقعوا في حفرة، ألا يعيشوا سوى الخوف والرعب، وتختم قائلةً: “جميعنا كَذَبَة، نحاول العيش بطريقة مضحكة، لكننا مُحطمون من الداخل”. 

21.03.2023
زمن القراءة: 7 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية