fbpx

“أيمكنُ أن ترقص حواء لحواء؟”… الكويريّة كـ”أداء” نحو اليوتوبيا

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كيف نقرأ فيديو لأميركي من أصول أفريقية، وآخر لفلسطينية من “العالم الثالث”، يستعملان الأيقونات المسيحية والكثير من الأساطير الإغريقية وسفر التكوين والميتولوجيا الفرعونية، ليرسما، كل على حدة، جحيماً وفردوساً كويرياً

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

نعيش في عصر يفرد مساحات واسعةً للجنس، يُستعرض ضمنها بيولوجيّاً وبورنوغرافياً أو محملاً بمعانٍ تضيع ما بين الأكاديمية والحقوق والسياسات الجنسية-الجنسانية. في هذا السياق، نرى الكويرية كمظلة يحتمي تحتها كل مغاير جنسياً. وتظهر أساليب التعبير عنها، إما بأشكال فيديو كليبات أو أفلام، لتأخذ لنفسها مساحة ضمن المجال العام، الذي شعرت بأنها حُرمت منها قسراً أو طوعاً، أو ما بين بين، لتكبر معها لائحة ما يعرض للعلن من تنويعاتها، إما كمادة استهلاكية-مادة مقاومة، يهلل لها البعض، ويحاربها البعض الآخر، ضمن فعل ورد فعل، والأخير هو أكثر ما نحبه نحن، أبناء الأوطان الشرقية، التي يُسارع الغرب دوماً الى إنقاذها مما فعله هو بها.  

 “نحن” ضحايا سياسات، لأننا أولاً وأخيراً، آمنا بها، حقيقةً وقانوناً، في حين سارع البعض الى البحث عن ذيول دينية مُتطرفة، ليحافظ من خلالها على جوهر خصوصيتـ”نا”- هذا إن كانت لنا خصوصية- من هذا المنطلق، يقع باحثو العالم العربي وباحثاته في شراك متتالية، لعلّ أهمها “النقل”، واستعارة نظريات رسمها الغرب حول أفراد من عالم آخر، تعامل معهم  كـ”فئران تجارب” يتم اختبار النظريات تلك عليهم.

جاسبير بوار، الباحثة في النظرية الكويرية، حذّرت من شرك كهذا، وأخذ بتحذيرها عدد من الناشطين-الباحثين من “دول العالم الثالث” ودول أميركا اللاتينية (أليست أيضا هذه التسميات-الصفات، أحد تلك الشراك؟). النظرية التي يتم اختبار هذا “الآخر” تقع هي الأخرى في شراك من نوع آخر، تتأصل في سياسات ممنهجة، تجعل من “نظرية” أفضل من “أخرى”، أرقى، مُترجمة، مُنقحة، جاهزة للاستهلاك- التطبيق، بصورة أخرى “نظرية عصرية بيضاء”.  

ما يلاحَظ اليوم هو استعارة النظريات الكويرية، كما هي “مؤمركة” (أستعين بـ”بوار” مجدداً) ليصير تطبيقها على التابع الكولونيالي، أي نحن، أو كل من يعتبره الغرب، دون معاييره حول الحداثة. موجة التقاطعية التي بدأت بنشرها الناشطات النسويات اليوم في “عالمنا الثالث”، وتُعيد النظر في الشراك تلك، وأيضاً التساؤل حول السياسات النيو-ليبريالية ذات الخطوط الاستعمارية- الثقافية-الأكاديمية.

جوزيه استيبان مونيوز  من أبرز أسماء النظريات الكويرية التقاطعية، ومن أشد ناقدي سياسات الهويات الجنسية التي خلقها الغرب، كطريقة أسفرت عن نجاحها، راسمة خطوط محددة للهويات الجنسية، تقطع بأريحية، كل خصوصية عرق أو منطقة، وكل الحدود الجغرافية. وقد أسمتها بوار بـ “القومية المثلية” homonationalism.

أريد في ما يلي أن أسلّط الضوء على خطابين كويريين، بالمفهوم الكويري الراديكالي، ضمن منتجين ثقافيين، الأول أرساه المغني الأميركي “ليل ناس إكس”،  Lil Nas X في أغنية “مونتيرو“، والثاني أرسته ميسا ضو ويسر حامد في أغنية “تفاح“. وفي الخطابين، محاولة تفكيك الخطابات الدينية.

نستعمل بوصلة جوزيه استيبان مونيوز ومفهومه للكويرية، كفعل وليس كهوية، كمستقبل وليس كحاضر، كانفصال عن المألوف الذي نتماهى معه، لنصل نحو عوالم جديدة، لعلها عوالم كويرية بكاملها. وشرعت، لأقوم بذلك،  في محاولة ترجمة “مونيوز”، كعمل نضالي شخصي، رافض للنظريات الممنهجة التي تدخل عالمنا من دون استئذان.

لأنهي هذه المقدمة بمقدمة أخرى، أسأل:  كيف نقرأ فيديو لأميركي من أصول أفريقية، وآخر لفلسطينية من “العالم الثالث”،  يستعملان الأيقونات المسيحية والكثير من الأساطير الإغريقية وسفر التكوين والميتولوجيا الفرعونية، ليرسما، كل على حدة، جحيماً وفردوساً، وإعادة صياغة خطاب الرجل-المرأة، مُكسَراً ملتوياً، كفعل يوتوبي، وعد به جوزيه مونيوز في cruising Utopia، وقد تَرجمت العنوان  بتحفّظ كالتالي: “التطواف في المدينة الفاضلة”.

“ليل ناس أكس”: الكويرية فعل أدائي حدّ التماهي

“مونتيرو- ناديني باسمك” أغنية ليل ناس إكس المصوّرة، مليئة بزخارف ورمزيات يونانية رومانية ومسيحية من العصور الوسطى. الفيديو من دون أدنى شك هو نتيجة بحث عميق بغية إعادة بناء سرد تاريخي يستقصي الكويرية أو الممارسات غير النمطية من الخطابات التاريخية والدينية، حيث تم محوها بطريقة ممنهجة.

نرى بطل الفيديو يعيد سردية آدم وحواء، يلعب هو نفسه الدورين. أي هو آدم وهو حواء. كما يتقمص شخصية الأفعى، ليتضح لنا أنها تأخد من “ليليث” شكلاً لها. حيكت حول ليليث أساطير كثيرة، منها أنها المرأة الأولى التي خلقها الله مع آدم، ساكنة الجنة الأولى، ثم نفاها لأنها تمردت عليه، المتمردة الأولى ضد السلطة الذكورية.

ترى أساطير أخرى في ليليث شيطانة من بلاد الرافدين، تحمل معها الموت والمرض. كما ظهرت في ملحمة غلغامش، لتصل صورتها في العصر الحديث على أنها الـ femme fatale، تلك التي تحمل الإثم والشهوة والدمار.

ما يهم هو أن ليل ناس إكس أعاد رسم السردية الأولى للخلق، كويرياً، أي معتمداً لا الهوية الثابة- ذكر/ أنثى، بل التماهي مع الهويات جميعها. هو آدم، وهو حواء، وهو ليليث، بفعل التماهي الذي هو أحد أسس النظرية الكويرية. فالهوية فضفاضة وغير ثابتة، كما جاء عند فرويد وفوكو. وقد اتخذت منهما النظرية الكويرية أبرز أسسها.

التماهي هو الفعل الكويري البحت. وإن كان لا بد من هوية، فهي هوية من دون جوهر، لأنها متحركة، تتشابك فيها ومعها الرغبة، التماهي، الجنس والجندر.

مرّ المغني الأميركي على الفلسفة أيضاً، إذ نجد، في مشهد تظهر فيه شجرة الحياة، مقطعاً من “الندوة” لأفلاطون، باللاتينية، عندما يروي قصة أصل للبشرية، حيث كان البشر في الأصل جسدين ملتصقين معاً – رجل ورجل، وآخر امرأة وامرأة، أو رجل وامرأة. وعندما تم فصل الأجساد عن بعضها من قبل الإله زوس الغاضب، اشتاق كل واحد إلى نصفه الآخر – ما يفسر سبب شعورنا بالحب والرغبة تجاه ناس متعددين ذوات جندر أو ميول جنسية عدة.

ينتهي  المطاف بـ”بطل” الفيديو في الجحيم، ينصهر بالشيطان، كما صوره الخيال المسيحي، ثم يقتله ويأخذ دوره. ليل ناس إكس ينقد المسيحية وطبيعتها القمعية، وكيف أنها تعاقب على أساس الرغبة الجنسية.

ليل ناس إكس يعيد قراءة النصوص الأولى، السرديات الأولى، لا كما فسرت ووصلت، لا بل كما يراها هو، بفعل كويري تفكيكي، بمعنى الـ deconstruction (بأريحية يمكننا أن نستبدل كويرية بالتفكيكية!)

بيير بورديو كان واضحاً بشأن الثنائيات وكيف يتم من خلالها فهم كل ما يحيط بنا، أي عالمنا، أو كيف نضع الأطر الجامدة داخل ثنائيات، تصبح مع مرور الزمن، ثنائيات ثابتة، كأنها حقيقة الأشياء المطلقة.

“تفاح” يُقطف ولا يؤكل

الخلق، سفر التكوين، ولقاء حواء من ضلع آدم. لكن، ماذا لو كان اللقاء الأول، امرأة بامرأة أخرى؟ “تفاح”، أي الرمز الأكبر للخطيئة الأولى ووقوع حواء في شرك الغواية، أغنية فلسطينية شجاعة جداً برأيي، وجميلة لأنها شجاعة. أغنية  تخلط الأوراق، تهدد السائد وكل ما يريح في السرديات الجامدة.

حواء تغري حواء، تترقبها، وهي ترقص وتتمايل لها. الفعل الكويري هو فعل “نظري” أولاً، لأستعين بجورج باتاي، الذي يرى أن  العضو الجنسي الأول (والأخير!) هو العين. يمكن القول إن الحية-المرأة تشتهي حواء. تراقبها من بعيد، تلك المرأة-الكون التي ترقص للكون، ولمن ينظر إليها.

فجأة، نسمع زغاريد في الأغنية، نكون فجأة في عرس، عرس ديني وترانيم تخاطب النبي. نحن في لحظة الخلق، ولكن في الوقت عينه، نحن في الحاضر، نحتفل بعرس، عرس الحية والمرأة، عرس المرأة والمرأة، عرس البشرية الأنثى.

لعلّ أبرز ما في هذا العمل هو الإيقاع. أصدق تعبير عن موسيقى أولى (بدائيّة على رغم أن المصطلح إشكالي)، ولحظة أولى، “مربوط قلبك بالهوا مربوط”. أعيد هنا ذكر ما فعله ليل ناس إكس: “الوعد الأفلاطوني بالآخر-الآخرة”.

أنت مربوطة بي، أنا التي أشتهي، وأنتظر. “تفاح نبّت بالأرض تفاحاً”. التفاحة ليست ثمرة، ولكنها نبتة، تنبت من الأرض، وتكبر. هي لا تؤكل، حكماً، بل تعطي ما يؤكل. ولكن تفاحنا نحن، ليس بتفاح. إنه زيتون. فلسطين الزيتون، والثمرة الأولى.

الرمزية التي تحملها التفاحة في المنظور الديني، كُسرت هنا وتحولت الى ما لا يقضم، بل يقطف. محاولة النسوية الـ transnational، تتجلى في ترك الخطاب الغربي، والبحث عن خطابات خاصة بواقعها الجغرافي والثقافي.

“من حيفا نزفك لبحر استوت”. العودة الي الأصل، ولكن أصل العالم الخاص بنا، أرضنا وشاطئنا وكلماتنا. نزف العروس-حواء، في أرض فلسطين! سترقص المرأتان معاً، ولن تتلامسا. ترقصان لآلهة ما، تقدمان لها الأضاحي، في أرض النخيل والزيتون. إن الله في خطاب ميسا ضو، يُرقص له، ولا يُنحنى له. بالرّق تحاك الرقصة. آلة تعيد البدء للإيقاع.

لعل “انتزاع التماهي” disidentification هو في عدم التماهي مع الخطاب الأحادي، مع السردية التي أصبحت جزءاً من لا وعي جماعي. لتتمكن ميسا ضو من تفكيك الخطاب، كان عليها أولا أن تخسر التماهي المؤصل، لكي تخبر قصة الخلق، بعرس فلسطيني، وثني مغاير.

الكويرية هي الـ contra، فعل الرفض للأنماط، كل الأنماط، رفض الانصياع لسردية حكيت يوماً ما، لإله أوحد يعاقب ويختبر.  في خطاب ميسا ضو، رفض لسفر التكوين كما حيك. رفض للثنائيات كما وضعت. رفض اختيار المريح.

خلط الأنواع

ليل ناس إكس وميسا ضو يكوّران (أي فعل التكوير-Queerign ) النص الديني. ألكسندر دوتي، رائد تكوير النصوص، وأهم أعيان إعادة قراءة نصوص الأفلام من منطلق كويري، يرى أن الكويرية موجودة حكماً، في كل نص، وفي كل مكان، ولا يمكن إنكارها. التلقي الكويري، أي كيف يفسر قارئ أو متلقٍّ، أي نص، على أنه نص كويري، يجعله يقف خارج الفئات الجوهرية والواضحة للهوية الجنسية، التي يعمل معظم الناس في ظلّها.

لكن ليل ناس إكس وميسا ضو لم يكتفيا فقط بتلقي النص. لا بل صوراه وأخرجاه وغنّياه، خارج الفئة الواضحة للهوية الجنسية التي قُرأت النصوص الدينية على أساسها، وخارج الخطوط المحددة للهويات الجنسية المغايرة، التي انتقدها جوزيه استيبان مونيوز.  لا بد من قانون يرتب العلاقات وكل ما يحيط بالأفراد، ذكر/أنثى، أبيض/أسود، خير/شر.

نحن نحتاج الى قانون، لأننا دائماً ننتظر عند بوابته حسب جاك دريدا، لأنه إن لم يتم وضع قانون، وإذا لم تُكتب لغة القانون، فسنظل نحن ننتظر. لكن ماذا لو كسرت القوانين تلك؟ ماذا لو أعيدت صياغة سردية نص القانون، نص ديني، ماذا يمكن أن يحصل؟ تلك الإمكانية فعل تفكيكي بحد ذاته.

القانون في الجنس واضح، ذكر /أنثى، رجل وامرأة. ولا يجب أن نخلط الأنواع/الجندر (دريدا)، لكن يبقى السؤال، ماذا لو خلطت تلك الأنواع؟ نقع في “التكوير”، وفي اليوتوبيا، وفي المدن الفاضلة المستقبليّة.