fbpx

جوردان بيترسون ومحاربة إيديولوجيا الانصياع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

عالم النفس السريري هذا، علم نفس الشخصية ضمناً، والذي ينتمي الى مدرسة كارل يونغ في التحليل النفسي، والمهدد بنزع رخصته كطبيب في كندا؛ وسّع مساحات معارفه وتخصصه لتشمل علم نفس الأديان والسوسيولوجيا والسياسة والاقتصاد، التاريخ، الأدب، وعلم الأحياء التطوري.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“في عالم عاقل، كنت سأحصل على 15 دقيقة من الشهرة”. من هذا التصريح الذي أدلى به المفكر الكندي جوردان بيترسون، يمكن أن نفهم هذا الرجل الذي أشعل، وما زال، سجالات ثقافية وفكرية وسياسية في العالم الغربي، في أميركا وكندا على وجه الخصوص، وامتدت تأثيراته على خارطة النقاشات الفكرية في العالم.

وإذا ما أكملنا تصريحاته، في اللقاءات التي احتضنتها منصات وسائل التواصل الاجتماعي “يوتيوب” بشكل خاص، ستتضح ملامح “الحروب الثقافية والفكرية” التي استفاد بيترسون منها، وعمل على تأجيجها لاحقاً.

“أشعر وكأنني أركب موجة عملاقة يمكن أن تنهار وتمحوني، أو يمكنني ركوبها والاستمرار. كل هذه الخيارات ممكنة بالقدر نفسه”.

لا يبدو كلام بيترسون مشابهاً للغة المفكرين في حواراتهم بشكل عام، فتلك التصريحات تحمل طابعاً دعائياً، يشبه ردود نجوم الفن والميديا بشكل عام، وهي النقطة التي ارتكز عليها منتقدوه، نعتوه بمهووس الشهرة وتقصُّد الاختلاف عن الإجماع الأميركي والكندي للمفاهيم الجديدة حول الجندر والهوية الجنسية، وإدراجها ضمن قوانين سارية على مستوى الحياة اليومية، ومعتمدة على المستوى المعرفي والأكاديمي.

عالم النفس السريري هذا، علم نفس الشخصية ضمناً، والذي ينتمي الى مدرسة كارل يونغ في التحليل النفسي، والمهدد بنزع رخصته كطبيب في كندا؛ وسّع مساحات معارفه وتخصصه لتشمل علم نفس الأديان والسوسيولوجيا والسياسة والاقتصاد، التاريخ، الأدب، وعلم الأحياء التطوري.

لم تأتِ شهرة بيترسون من كتبه “كبيرة الحجم”، والتي يغلب عليها الطابع الإرشادي، كما نعتقد، لا سيما في “12 قاعدة للحياة: ترياق للفوضى”، و “ما وراء النظام: 12 قاعدة أخرى للحياة”. بل جاءت شهرته وصعود نجمه كأحد المفكرين المؤثرين في العالم الغربي، من تصريحاته حول قوانين الهوية الجنسية في كندا، وكذا الأمر السجال مع النسويات “المناظرة الشهيرة مع كاثي نيومان” وبرنامجه على منصة “يوتيوب”، “أستاذ ضد الصواب السياسي”.

الفيلسوف والنجم و”العدو”

بات بيترسون “نجم يوتيوب”، ناقلاً مساحة النقاش من الكتب والنقد الرصين، حتى وإن كان لا يتقصد ذلك في حساب حُسن النوايا، إلى حديث يتم تناقله على لسان غير المتخصصين من دون رصانة نقدية بشكل واضح، وازدياد منسوب الأيديولوجيا من طرفي الصراع حول أفكاره، بين مؤيد متشدد له ومعارض درجة الإقصاء.

في عام 2016، وأثناء النقاش حول مشروع القانون الكندي “C-16″، الهادف الى توسيع نطاق قانون حقوق الإنسان من خلال إضافة “الهوية الجنسية والتعبير الجنسي” إلى قائمة الأسباب التي يُحظر التمييز على أساسها؛ صرّح بيترسون بأن إقرار هذا القانون هو واحد من سلسلة المصطلحات الجديدة لـ “المستبدين” السياسيين. ورأى أن إجباره على استخدام “ضمائر محايدة” بين الجنسين انتهاك خطير لحقه في حرية التعبير. 

اعتراض بيترسون كان حول موضوعة “الضمائر”، وإقراراً بأن المتحولين جنسياً يجب أن تتم مخاطبتهم بضمائر مختلفة عن تلك التي التصقت بهم عند الولادة “حسب القانون الجديد”؛ الذي أقر بأن رفض الإشارة إليهم بالاسم المختار والضمير الشخصي الذي يتطابق مع هويتهم الجنسية، يعد تمييزاً. بل وصف حد “جريمة الكراهية”، ومع ذلك فقد أعلن بيترسون أنه لن يكون “ناطقاً بلسان اللغة التي أكرهها”، والأهم، احتجاجه على استخدام صفة “تعنيف-Abuse” في حال لم يخاطب الفرد بالضمير الذي اختاره.

موقف بيترسون كان معبراً ربما عن مواقف الكثيرين. إذ إن تدخّله الواضح هنا بالإدلاء بوجهة نظره حول سجال الضمائر، من دون تنميق، بدا ضرورياً ربما، في لحظة “خضعت” فيه غالبية الاتجاهات الثقافية والسياسية للموافقة على “نظام عالمي جديد” من اللغة، حسبما نرى. ولأن بيترسون على قناعة بأن ما يحدث من تغيرات في عادات الناس اليومية في التخاطب والتواصل اللغوي الجديد هو قادم من “مؤسسات سياسية عليا مستبدة”، فإن ما يقوله ويكتبه “يمنح الناس الكلمات التي يحتاجونها للتعبير عما عجزوا عن قوله” على ما يذكر هو (Beyond Order, 12 More Rules for Life).

الجرأة الأكبر لدى بيترسون كانت أفكاره حول فلسفة النسوية، التي ناقشها من جانب فكري تطوري، من دون الانحياز الى السياق الداعم لمدارس النسوية المعاصرة، المؤسس سياسياً، والمطلوب كذلك في الوقت الراهن، على ما نفهم من نقده حولها. إن فكرة “تعرّض النساء للاضطهاد عبر التاريخ هي نظرية مروعة” على ما يقول، كما أن الاعتقاد بأن الهوية الجنسية أمر شخصي “هو أمر سيئ مثل الادعاء بأن العالم مسطح”، ما أدى إلى مقاطعته وإلغائه، وظهوره في برامج نظريات المؤامرة واليمين المتطرف، التي تبنت مقارباته كانتصار للرجل ضد “وحش النسويّة”

اتخذ بيترسون، كمتوافق مع أفكاره، موقفاً مسانداً للقضية التي رفعت أمام القضاء، من مهندسين (جيمس دامور وديفيد غودمان)، في شركة “غوغل” بسبب “التمييز ضد الموظفين الرجال”، إذ ادّعى الموظفان بأن “غوغل” تستخدم حصص توظيف غير قانونية، لملء وظائف شاغرة بالنساء والأقليات، وأن الرجال “يُهددون بشكل علني، ويتعرضون لمضايقات وانتقام” في الشركة، التي يصفونها بأنها “غرفة صدى أيديولوجية”.

قد نبتعد قليلاً عن السجال و”الشجار” والتهم التي وصمت بيترسون جرّاء مواقفه المباشرة تجاه قضايا وأفكار، اعتقد معتنقوها بأنها باتت من المسلمات، ما أسس للشهرة الكبيرة لهذا الرجل، والاستقطابات المتباينة حول أفكاره.

لكن ماذا عن أفكاره ونظرياته إذاً؟ وهو السؤال الذي يجب أن يعتني به نقاده من الحقول المعرفية، التي أغرق نفسه فيها، واختزلها أيضاً في بعض الأحيان.

“الكتب كبيرة الحجم”

تتميز كتب بيترسون “الكبيرة الحجم”، وخصوصاً الثلاثة المعروفة بشكل خاص (خرائط المعنى، 12 قاعدة للحياة، ما وراء النظام) بتداخل الشخصي بالموضوعي، إذ دائماً ما ينطلق بيترسون من نفسه وتجربته الحياتية ليعمم سلسلة من الأفكار والإرشادات، إذا ما اتبعناها فإننا نستطيع أن نغير هذا العالم، على اعتبار أن التغيير في الشخصية أمر ممكن، وهو ما يؤسس للتغير في النظام الذي يحيط بنا، على ما يؤكد بيترسون.

في كتاب “خرائط المعنى، بنية المعتقد”، ينشغل بيترسون بالآليات التي يخلق عن طريقها الأفراد “المعاني” وبناء المعتقدات، وبالضرورة الحكايات والآداب. في الكتاب الذي استغرق في تأليفه ما يقارب 13 عاماً، وضع بيترسون جملة معارفه المتنوعة المشارب، والحقول المعرفية المتداخلة والبينية، من علم النفس والسوسيولوجيا والفلسفة، والأدب، والأساطير والأديان، ليفسّر آليات اشتغال الذهن البشري “استناداً إلى مفاهيم تلك الحقول المعرفية كافة” على خلق المعاني ودلالاتها وترسيخ المعتقدات والالتزام بتعاليمها. وذلك كسبيل له للكشف عن دوافع الأفراد والجماعات المختلفة في الدخول في صراع اجتماعي للدفاع عن نُظم معتقداتهم المختلفة. ولا عجب إذاً في أنه صدّر لكتابه مقطعاً من إنجيل متّى: (سأنطق بأشياء كانت مخفية منذ تأسيس العالم).

عمق كتاب خرائط المعنى وغواية الاستكشاف التي سنقرأها فيه، سيتغيران مع كتابيه اللاحقين، بطريقة تدعو الى التساؤل.

في كتابه “12 قاعدة للحياة، ترياق للفوضى“، سنجتهد حتى نصل إلى نتيجة تقول بأننا يجب أن نقوم بفعل تغييري شخصي، وأننا أيضا نتحمل مسؤوليتنا حيال ما يحدث لنا. كان بالإمكان اختصار كتاب بيترسون في صفحات قليلة، لولا إقحام حياته الشخصية وتصوراته الذاتية لتأسيس “قواعد” تخالف في بنيتها ومضمونها ما نظّر له يونغ، شخصية بيترسون المفضلة والمتتلمذ على أفكاره في العلاج النفسي. إذ كيف يستوي الأمر مع عالم نفس سريري (يونغي) أن يحيل مشكلات الفرد إليه وليس إلى النسق العام، ويطالبه بفعل التغيير.

يعود بيترسون ليمارس “وصاية” منحها لنفسه في إقرارا قواعد (12 فقط كافية) يجب على الفرد تمثلها ليستطيع فهم العالم حوله والبدء بالتغيير الشخصي. ألا يبدو هذا الكلام إرشادياً بطريقة ما؟ لا سيما مع لغة اعتمدت على الإملاء وفعل “الأمر” في القواعد الـ 12 (قف، عامِل، اختر، قارن، لا تدع، رتّب، اتّبع، قُل، افترض، كُن، لا تزعج، قُم).

هذه القواعد، وإن لم تكن إملاءات قادمة من وصاية تجربة شخصية، فإنها تشابه كثيراً كتب ودورات “التنمية البشرية” ذات المحتوى المتكرر، والتي لا تمنح المتدربين سوى “وهم القدرة على الفعل”. وإلا فكيف سنقتنع كأفراد، وليس كناقدين، بأن “الدليل الإرشادي” لبيترسون هو أفكار تحفيزية لنقد العالم والسياسات التي تتحكم بنا!

بنية الأفكار واللغة في الكتاب السابق، ستمتد إلى كتابه التالي (ما وراء النظام، 12 فكرة إضافية للحياة)، إذ سنتعرف على أزماته الصحية ومراحل جديدة من حياته (حتى يبدو الأمر وكأننا نقرأ سيرة ذاتية)، وذلك قبل أن يقدم لنا نسخة من “دليل جديد” حول الاستمرار في حياة ذات جدوى ولها معنى.

وستواجهنا سلسلة جديدة من قواعد بيترسون، كاستكمال للقواعد السابقة، وهو ما يفتح السؤال حول كيفية تمثل تلك القواعد من الأفراد. قواعد عامة تصلح مجدداً للنقاش عدا التنظير الفكري.

“لا تشوه سمعتك الاجتماعية بلا مبالاة، تخيل من يمكن أن تكون ثم قم بالهدف، لا تخفي الأشياء غير المرغوب فيها في الضباب، لاحظ أين تتربص الفرصة، لا تفعل ما تكره، التخلي عن الأيديولوجية، اعمل بأقصى ما تستطيع، شيئاً واحداً على الأقل، وانظر ماذا سيحدث، حاول أن تجعل غرفة واحدة في منزلك جميلة قدر الإمكان، إذا كانت الذكريات القديمة لا تزال تزعجك اكتبها بعناية وبشكل كامل، خطط واعمل بجد للحفاظ على الرومانسية في علاقتك، لا تسمح لنفسك أن تصبح مستاء، مخادعاً، أو متعجرفاً، كن ممتناً على الرغم من معاناتك”.

تبدو قواعد بيترسون فضفاضة بشكل كبير، وتعود مرة أخرى لتتمحور حول تحمّل الفرد المسؤولية عن مواقفه. وفي هذه الفكرة، كما سابقتها في الكتاب الأول، هي نقيض تماماً لما أقرّ به المعلم (يونغ) من أن سيادة نسق اجتماعي تفقد الفرد إمكان التغيير الشخصي، وهو ما أصر عليه بيترسون في الكتابين المذكورين.

بنية أفكار بيترسون هنا ستقترب سوسيولوجياً أكثر من الحقول المعرفية الأخرى، وتحديداً استلهامه للسوسيولوجي الإيطالي ف. باريتو، لكن من دون أن ينوّه إليه.

في الأحوال كافة، لن ننتظر بيترسون ليحيلنا بشكل مباشر ومكتوب إلى باريتو، فمضمون الأفكار في كتابيه الأخيرين، ما هو إلا توسيع نقاش بطبعة أنغلو/ساكسونية لفكرة الإيطالي من أن “التغييرات الصغيرة يمكن أن تؤدي إلى نتائج كبيرة بشكل غير متوقع”.

استقطبت أفكار “بيترسون” متابعين مختلفي التوجه الفكري والثقافي والسياسي، مؤيدين ومعارضين، يميناً محافظاً ويساراً راديكالياً. ولأن التيار السياسي المحافظ جاء كمعادل لظهور التيار الفكري المحافظ، في أميركا بشكل خاص؛ فقد كان وصول “د. ترامب” إلى السلطة عام 2016 نتيجة نافلة.

اتُّهم بيترسون بمحاباة ترامب ووصفه بأنه “ليبرالي ومعتدل” مقابل مناهضة اليسار و”شيطنته”. لكن هذه الاتهامات كانت من مبدأ قطع سياق فكرته حول أداء اليسار واليمين في الحياة السياسية والثقافية. فقد أقرّ بيترسون بـ “ديماغوجية” ناخبي ترامب من ناحية، وألقى باللوم على “اليسار” لضعف برامجه والإقصاء الذي يمارسه في تبني مواقف القسر والإجبار، لا سيما في قضايا الهوية الجنسية وإلغاء حرية التعبير اللغوي في الحياة اليومية، كما يرى بيترسون.

وعلى عكس ما يروّج له مناهضو بيترسون، فقد اعتبر أن “اللحظة الترامبية” هي أحد أعراض مشكلات العالم المعاصرة وليست سبباً لها. فصعود “ترامب” أمر مؤسف، على ما يقول، ولكنه أيضا لا مفر منه، لكن المفارقة، أنه يستند في ذلك إلى مواقفه من “تأنيث” الحياة ولغة التعبير؛ محذّراً من الأيديولوجيا السياسية الفاشية، تلك التي لا يخفي تأثره بها، فمنزله مليء بصورة “معاناة الإنسان في ظل الديكتاتوريّة” والسحر الذي يمسه حين يتحدث عن قدرة البشر على ارتكاب الشرّ.