fbpx

الى اللقاء يا عصام 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إلى اللقاء يا عصام، وحتى ذلك اليوم، أقول لك: شكرا طويلة وعريضة ومشعّة وصادحة بحجم ابتسامتك، شكرا لحياتك القصيرة بيننا، المكتظة بالمفاجآت والفكاهات.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الطريق إلى الخيام، كانت على غير عادتها، طويلة وبعيدة، والسيارة ما كانت تنهب الأرض نهبا، قلوبنا هي التي كانت منهوبة، والوقت لم يكن صبحا كان حزنا.

إنه يوم تشريني أسود آخر في روزنامة حياتنا، لأربع سنوات خلت، طوينا هذه الطرقات نحو بنت جبيل لدفن نادين، وها نحن اليوم، نعيد الكرّة مرّة أخرى، نخترق الهدوء الحذر، الذي يخيّم على الجنوب، لندفن عصام.

نتسلّل من جهة برج الملوك، على رؤوس قلوبنا، حجارة هادئة هي الخيام، كما تبدو وهي قائمة منذ الأزل على التلّة الرفيعة في الأفق القريب، إلى اليمين، تتدلّى تفّاحة “البلاد” المحرّمة خضراء شهيّة للناظرين، وإلى اليسار، يلوح وجهك معلّقا في فضاء الدردارة، وصوت سميّك عصام العبدلله يرنّ في رأسي “وتعلّقوا متل التحف متل القمر عم ينخطف”، وهناك في القمّة، يظهر ما تبقى من سجن الخيام، شاهدا على مآسي صبايا وشبان “أحبّوا البلاد كما لم يحبّ أحد البلاد”، وأمضوا أجمل سنوات عمرهم، فوق بلاطات الزنازين الباردة، برغم أن بيوتهم في القرى قريبة ودافئة. 

فاروق ومصطفى في الأمام وأنا في المقعد الخلفي، نحاول أن نتلهّى عن ذكرك، بأحاديث متقطّعة، عن خساراتنا الكثيرة، عن فقدنا الشخصي، عن مآسي غزة المتكرّرة، نعالج الصمت الذي يعقب محاولة الحديث عنك، ببعض النميمة والنكات الممجوجة، كل محاولاتنا تذهب عبثا، أشخاص يخشون على قلوبهم من ذكر اسمك، كيف سيتدبّرون أمر حياتهم من بعدك؟ ألتفت إلى المقعد الفارغ جنبي، أراك جالسا تضحك علينا، أترافقنا إلى دفنك يا شقي؟

وصلنا يا عصام، هل تعجبك لمّة الأصحاب؟ اشتقنا، ولم يمضِ على موتك بضع ساعات، زحفنا من بيروت لنصدّق أننا لن نراك بعد الآن، للمرّة الأولى، نلتقي في بيتك حاملين الدموع بدل الضحكات؛ غريب ومستهجن عدم اجتماع حضورك والفرح، أيّ لقاء هذا الذي لا يشبهك؟ 

سيختلف من بعده، تفسيرنا للفقد، فهمنا للخسارة، سيصعب علينا تصوّر حياتك هناك من دون أيّ منّا، وحياتنا هنا من دونك، سهم غيابك سينغرز في أكبادنا، وسننزف ما حيينا، شوقا وكمدا.

يا رفيقاً من نظرات متلألئة وضحكات مجلجلة وصخب يشي بحياة استثنائية، هل هذا مشوار آخر بلا تخطيط، من مشاويرك العادية اليومية؟ جوعان؟ المسافة إلى صور ليست بعيدة، حين يتعلّق الأمر بسندويش فتايل من عند محفوظ، غدا، سفيحة بعلبكية عند صفوان بالأوزاعي، فلا فضل لأحدهما على الآخر إلا ب”السقسقة”، المهم أن تفوز “اللحمة الوطنية” في النهاية، مع ضحكة طويلة، رسالة أعدت قراءتها مرات، منذ طوى الحدود خبر موتك.

إنه يوم تشريني أسود آخر في روزنامة حياتنا، لأربع سنوات خلت، طوينا هذه الطرقات نحو بنت جبيل لدفن نادين، وها نحن اليوم، نعيد الكرّة مرّة أخرى، نخترق الهدوء الحذر، الذي يخيّم على الجنوب، لندفن عصام.

مرّة التقينا في القاهرة، في تغطية لثورة يناير، كانت الكاميرا في يدك طيّعة مثل الخاتم، تغلق عينا وتحصر موهبتك بالعين الأخرى، تضغط على الزر، ويا للروعة، تخرج اللقطات إلى الحياة ريّانة، غضّة، مثل أطفال حديثي الولادة، تدير فوهة الكاميرا إلى الأسفل، وتشير إليّ “تعي شوفي”، وتبدأ بتمرير اللقطات، فأصرخ ما هذه الكنوز يا صبي؟ هل هذا المكان موجود بالفعل؟ بعمري لم أحسب أن آلة التصوير بإمكانها أن تخلق مثل هذا الجمال! 

في القاهرة خرجنا مرّة بحثا عن سندويش لحمة، كالعادة، تعثرّنا فيما تعثرّنا، بمقهى عتيق، روّاده من الرجال، لا يُغري بالمغامرة بحسب معاييرك! لكن اسمه “مقهى الكلام الفاضي” كان بحدّ ذاته ذكرى جميلة عن القاهرة، ضحكنا كثيرا، وشرعنا نفسّر الظروف النفسية والمادية، التي تدفع شخصا إلى الاستثمار في الكلام الفاضي، وتوصّلنا إلى نتيجة أن الحياة شيء تافه وعبثي، وكل الكلام الذي نعتبره مهما، ما هو إلا نشاز بلا معنى، وضحكنا مجدّدا، بعدد المرات التي تعثّر فيها مواطن مصري، حاول كتابة كلمة كاراج، بطريقة صحيحة على لافتة محلّه، فمرّة جراج ومرّة كراج ومرّة ثالثة چراج ورابعة وخامسة، أيّ معضلة وقع فيها المصريون في لفظ حرف الجيم وكتابته؟

راكبا على درّاجتك النارية، تجوب شارع الحمرا ذهابا وإيّابا، كلما التقيت بصديق أو صديقة تسأل بكل جديّة: دخلك بتعرف طريق القدس من وين؟ وتدوّي ضحكتك ومحرك درّاجتك معا في أرجاء الشارع، ومثل ساعي البريد تطير بهما بلا جناحين، تنقل رسائل الحبّ من شارع إلى آخر، من مدينة إلى أخرى، ترميها على أعتاب الأبواب وحوافي الشبابيك، وتنصب بهما فخا للجميلات، أوّل ما تفعله حين تواعد إحداهن أن تغريها بمشوار على الموتو، يا كازانوفا عصرك!

رفقتك مسلسل فكاهي لا ينتهي، متلازمة اسمها الضحك المتواصل، ربما كانت الظروف الشديدة القتامة، التي واجهتك، حافزا لقدراتك على صناعة الضحك واختراع الفرح، من كل شيء ومن اللاشيء، موهبتك الفطرية بالتمثيل، واحدة من قدراتك الكثيرة، من يعرفك يدرك صحّة هذا الكلام، كان يجب أن تكون أمام الكاميرا لا خلفها، المرّة الوحيدة التي فعلتها، كنت ممدّدا على الأرض، بلا حراك، ليتها كانت لقطة من الفيلم، الذي كنت تجمع موادّه حين تنوي الاستقالة، ليتها كانت إحدى مزحاتك، ليتك بقيت جنديا مجهولا خلف الكاميرا، ما كان أغنانا عن هذه النهاية الحزينة! أيها الكائن الطيفي المفعم بالبراءة والنضارة والشباب الدائم، أنا على يقين، أنك واجهت موتك ووجهك وضّاح وثغرك باسم.

دمك دين علينا، حقّ سيرثه أبناؤنا وأحفادنا، وسيرثون معه مهمّة محاسبة قاتلك، لا بأس في أنه لم يعترف بقتلك اليوم، نحن نعرف أنه قتلك، وهذا يكفي، لأنه سيأتي اليوم الذي تتوسّع فيه رقعة الحقيقة، لتطرد الباطل إلى خارج التاريخ والجغرافيا، لا محالة.

لقد رأى العالم، أمّك وعمّتك ليلى؛ اللتين وشمت اسميهما على ذراعك، وشقيقتك عبير وبنات عماتك، كيف تجندن لفضح القاتل، كنّ حين يدخل صحافي أو صحافية، أو تتوجه صوبهن عدسة كاميرا، خصوصا إذا كانت أجنبية، يصرخن بالعربية والإنجليزية: “إسرائيل قتلت عصام”، محترفات مثلك، وعدوّك بعكسك، جبان مرتين، مرّة لأنه لم يعترف، ومرة أخرى لأنه لن يحتفل بثأره من عين الحقيقة، التي تلاحقه.

دمك عرّى الكثير من المفاهيم الزائفة، من دول صدّعت رؤوسنا بقيم الديمقراطية والحرية، ما لبث أن تهاوت عند أول احتكاك، وتحوّلت إلى أدوات قمع وآلات صماء في يد الجلاد، كم هو مضحك أننا كنا جميعا أسرى خدعة حرية الصحافة في الغرب، دمك قال لهم نيابة عن كل قتلانا، لم نعد بحاجة إلى دروسكم، ولا إلى أستذتكم علينا، وتفضلوا للتعلّم في مدارسنا بأسعار مدروسة ومنح للمتفوقين منكم، وسنكفل لكم عدم خطف حياة أحدكم ولا مصادرة عقله ولا خداعه.

 قتل شيرين كان امتحانا أوليا لنا ولهم، اجتازوه بالتسويف ولم نجتزه بالنجاح، دمك لن يكون رخيصا، لا لن أقول هذا، دمك غالٍ، هم فقط، لا يقوون على حمله، لأنهم من ذوي الدم البارد.

والحق نسيج واحد متكامل، من أول الأرض إلى آخرها، ولا يحتمل ثقوبا ولا قطبا مخفية، وبقياس واحد، لا يقبل القسمة ولا التقسيم، مثل فلسطين، مثل اسم شيرين مثل اسمك.

إلى اللقاء يا عصام، وحتى ذلك اليوم، أقول لك: شكرا طويلة وعريضة ومشعّة وصادحة بحجم ابتسامتك، شكرا لحياتك القصيرة بيننا، المكتظة بالمفاجآت والفكاهات.

أنا على يقين، أنه في قلبك ذكرى جميلة، عن كلّ واحد منّا، وليس لأحدنا فضل في ذلك، وأنه في قلب كلّ واحد منّا، ذكرى جميلة عنك، ولك الفضل كلّه في ذلك.