fbpx

تضييق على البطاقات البنكيّة… كيف سقطت البنوك المصرية في فخ الديون؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تواصل البنوك المصرية وضع قيود على استخدام البطاقات البنكية للتعاملات الدولية، ويأتي ذلك في ظل أزمة شحّ في العملات الأجنبية. ومنذ بداية العام، يسعى البنك المركزي المصري ومعه بقية البنوك، الى عدم إخراج الدولار من خزائنهم للراغبين في إجراء مدفوعات من الداخل أو إجراء معاملات مالية في الخارج.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُعد القطاع المصرفي المصري من بين الأضخم في الشرق الأوسط، بسبب حجم السوق الضخم والعدد الهائل للسكان الذين يُشكلون عشرات الملايين  من العملاء، وتشير قاعدة بيانات الشمول المالي الصادرة عن البنك المركزي في حزيران/ يونيو 2023، إلى امتلاك 44 مليون مواطن حساب معاملات مالية، إذ بلغت نسبة المواطنين المشمولين مالياً 67 في المئة، ما يجعل البنوك تتمتع بجاذبية خاصة. لكن منذ بداية الأزمة الاقتصادية، بدأت البنوك تُعاني نتيجة الكثير من الضغوطات والتحديات، بالإضافة إلى تقييم وكالات التصنيف الائتماني والتقارير المتشائمة بسبب المخاطر المرتفعة التي يتعرض لها القطاع المصرفي الذي أثقلته التزامات الحكومة المصرية.

تضييق على تعاملات الأفراد

تواصل البنوك المصرية وضع قيود على استخدام البطاقات البنكية للتعاملات الدولية، ويأتي ذلك في ظل أزمة شحّ في العملات الأجنبية. ومنذ بداية العام، يسعى البنك المركزي المصري ومعه بقية البنوك، الى عدم إخراج الدولار من خزائنهم للراغبين في إجراء مدفوعات من الداخل أو إجراء معاملات مالية في الخارج.

بدأ ذلك من خلال سلسلة من الإجراءات، بداية من فرض عمولة تدبير بنسبة 10 في المئة من قيمة المبلغ المسحوب أو التي يتم إنفاقها عن طريق الشراء، وبعدها خُفِّض سقف السحب من البطاقات خارج مصر ليصل إلى بضع مئات الدولارات. ثم تبع ذلك إيقاف الشراء في الخارج بكل أنواع البطاقات البنكية باستثناء من يحملون البطاقات الائتمانية، وصولاً إلى القرار الأخير بوضع حد للشراء شهرياً على جميع البطاقات الائتمانية عند 240 دولاراً فقط.

والجدير بالذكر أن قرار البنك المركزي في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، بوقف استخدام “بطاقات الخصم المباشر” للشراء بالعملة الأجنبية، تسبب بقلق في السوق، ودفع الأشخاص والشركات إلى اللجوء للسوق الموازي للحصول على العملة الأجنبية، ما أدى إلى ارتفاع سعر الدولار إلى مستويات قياسية، وبعدما كان الدولار يتم تداوله عند مستوى 40 جنيهاً، تخطى 50 جنيهاً. ذلك فيما يقف سعر الصرف الرسمي عند 30.9 جنيه.

أما القرار الأخير بتغليظ القيود على استخدام البطاقات الائتمانية، حفاظاً على ما تبقى من دولار في خزائن البنوك، فقد تسبب في جدل هائل، واندفعت الشكاوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من الأفراد والمؤسسات الذين لا يستطيعون تيسير أعمالهم أو تلبية احتياجاتهم بسبب عدم قدرتهم على الدفع بالدولار. ومن خلال رصد ردود الفعل في منصة “إكس”، لاحظنا أن الأزمة لم تعد تقتصر على عدم قدرة البنوك على توفير  النقد الأجنبي. إذ إن البعض يمتلك بالفعل عملة أجنبية في حسابه البنكي، وعلى رغم ذلك فهو لا يستطيع إنفاق أمواله كما يريد بسبب قيود البنوك.

وعلى رغم المعاناة الكبيرة التي خلفتها هذه القرارات، لكننا هنا لسنا بصدد مناقشتها، لأنها تبقى مجرد أعراض، أما المرض الرئيسي فيبدو أنه أكثر أهمية وخطورة من ذلك كله.

تخفيض التصنيف الائتماني للبنوك المصرية 

منذ بداية عام 2022، تعرضت بنوك مصر والأهلي المصري والقاهرة والتجاري الدولي لخفض تصنيفها الائتماني لمنطقة عالية المخاطر، وذلك من أكبر وكالات التصنيف الائتماني في العالم، وهي “موديز” و”ستاندرد آند بورز” و”فيتش“. ويعكس التصنيف مدى قدرة البنوك على الوفاء بالتزاماتها وتحمّل مستوى مقبول من المخاطر. يأتي ذلك في ظل أزمة هيكلية غير مسبوقة يعيشها الاقتصاد المصري. 

وفي تخفيضاتها المستمرة، استندت وكالات التصنيف الائتماني إلى مؤشرات الأداء المالي والاقتصادي، التي تُظهر ارتفاع المخاطر التي تحيط بأزمة نقص العملة الأجنبية وزيادة عبء خدمة الدين الخارجي. وفي حديثه مع “درج”، يرى المحلل الاقتصادي هيثم الجندي، أن تخفيض التصنيف الائتماني لبعض البنوك المصرية مرتبط بتخفيض التصنيف السيادي، والأثر المباشر هو ارتفاع تكلفة الاقتراض الخارجي على هذه البنوك. 

وما نلاحظه عند قراءة التقارير التي نشرتها وكالات التصنيف الائتماني لعرض الأسباب التي تدفعها إلى هذا التخفيض، أن الوكالات الثلاث تتفق على بعض النقاط الرئيسية، وأهمها انكشاف البنوك على الديون السيادية، بسبب حيازتها جزءاً كبيراً من سندات الدين الحكومية. ما جعل الوضع الائتماني للبنوك مرتبطاً بالتصنيف الائتماني للاقتصاد الذي يواجه ضغوطاً متزايدة مع تراجع الثقة في إمكان التغلب على التحديات على المستوى المنظور.

وخلال حديثها مع “درج”، تتوقع الباحثة الاقتصادية سمر عادل أن يؤثر تخفيض التصنيف الائتماني على تدفق الاستثمارات الى مصر، بسبب تخوفات المستثمرين من المخاطر المحتملة.  وفي تقريرها الصادر خلال شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، لا تتوقع وكالة “فيتش” أن تنتهي أزمة نقص العملة الأجنبية قريباً بسبب تراجع ثقة المستثمرين، نتيجة المبالغة في تقدير قيمة العملة المصرية، وتقدم الحكومة البطيء في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية. ويضر ذلك كله بقدرة الحكومة على سداد الديون ويرفع تكلفة الإقراض، ما يزيد الضغوط على أداء تلك البنوك التي تستثمر ما يقرب من 50 في المئة من إجمالي أصولها في الديون الحكومية. لذلك سنحاول تسليط الضوء على طبيعة الأزمة التي يمر بها القطاع المصرفي وأسبابها، وكيف وقعت البنوك في فخ الديون الحكومية.

“البنوك لا تزال تتمتع بسيولة وفيرة، وهو ما يؤكد أن القطاع المصرفي متماسك رغم التحديات المقلقة”.

اعتماد الحكومة على تمويل الموازنة

عام 2022 ومع هروب الاستثمارات الأجنبية من أدوات الدين الحكومية، اعتمدت الحكومة المصرية بشكل أساسي على الاقتراض من البنوك داخل مصر بهدف تمويل الموازنة العامة، إذ تستحوذ البنوك على شراء معظم الطروحات المعروضة من أذون وسندات الخزانة التي تستحق السداد خلال آجال تتراوح بين 91 يوماً إلى 364 يومياً، مقابل متوسط سعر فائدة مرتفع يصل إلى 27 في المئة. وعلى رغم ارتفاع أسعار الفائدة، إلا أنها تظل سلبية بسبب ارتفاع معدل التضخم السنوي عند 33 في المئة، ما يجعل البنوك تطالب الحكومة بشكل مستمر برفع قيمة العائد لتعوض نفسها عن العائد السلبي.


 ووفقاً لإفصاح البنك المركزي، فقد بلغت استثمارات البنوك في أدوات البنوك الحكومية نحو 3.21 تريليون جنيه في عام 2022. وهو ما ظهر في تقرير وكالة فيتش أيضاً، التي أشارت إلى أن البنوك لديها تعرض كبير للديون الحكومية، بسبب حيازتها جزءاً كبيراً من سندات الدين السيادية، ما يُمثل نحو 25-42 في المئة من حجم أصولها. إذ قدرت نسبة حيازة البنك الأهلي المصري من أدوات الديون الحكومية بقيمة 42 في المئة من إجمالي أصوله في نهاية 2022. بينما بلغت نسبة الديون الحكومية نحو 25 في المئة من حجم أصول “البنك التجاري الدولي” الذي يُعد أكبر بنك في مصر. 

ومن جانبه، يرى المحلل الاقتصادي هيثم الجندي، أن انكشاف البنوك على الدين السيادي مرتفع جداً في مصر، بالإضافة إلى أن التزام البنوك بتمويل الدين الحكومي يأتي على حساب توفير ائتمان للشركات والأفراد، وهو ما ينعكس سلباً على النمو الاقتصادي.

وقد حققت البنوك أرباحاً مالية هائلة خلال العامين الماضيين بدعم من إقراض الحكومة والفائدة المرتفعة التي تحصل عليها منها. فقد ارتفع صافي أرباح البنوك بالقطاع المصرفي المصري بنسبة 127.6 في المئة في نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي. وبلغ صافي العائد نحو 411 مليار جنيه مقابل 225 ملياراً بنهاية الفترة نفسها من العام الماضي.

وعلى رغم هذه الأرباح الكبيرة، لكن يبدو أن القطاع المصرفي كمن يرقص على حافة الهاوية، إذ إن الحكومة المصرية تمول نحو نصف الموازنة العامة من خلال الاستدانة، والبنوك المحلية هي أكبر مُقرض لها بالعملة المحلية، وحتى بعدما وصلت مؤشرات الديون المصرية إلى منحنى خطير في ظل التوقعات المتشائمة بإمكان تخلف السلطات المصرية على سداد الديون، ومع تخفيض نظرة المؤسسات المالية الكبرى لأدوات الدين الحكومية التي تمولها البنوك،  وحتى إن امتنعت في بعض الأحيان، ولكن ما نلاحظه أن البنوك المحلية مضطرة للاستمرار في إقراض الحكومة، لأن تعثر الأخيرة يعني أن البنوك نفسها ستكون أكبر المتضررين نتيجة أن معظم أصولها المالية وُضعت في أدوات الدين الحكومية. وهو ما يجعل كل تخفيض في تقييم الاقتصاد يتبعه بالضرورة تخفيض للبنوك المصرية.

الحكومة تموّل عجزها من أصول البنوك

يكشف تقرير البنك المركزي الخاص بالوضع الخارجي للاقتصاد المصري الصادر في نهاية العام الماضي، أن البنوك التجارية العاملة في مصر أصبحت هي الأخرى مدينة للخارج، وتبلغ قيمة تلك المديونية 21 مليار دولار، ما يُعادل 12.8 في المئة من إجمالي الديون الخارجية. كما يتجاوز حجم التزاماتها للخارج حجم أصولها، إذ تقدّر قيمة العجز في صافي الأصول الأجنبية لدى الجهاز المصرفي بسالب 27 مليار دولار. ويقيس المؤشر ما لدى البنوك من دولار. وبحسب الباحثة الاقتصادية سمر عادل، فإن العجز في صافي الأصول الأجنبية يحدث عندما تكون الالتزامات المطلوبة أعلى من العملات الأجنبية الموجودة لدى البنوك، وهو مؤشر سلبي نتيجة أزمة نقص العملة. 

ويفسر صندوق النقد الدولي هذا العجز، بأن الحكومة المصرية تمول عجز ميزان المعاملات الجارية لديها من خلال السحب من صافي الأصول الأجنبية للبنوك. ما يعني أن أزمة نقص العملة ليست مشكلة الحكومة فقط، ولكنها أيضاً مشكلة القطاع المصرفي المصري الذي أصبح يُعاني من عجز مزمن. ما يؤثر على قدرة الاقتصاد في مواجهة التحديات ويجعله بلا أي داعم يدافع به عن نفسه أمام الضغوطات المستقبلية ولا يمتلك أي هامش من المناورة أمام أي تقلبات.

القطاع المصرفي إلى أين؟

يمتاز القطاع المصرفي والمالي داخل مصر بكونه أكثر القطاعات الاقتصادية ربحية في السوق، إذ تحقق البنوك أرباحاً ضخمة، ما يجعل القطاع جاذباً لرؤوس الأموال الأجنبية الراغبة في الاستحواذ على أصول في قطاعات استراتيجية، وتمتلك البنوك المحلية داخل مصر استثمارات ضخمة في الأسواق المصرية وحصصاً متنوعة في الكثير من القطاعات الحيوية. 

وبطبيعة الحال، فإنها تلعب دوراً في تيسير عمليات الإقراض والإيداع والتحويل المالي للشركات الأجنبية العاملة في مصر، بالإضافة إلى الدور الفعال الذي تلعبه البنوك عادة في تيسير عمليات الاستثمار والاستحواذ داخل السوق. لذا، فإن أي ضرر قد يتعرض له القطاع المصرفي نتيجة المخاطر الحالية، قد يتسبب في الإضرار بالاقتصاد المصري ككل. 

وعن تأثير الأزمة على ثقة الأفراد العاديين في القطاع المصرفي، ترى سمر عادل أن التذبذب في أداء البنوك قد يدفع الأفراد إلى البحث عن ملاذ آخر للحفاظ على قيمة أموالهم، وهو ما حدث خلال الفترة الماضية، إذ اتجه قطاع كبير من المصريين إلى شراء الذهب بدلاً من إيداع الأموال في البنوك، وهو مؤشر سلبي، ومن الناحية الاقتصادية فإن وضع هذه الأموال داخل الجهاز المصرفي يضمن استمرار دورة النمو والإنتاج، من خلال قيام البنوك باستغلالها في إقراض الأفراد والشركات وضخ استثمارات في الشركات والقطاعات الإنتاجية المختلفة. 

وعلى رغم المخاطر التي رصدتها لنا، لا تتوقع الباحثة الاقتصادية أن ينهار القطاع المصرفي في مصر مثلما حدث في لبنان بسبب اختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية. ويتفق معها المحلل الاقتصادي هيثم الجندي، إذ يقول: “البنوك لا تزال تتمتع بسيولة وفيرة، وهو ما يؤكد أن القطاع المصرفي متماسك رغم التحديات المقلقة”.