fbpx

عن وجوه نسوة شهدت تجاعيدهنّ قهر الاحتلال

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تتشابه المجازر والذرائع وأوجه الاحتلال، يتشابه الضحايا وملامح اللاعدالة التي شقت طريقها في تجاعيد وجوههم، وتتشابه النتائج أيضاً: يستمر أصحاب الحقّ في نضالهم وينتهي الاحتلال ويتقهقر، لتعود الأرض إلى أصحابها حتى إذا حوّلهم القمع إلى أشلاء، ينهضون من تحت الأنقاض ويجمعون أشلاءهم سائرين على طريق الحرية. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ أكثر من عام، انتشر فيديو لسيدة فلسطينية تكبر دولة إسرائيل بقليل، تشدو ترنيمة فلسطينية قديمة “شدوا بعضكم يا أهل فلسطين“، وبعد “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، عاد الفيديو للانتشار، ليشدو مع السيدة العشرات حول العالم. انطبعت أنشودتها بقوة في أعماق قلبي وأنا أتصفح صور وفيديوات أهالي غزة مقطّعة أوصالهم بقصف إسرائيلي مستمر متعطش الى الانتقام. 

“أم العبد”… السيدة حليمة الكسواني (ولدت 1938)، تعيش في مخيم الزرقاء للاجئين الفلسطينيين شرق عمّان، بعد تهجير العصابات الصهيونية الفلسطينيين من قراهم وبلداتهم، والاستيلاء عليها، وقتل المقاومين من الرجال، وطرد النساء والأطفال والمسنين خارج فلسطين، ونقصد هنا نكبة 48. 

أكثر ما أثّر فيّ هو “أم العبد” نفسها. ملامحها التي ارتسم عليها تاريخ طويل من التهجير، تشابهت عليّ بصورة مدهشة. أهي أم ثائر أم أم العبد؟!!

“أم ثائر”… السيدة كميلة محمود (ولدت 1934) تشبه أم العبد كثيراً، وضعت صورتهما متجاورتين، اندهشت، فهل القمع والغربة يجعلان الناس تتشابه هكذا!.

“أم ثائر” سيدة عراقية مهاجرة منذ أكثر من 30 عاماً من العراق، عاشت كل التقلبات السياسية في بلدها من ثورات وانقلابات حتى حكم صدام حسين الديكتاتوري الذي “طحن” عائلتها. زوجة سياسي معارض تنقّل في سجون النظام أكثر من التنقّل بين غرف منزله الذي تغير مرات عدة نجاةً بالعائلة من سحقِ محقق، لينتهي الأمر باغتيال الزوج.

 بعد عام واحد، تفقد الأم ابنها بطريقة أبشع: تشهد إعدامه والتمثيل بجثمانه، لأنه كأبيه وأخوته معارضون للنظام، هو أصلاً كان فر مع أخيه إلى أوروبا بعد اغتيال أبيهم، لكنه لم يتحمل الابتعاد عن الوطن، فعاد ليعتقله نظام صدام حسين القمعي مباشرةً ويلقى حتفه شنقاً. عانت أم ثائر آلام الفقد: زوجها، ابنها، وابن آخر تائه في أوروبا ومهدد بالإعدام هو الآخر في حال عودته، ثائر، زوجي.

كم تتشابه السيدتين في كل شيء. في الاسم، حليمة وكميلة، وفي تلك المآسي التي تركت آثارها منحوتة على وجهيهما. كلتاهما ترى بعين واحدة. “أم ثائر” فقدت عيناً حزناً بعد مصابها في الابن، ولا أعرف ما الذي شهدته “أم العبد” لتذهب عينها ولا تتحمل هي الأخرى؛ فهي نازحة من قرية “بيت أكاسا” التي تبعد 9 كيلومترات فقط من القدس، ولكن تشهد عزلة كبيرة على يد إسرائيل حتى يومنا هذا، ولا أريد أن أتخيل ماذا رأت ابنة العشرة أعوام وهي تنزح من قريتها هرباً من مجازر وأهوال ما زلنا نؤرخ لها حتى الآن. 

أكثر ما أثّر فيّ هو “أم العبد” نفسها. ملامحها التي ارتسم عليها تاريخ طويل من التهجير، تشابهت عليّ بصورة مدهشة. أهي أم ثائر أم أم العبد؟!!

هذا الجيل من النساء خطر، فبينما كان الرجال في أرض المعركة ضد الظلم فاقدين أرواحهم كحصن أول، كن شاهدات على خيبات بلادهم وفقدانهن لها قسراً وهرباً إلى عوالم مجهولة، شاهدات بدقة على مجازر وتفاصيل اغتيال العدل. هن خطر لأنهن شاهدات على هذا العصر بكل مزابله التاريخية، حتى إذا فقدن أبصارهن كلياً، سيبقين حارسات للحقيقة يورّثنها بحكايات الجدة لأولادهن وأحفادهن. 

ربما تشابهت عليّ السيدتين لتشابه ما يفعله الآن الجيش الإسرائيلي في غزة وما حدث في الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مع فارق الأهوال. الاحتلال أيضاً يتشابه، وله ملامح واحدة منذ بداية التاريخ. 

يشحن الاحتلال آلة إعلامية دولية داعمة له ترى بعين واحدة فقط، حتى ولو خرجت شعوب الأرض رافضةً هذا الاحتلال. يذكر أنه في روما وحدها، تجمع 3 ملايين شخص في ساحتها الرئيسية احتجاجاً على غزو العراق، في أكبر تجمع مناهض للحرب على الإطلاق، بحسب كتاب الأرقام القياسية. وعلى رغم ذلك، استمرت أميركا في قيادة إيقاع إعلامي عالمي يحرّض على أحقيتها في غزو العراق واحتلاله… وقد فعلت!

التكتيك العسكري والسياسي يتشابه، القصف الجوي هو الدرع الواقي دائماً لجيوش محتلّة تتفادى المواجهة على الأرض كما في العراق وباكستان وغيرهما وأخيراً في غزة. تزحف القوات المحتلة على أرض محروقة لم يبق فيها إلا من يقاوم ولو ببقائه حياً.

 تنتهي الحال بمحاولات احتلال سياسي بقوة السلاح، الولايات المتحدة حاولت فرض حكومات مؤقتة متتالية للعراق موالية لها، رغم فشلها الكبير في السيطرة التامة عليها، وهذا ما تحاول إسرائيل مناقشته الآن ضمن سيناريوات مطروحة لـ “ماذا بعد حماس؟ وشكل السلطة في غزة بعد انتهاء الحرب؟”، وكأن الشعوب المسكينة ليس لها رأي وغير مرئية إلا فقط للطائرات أثناء القصف. 

حجج قتل المدنيين وتخريب البيئة أيضاً تتشابه: في العراق وثقت منظمات دولية ادعاءات أميركية بقصف أماكن مأهولة بالذخائر العنقودية بذريعة وجود قادة عسكريين موالين لنظام صدام حسين، ما أسفر عن سقوط أبرياء لا ذنب لهم في هذا الصراع الدموي، من دون قتل أو أسر قائد صدامي واحد. 

تخريب البيئة الصحراوية في المناطق الجنوبية والوسطى بالعراق، وحالات السرطان المنتشرة بين العراقيين بسبب الأسلحة شديدة السمّية، وصمة عار ستظل تلاحق الجيش الأميركي حتى آخر التاريخ. 

إسرائيل تحاول دائماً أن تتفوق في التخريب مستخدمةً الحجة نفسها، فقد أقنعت العالم بأن قصف وحصار واعتقال الطواقم الطبية وتجريف المستشفيات المتخمة بالمدنيين بين مصاب ونازح، إجراء ضروري وعاجل، لأنها تشك في أن المستشفيات قد تأوي قادة “حماس”، أيضاً من دون قتل أو أسر واحد منهم على الأقل!

تتشابه المجازر والذرائع وأوجه الاحتلال، يتشابه الضحايا وملامح اللاعدالة التي شقت طريقها في تجاعيد وجوههم، وتتشابه النتائج أيضاً: يستمر أصحاب الحقّ في نضالهم وينتهي الاحتلال ويتقهقر، لتعود الأرض إلى أصحابها حتى إذا حوّلهم القمع إلى أشلاء، ينهضون من تحت الأنقاض ويجمعون أشلاءهم سائرين على طريق الحرية.