fbpx

أصوات من غزة… 3 أيام عشوائيّة من الحرب والحصار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بعد العدوان، بدا كل شيء مختلفاً، فقد تحوّل الوضع من وجهة نظري ونظر الناس، من سيئ إلى أسوأ، تحوّل الجميع كما قالت أمي كأسنان المشط فعلاً، لا فرق بين من لديه مال ومن لا يملك المال، لأن قيمة المال اختلفت ولأن المراد واحد وهو النجاة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أنا عصام هاني حجاج من فلسطين، وُلدت في حي الشجاعيّة في غزة، عمري 27 سنة، درست الأدب الإنكليزي، وأكتب الشعر منذ عام 2014. عملت كمدرب كتابة إبداعية للأطفال في قطاع غزة، وأعمل كمنسق منذ 2020 على مشروع “المجاورة” مع التربوي منير فاشه. والمشروع وسيط تعليمي بديل للجامعات والمدارس التي تحاول بثّ السموم عبر المناهج البلاستيكية في فلسطين وخارجها.  عشت 6 حروب داخل قطاع غزة، قُتل الكثير من الأصدقاء والأقارب على يد الجيش الإسرائيلي، لأننا ندافع عن حقنا في الحياة الذي سلبه الاحتلال.

أكتب لتسليط الضوء على القضية الفلسطينية وعلى الجرائم والمجازر التي يرتكبها الاحتلال منذ 75 عاماً، وأننا نُسلب أبسط حقوقنا في الحياة والأمان، وأني لا أستطيع السفر والحديث عن قضيتي العادلة إلا عن طريق كلماتي. أكتب لكي يعرف العالم قصتنا الحقيقية، وأن الاحتلال يشوّه صورتنا، وأن لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا.

اليوم 53 من الحرب على غزة

الثلاثاء 2023/11/28 

ملائكة الفرن

عاد كثرٌ من سكان خانيوس الذين لجأوا الى مستشفى “الأوروبي”، إلى بيوتهم خلال الهدنة، وبقي أهل الشمال فقط في الخيام. أيام قليلة مرّت من دون سماع أصوات انفجارات، إلا أن عدم السماح لنا بالعودة إلى بيوتنا قلّل من شعورنا بالحياة. عادت الحياة بشكل نسبي إلى وجوه الناس، البعض ذهب لحلاقة شعره رغم توافر الحلاقين في ساحة المستشفى طوال الوقت، إلا أن الشعور بالهدوء ينعكس على أفعال الإنسان. البعض الآخر جاء لزيارة أقاربه، اليوم اجتمعت خالاتي في المستشفى في مكان واحد ما عدا نادية التي بقيت في الشجاعية حتى اللحظة. وجود الأهل في مكان واحد يمنحك شعوراً بالألفة ويزيح عنك الإحساس بالغربة.

أكسبني هذا العدوان اسماً طفولياً جديداً، عبود ابن سيدي من زوجته الثانية، أو في رواية أخرى خالي عبود الطفل المصاب بمتلازمة داون. عبود طفل شقي جداً يحب الأكل كثيراً، يأكل من دون شعور بالشبع. في مرات كثيرة، يسرق ما في يدك ويمشي سريعاً إلى زاوية الصف ليأكلها على انفراد، لكنه لا يسرق مني شيئاً، يقف أمامي ثم ينادي باسمي ويقول اعطيني.

عبود أعطاني اسماً جديداً بالنسبة إليّ، لكنه قديم بالنسبة إليه. أحد أقاربنا اسمه أبو عصام، كان يبيع ماء للشرب في شاحنة كبيرة، وكان يأتي إلى بيت سيدي ليزودهم بالماء، وكان عبود يناديه باسم “عصام ميا حلوة”. عندما أجتمع أنا وعبود بسبب العدوان في صف واحد، يناديني “عصام ميا حلوة”، لم يدرك عبود أن هناك “عصام” في شمال غزة لم يخرج من بيته، و”عصام” آخر خرج من بيته لأنه تعرّض للقصف، ربما لعدم إدراكه نعمة من الله لا يعيشها إلا عبود.

 بدأت بتعليمه كيف يساعد والده في تحريك كرسيه المتحرك ونقله من مكان الى آخر، بدأ بالاستجابة لي. وأكثر ما هو لافت فيه هو ليونته العالية، يستطيع فتح قدميه بشكل سبعة، وهو جالس على الأرض، ويقوم بثني قدمه خلف رقبته، لكنه لا يسكت أبداً، ننام على صوته ونستيقظ على صوته وهو ينادي بأسماء جميع الموجودين.

القليل من الناس يفضلون إنهاء عمالهم هذه الأيام في الليل، حيث يكون ضغط الناس أقل خصوصاً في الهدنة. ذهبت مع خالتي إلى فرن الطينة وبدأنا بالخبيز، وبعد قليل أمسك ابن خالتي معدناً حديدياً وبدأ بطرقه على معدن حديد آخر مزروع في الأرض، صاحت عليه خالتي قائلة: “لا تطرق هكذا لأن فرن الطينة له ملائكة”.

 تذكرت حينها جدتي في الشجاعية عندما كانت في شبابها، عندما كنّا نخبز على الفرن وكانت تقول لنا الجملة نفسها: لا تطرق بشيء وأنت قريب من الفرن، لكنها المرة الأولى التي أسمع فيها عن ملائكة الفرن، وفي كل مرة كان سؤالي يواجَه بعدم الرد بشكل مناسب.

 لفرن الطينة مكانة خاصة في حياتنا حتى لو وجدنا البديل. في طريق عودتنا إلى المدرسة، وجدت صديقي الجديد يجلس على باب خيمته، صديقي طارق يعمل في مركز هولست الثقافي في قطاع الغزة، هذا المركز فيه مسرح كبير وطارق مسؤول عن الإضاءة، تحدثنا عن عالم المؤسسات والأعمال التي قمنا بها قبل العدوان والعمل مع الأطفال كميسر كتابة إبداعية. وجه طارق يمدّك بالأمل بأن هناك شيئاً قادماً لا تعرف ما هو لكنه جميل، قال لي: “سنعمل على شيء بعد العدوان، سنجتمع في هولست”، وكأنه واثق تماماً بأننا سنعود، قلت له: “بالطبع سنعمل كأنني واثق أننا سنعود”.


اليوم 53 من الحرب على غزة

الأربعاء 2023/12/13

إذا كانت الحياة رخيصة فلماذا تحتضن كل هذا الجمال، إذا كانت لا تريد أولادها وتراهم يُقطعون على أبواب الحدائق فلماذا تعطيهم من جمالها؟! ربما فقدت عقلها ووصل الهذيان الى آخر مطافه، الشريان ينبض لكنه مقطوع، يمشي كل من يُخدش كما يمشي ملاك الرحمة إلى حجرة أحدهم ليسدل الستارة على مشهده الأخير.

النار صارت عالية وأصبح المكان لا يتّسع لكل هذا الحب، الذي لا يمكن أن يتخيله عقل. السماء بين الحب والنار تُعطي فسحة، على من يحمل الطفل أن يحمله جيداً كي لا تتناثر الذكريات من رأسه المجروح، على من يقاوم أن يتذكر نفسه.

الأم ترضع الأطفال من حليبها كما الأم التي كانت تضع الحصى في القدر، لكن قدر أمي رغم هذا الموت كان ممتلئاً، أكلة “المقلوبة” التي تعبر عن هويتنا الفلسطينية وعن المقاومة، كانت مثل الفسحة.

ربما يجلس شخص في مكان بعيد على كرسيه وسيجارته مشتعلة ويحرق معها كلماته، ليقول كيف لأكلة أن تعبر عن المقاومة! لن تعرف هذا الشعور إلا عندما يحاول أحدهم سرقة تاريخك ونسبه الى نفسه، عندها ستعرف في كل مرة تطبخ فيها أكلتك أنك تُحيي شيئاً فيك لم يقدروا على قتله.

لقد كانت فسحة غائبة عن أرواحنا منذ أكثر من 50 يوماً، شعرنا أننا عدنا إلى أنفسنا، إلى غرفة الجلوس ويوم الجمعة وانتظار الجميع على مائدة واحدة بعد الصلاة، والبيت، وشجار يوم الجمعة المعتاد، لا يخلو بيت من شجار يوم الجمعة، ويكون عنوان السهرة، ما سبب الشجار!

أشتاق إلى البلكونة وحديقة جارنا الأصلع وسهرات الأصدقاء، أشتاق إلى البحر في الفجر وفي الليل، إلى الهدوء المزعج داخل البلكونة وكل الأشياء التي تركتها خلفي، إلى فنجان القهوة الذي أهدتني إياه صديقتي رغم عدم شربي القهوة، لكن الفنجان كانت مكتوبة عليه عبارة أم كلثوم “ياما عيون شغلوني”، أريد أن تشغلني هذه العيون عن الرماد.

A pot of rice on a fire Description automatically generated
A sunset over a city Description automatically generated
A bowl of rice with meat and vegetables Description automatically generated

اليوم 53 من الحرب على غزة

الأحد 2023/12/31

ما قبل العدوان كانت حياتي مملّة جداً، كنت أمضي وقتاً طويلاً في البحث عن عمل دائم، على شاشة اللابتوب، وفي تعلم تقنيات تفيدني لكتابة المحتوى. لديّ القليل من الأصدقاء، لأن حظي عاثر في إيجاد أصدقاء. البلكونة شهدت معي كل حالاتي، حالة الاكتئاب التي مررت بها عند كل محاولة للسفر باءت بالفشل، والحفاظ على نفسي مما تفعله الحياة في البشر فيصبحون أسوأ نسخة كي يصلوا إلى مرادهم. 

الحياة كانت تمشي في عيني ببطء شديد، كان صديقي منير فاشه يخفف عني حدّة الأيام ويعطيني أملاً للعيش والعمل. كان هدفنا وما زال أن نروي قصتنا الفلسطينية كما نراها كاملة من دون نقصان وشوائب، لأن الاحتلال يشوه صورة الفلسطيني أمام العالم كما أنه يتحكم بالإعلام. في أحد الأيام، كشفت لمنير أنني أريد دخول كل بلد على الخارطة وأقول للعالم إننا هنا نحمل الأمل ونزرع العافية في قلوب من حولنا، إننا لا نحاول قتل أحد، إننا لم نبع أراضينا بل سُرقت من أجدادنا، إننا لا نريد شيئاً سوى أن يرحل الاحتلال، وأن يتوقف عن قتلنا.

كانت الأشهر ما قبل العدوان أشهر حزن على قلبي لأنها كانت مليئة بالمحاولات الفاشلة، لكن صوتاً ما لم يغادر قلبي ينبئني بأن هذا الوقت لم يكن وقتي. وفي مرة من المرات حاولت نشر نص من نصوصي الشعرية عبر صحيفة فلسطينية، فجاءني الرفض لأكتشف أن صديقتي سرقته ونشرته عبر الصحيفة ذاتها، حاولت في الكثير من الأماكن لكن كما قلت، الوقت لم يكن وقتي.

اليوم العادي، الحمام الخاص بي، النوم على سرير، النوم على وسادة، الطعام كما نحب، وملل السهرات والتهكم على صغر مساحة غزة وعدم وجود مساحات خضراء، والرضا، الرضا بكل ما قسمه الله لك.

بعد العدوان، بدا كل شيء مختلفاً، فقد تحوّل الوضع من وجهة نظري ونظر الناس، من سيئ إلى أسوأ، تحوّل الجميع كما قالت أمي كأسنان المشط فعلاً، لا فرق بين من لديه مال ومن لا يملك المال، لأن قيمة المال اختلفت ولأن المراد واحد وهو النجاة. لم أتخيل أن يومي سيكون في أيام العدوان، أن الجميع سيسمع صوتي خلال هذه الأحداث الغريبة، أني سأقول إننا نحب الأمل ونزرع الحياة في نفوسنا ولا نحب القتل، وإن الاحتلال يحاربنا عسكرياً ومعرفياً، وإن المعرفة تكمن في قصتك وكيف ترويها، وهي سبب في تخليد اسمك في أماكن ربما لن يصل جسدك إليها.

لقد كانت الصدمة أقلّ وطأة عليّ من غيري لأني كنت أنتظر فرصتي برضا من الله كي تدوم، الآن يسمعني الكثير ويقرأ الكثير ما أكتب، وهذا كان أهم هدف لي، لكني ظننت أن الوضع الذي كنت فيه قبل العدوان هو الأسوأ على الإطلاق، أما اليوم فلا يمكن مقارنة سوئه بما يحدث لنا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

الأمراض والفيروسات تنتشر في المستشفيات بسبب الأكل غير الصحي، في ظل نقص في العلاج. ما يحدث كارثة، الغرفة التي كنت أظنّها ضيقة أصبحت واسعة وسع السماء، فسكان غزة اليوم النازحون الى جنوب القطاع محشورون في زاوية، والقمامة تنتشر في كل مكان كأنك في حاوية كبيرة.

قد تكون تملك كل شيء في حياتك، وفي يوم، قد تستيقظ لتجد أنك لا تملك شيئاً. إذا كانت الحياة كبيرة في عينك فلن تستطيع عيش المحنة، أما إذا كانت صغيرة فلن تتأثر إذا فقدت كل شيء وكسبت نفسك. توقع في كل وقت أن يضيع منك كل شيء.

A person standing next to a pile of garbage Description automatically generatedA group of people outside a building Description automatically generated



15.01.2024
زمن القراءة: 7 minutes

بعد العدوان، بدا كل شيء مختلفاً، فقد تحوّل الوضع من وجهة نظري ونظر الناس، من سيئ إلى أسوأ، تحوّل الجميع كما قالت أمي كأسنان المشط فعلاً، لا فرق بين من لديه مال ومن لا يملك المال، لأن قيمة المال اختلفت ولأن المراد واحد وهو النجاة.

أنا عصام هاني حجاج من فلسطين، وُلدت في حي الشجاعيّة في غزة، عمري 27 سنة، درست الأدب الإنكليزي، وأكتب الشعر منذ عام 2014. عملت كمدرب كتابة إبداعية للأطفال في قطاع غزة، وأعمل كمنسق منذ 2020 على مشروع “المجاورة” مع التربوي منير فاشه. والمشروع وسيط تعليمي بديل للجامعات والمدارس التي تحاول بثّ السموم عبر المناهج البلاستيكية في فلسطين وخارجها.  عشت 6 حروب داخل قطاع غزة، قُتل الكثير من الأصدقاء والأقارب على يد الجيش الإسرائيلي، لأننا ندافع عن حقنا في الحياة الذي سلبه الاحتلال.

أكتب لتسليط الضوء على القضية الفلسطينية وعلى الجرائم والمجازر التي يرتكبها الاحتلال منذ 75 عاماً، وأننا نُسلب أبسط حقوقنا في الحياة والأمان، وأني لا أستطيع السفر والحديث عن قضيتي العادلة إلا عن طريق كلماتي. أكتب لكي يعرف العالم قصتنا الحقيقية، وأن الاحتلال يشوّه صورتنا، وأن لنا الحق في الدفاع عن أنفسنا.

اليوم 53 من الحرب على غزة

الثلاثاء 2023/11/28 

ملائكة الفرن

عاد كثرٌ من سكان خانيوس الذين لجأوا الى مستشفى “الأوروبي”، إلى بيوتهم خلال الهدنة، وبقي أهل الشمال فقط في الخيام. أيام قليلة مرّت من دون سماع أصوات انفجارات، إلا أن عدم السماح لنا بالعودة إلى بيوتنا قلّل من شعورنا بالحياة. عادت الحياة بشكل نسبي إلى وجوه الناس، البعض ذهب لحلاقة شعره رغم توافر الحلاقين في ساحة المستشفى طوال الوقت، إلا أن الشعور بالهدوء ينعكس على أفعال الإنسان. البعض الآخر جاء لزيارة أقاربه، اليوم اجتمعت خالاتي في المستشفى في مكان واحد ما عدا نادية التي بقيت في الشجاعية حتى اللحظة. وجود الأهل في مكان واحد يمنحك شعوراً بالألفة ويزيح عنك الإحساس بالغربة.

أكسبني هذا العدوان اسماً طفولياً جديداً، عبود ابن سيدي من زوجته الثانية، أو في رواية أخرى خالي عبود الطفل المصاب بمتلازمة داون. عبود طفل شقي جداً يحب الأكل كثيراً، يأكل من دون شعور بالشبع. في مرات كثيرة، يسرق ما في يدك ويمشي سريعاً إلى زاوية الصف ليأكلها على انفراد، لكنه لا يسرق مني شيئاً، يقف أمامي ثم ينادي باسمي ويقول اعطيني.

عبود أعطاني اسماً جديداً بالنسبة إليّ، لكنه قديم بالنسبة إليه. أحد أقاربنا اسمه أبو عصام، كان يبيع ماء للشرب في شاحنة كبيرة، وكان يأتي إلى بيت سيدي ليزودهم بالماء، وكان عبود يناديه باسم “عصام ميا حلوة”. عندما أجتمع أنا وعبود بسبب العدوان في صف واحد، يناديني “عصام ميا حلوة”، لم يدرك عبود أن هناك “عصام” في شمال غزة لم يخرج من بيته، و”عصام” آخر خرج من بيته لأنه تعرّض للقصف، ربما لعدم إدراكه نعمة من الله لا يعيشها إلا عبود.

 بدأت بتعليمه كيف يساعد والده في تحريك كرسيه المتحرك ونقله من مكان الى آخر، بدأ بالاستجابة لي. وأكثر ما هو لافت فيه هو ليونته العالية، يستطيع فتح قدميه بشكل سبعة، وهو جالس على الأرض، ويقوم بثني قدمه خلف رقبته، لكنه لا يسكت أبداً، ننام على صوته ونستيقظ على صوته وهو ينادي بأسماء جميع الموجودين.

القليل من الناس يفضلون إنهاء عمالهم هذه الأيام في الليل، حيث يكون ضغط الناس أقل خصوصاً في الهدنة. ذهبت مع خالتي إلى فرن الطينة وبدأنا بالخبيز، وبعد قليل أمسك ابن خالتي معدناً حديدياً وبدأ بطرقه على معدن حديد آخر مزروع في الأرض، صاحت عليه خالتي قائلة: “لا تطرق هكذا لأن فرن الطينة له ملائكة”.

 تذكرت حينها جدتي في الشجاعية عندما كانت في شبابها، عندما كنّا نخبز على الفرن وكانت تقول لنا الجملة نفسها: لا تطرق بشيء وأنت قريب من الفرن، لكنها المرة الأولى التي أسمع فيها عن ملائكة الفرن، وفي كل مرة كان سؤالي يواجَه بعدم الرد بشكل مناسب.

 لفرن الطينة مكانة خاصة في حياتنا حتى لو وجدنا البديل. في طريق عودتنا إلى المدرسة، وجدت صديقي الجديد يجلس على باب خيمته، صديقي طارق يعمل في مركز هولست الثقافي في قطاع الغزة، هذا المركز فيه مسرح كبير وطارق مسؤول عن الإضاءة، تحدثنا عن عالم المؤسسات والأعمال التي قمنا بها قبل العدوان والعمل مع الأطفال كميسر كتابة إبداعية. وجه طارق يمدّك بالأمل بأن هناك شيئاً قادماً لا تعرف ما هو لكنه جميل، قال لي: “سنعمل على شيء بعد العدوان، سنجتمع في هولست”، وكأنه واثق تماماً بأننا سنعود، قلت له: “بالطبع سنعمل كأنني واثق أننا سنعود”.


اليوم 53 من الحرب على غزة

الأربعاء 2023/12/13

إذا كانت الحياة رخيصة فلماذا تحتضن كل هذا الجمال، إذا كانت لا تريد أولادها وتراهم يُقطعون على أبواب الحدائق فلماذا تعطيهم من جمالها؟! ربما فقدت عقلها ووصل الهذيان الى آخر مطافه، الشريان ينبض لكنه مقطوع، يمشي كل من يُخدش كما يمشي ملاك الرحمة إلى حجرة أحدهم ليسدل الستارة على مشهده الأخير.

النار صارت عالية وأصبح المكان لا يتّسع لكل هذا الحب، الذي لا يمكن أن يتخيله عقل. السماء بين الحب والنار تُعطي فسحة، على من يحمل الطفل أن يحمله جيداً كي لا تتناثر الذكريات من رأسه المجروح، على من يقاوم أن يتذكر نفسه.

الأم ترضع الأطفال من حليبها كما الأم التي كانت تضع الحصى في القدر، لكن قدر أمي رغم هذا الموت كان ممتلئاً، أكلة “المقلوبة” التي تعبر عن هويتنا الفلسطينية وعن المقاومة، كانت مثل الفسحة.

ربما يجلس شخص في مكان بعيد على كرسيه وسيجارته مشتعلة ويحرق معها كلماته، ليقول كيف لأكلة أن تعبر عن المقاومة! لن تعرف هذا الشعور إلا عندما يحاول أحدهم سرقة تاريخك ونسبه الى نفسه، عندها ستعرف في كل مرة تطبخ فيها أكلتك أنك تُحيي شيئاً فيك لم يقدروا على قتله.

لقد كانت فسحة غائبة عن أرواحنا منذ أكثر من 50 يوماً، شعرنا أننا عدنا إلى أنفسنا، إلى غرفة الجلوس ويوم الجمعة وانتظار الجميع على مائدة واحدة بعد الصلاة، والبيت، وشجار يوم الجمعة المعتاد، لا يخلو بيت من شجار يوم الجمعة، ويكون عنوان السهرة، ما سبب الشجار!

أشتاق إلى البلكونة وحديقة جارنا الأصلع وسهرات الأصدقاء، أشتاق إلى البحر في الفجر وفي الليل، إلى الهدوء المزعج داخل البلكونة وكل الأشياء التي تركتها خلفي، إلى فنجان القهوة الذي أهدتني إياه صديقتي رغم عدم شربي القهوة، لكن الفنجان كانت مكتوبة عليه عبارة أم كلثوم “ياما عيون شغلوني”، أريد أن تشغلني هذه العيون عن الرماد.

A pot of rice on a fire Description automatically generated
A sunset over a city Description automatically generated
A bowl of rice with meat and vegetables Description automatically generated

اليوم 53 من الحرب على غزة

الأحد 2023/12/31

ما قبل العدوان كانت حياتي مملّة جداً، كنت أمضي وقتاً طويلاً في البحث عن عمل دائم، على شاشة اللابتوب، وفي تعلم تقنيات تفيدني لكتابة المحتوى. لديّ القليل من الأصدقاء، لأن حظي عاثر في إيجاد أصدقاء. البلكونة شهدت معي كل حالاتي، حالة الاكتئاب التي مررت بها عند كل محاولة للسفر باءت بالفشل، والحفاظ على نفسي مما تفعله الحياة في البشر فيصبحون أسوأ نسخة كي يصلوا إلى مرادهم. 

الحياة كانت تمشي في عيني ببطء شديد، كان صديقي منير فاشه يخفف عني حدّة الأيام ويعطيني أملاً للعيش والعمل. كان هدفنا وما زال أن نروي قصتنا الفلسطينية كما نراها كاملة من دون نقصان وشوائب، لأن الاحتلال يشوه صورة الفلسطيني أمام العالم كما أنه يتحكم بالإعلام. في أحد الأيام، كشفت لمنير أنني أريد دخول كل بلد على الخارطة وأقول للعالم إننا هنا نحمل الأمل ونزرع العافية في قلوب من حولنا، إننا لا نحاول قتل أحد، إننا لم نبع أراضينا بل سُرقت من أجدادنا، إننا لا نريد شيئاً سوى أن يرحل الاحتلال، وأن يتوقف عن قتلنا.

كانت الأشهر ما قبل العدوان أشهر حزن على قلبي لأنها كانت مليئة بالمحاولات الفاشلة، لكن صوتاً ما لم يغادر قلبي ينبئني بأن هذا الوقت لم يكن وقتي. وفي مرة من المرات حاولت نشر نص من نصوصي الشعرية عبر صحيفة فلسطينية، فجاءني الرفض لأكتشف أن صديقتي سرقته ونشرته عبر الصحيفة ذاتها، حاولت في الكثير من الأماكن لكن كما قلت، الوقت لم يكن وقتي.

اليوم العادي، الحمام الخاص بي، النوم على سرير، النوم على وسادة، الطعام كما نحب، وملل السهرات والتهكم على صغر مساحة غزة وعدم وجود مساحات خضراء، والرضا، الرضا بكل ما قسمه الله لك.

بعد العدوان، بدا كل شيء مختلفاً، فقد تحوّل الوضع من وجهة نظري ونظر الناس، من سيئ إلى أسوأ، تحوّل الجميع كما قالت أمي كأسنان المشط فعلاً، لا فرق بين من لديه مال ومن لا يملك المال، لأن قيمة المال اختلفت ولأن المراد واحد وهو النجاة. لم أتخيل أن يومي سيكون في أيام العدوان، أن الجميع سيسمع صوتي خلال هذه الأحداث الغريبة، أني سأقول إننا نحب الأمل ونزرع الحياة في نفوسنا ولا نحب القتل، وإن الاحتلال يحاربنا عسكرياً ومعرفياً، وإن المعرفة تكمن في قصتك وكيف ترويها، وهي سبب في تخليد اسمك في أماكن ربما لن يصل جسدك إليها.

لقد كانت الصدمة أقلّ وطأة عليّ من غيري لأني كنت أنتظر فرصتي برضا من الله كي تدوم، الآن يسمعني الكثير ويقرأ الكثير ما أكتب، وهذا كان أهم هدف لي، لكني ظننت أن الوضع الذي كنت فيه قبل العدوان هو الأسوأ على الإطلاق، أما اليوم فلا يمكن مقارنة سوئه بما يحدث لنا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

الأمراض والفيروسات تنتشر في المستشفيات بسبب الأكل غير الصحي، في ظل نقص في العلاج. ما يحدث كارثة، الغرفة التي كنت أظنّها ضيقة أصبحت واسعة وسع السماء، فسكان غزة اليوم النازحون الى جنوب القطاع محشورون في زاوية، والقمامة تنتشر في كل مكان كأنك في حاوية كبيرة.

قد تكون تملك كل شيء في حياتك، وفي يوم، قد تستيقظ لتجد أنك لا تملك شيئاً. إذا كانت الحياة كبيرة في عينك فلن تستطيع عيش المحنة، أما إذا كانت صغيرة فلن تتأثر إذا فقدت كل شيء وكسبت نفسك. توقع في كل وقت أن يضيع منك كل شيء.

A person standing next to a pile of garbage Description automatically generatedA group of people outside a building Description automatically generated



15.01.2024
زمن القراءة: 7 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية