fbpx

إيران وباكستان تستعيضان عن السيادة بالحرب على البلوش

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لماذا هاجم الحرس الثوري ثلاث دول في المنطقة في أقلّ من 24 ساعة؟ لعل وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين الوحيد الذي يملك الإجابة، حيث قال “الحرس الثوري الإيراني لا يريد أو لا يستطيع مهاجمة إسرائيل، لذلك بحث عن ضحايا من حوله”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فجر الثلاثاء الماضي شنّ تنظيم الحرس الثوري الإيراني، هجمات صاروخية باليستية على ثلاث دول في الإقليم، وادّعى التنظيم في سلسلة بيانات، أن الهجمات دمّرت مقراً للموساد الإسرائيلي في مدينة أربيل في إقليم كردستان العراقي، وتجمعاً لتنظيمات إرهابية متطرّفة في مدينة إدلب في شمال سوريا، ومواقع عسكرية لجماعة “جيش العدل” البلوشية الإيرانية المعارضة، قرب مدينة بنجغور في إقليم بلوشستان الباكستاني.  

وفيما وصفت طهران الهجمات بأنها محاسبة لمن تعرّضوا لأمنها القومي، والتزمت الحكومة السورية بالصمت، واعتبرت الخارجية العراقية الهجمات عدواناً على سيادة العراق، يستوجب “تقديم شكوى ضد إيران في مجلس الأمن الدولي”، ارتأت باكستان الردّ بالمثل في أقل من 48 ساعة، فنفّذت قواتها المسلّحة هجوماً صاروخياً على منطقة ساراوان في إقليم بلوشستان الإيراني، استهدف ملاذات تُؤوي انفصاليين بلوش باكستانيين ترعاهم طهران.

القصف الصاروخي المتبادل بين “البلدين الشقيقين”؛ كما يدّعيان في أدبياتهما الدبلوماسية، أعاد الحديث عن المسألة البلوشية إلى الواجهة؛ الأقلية العرقية والدينية ذات النزعة الانفصالية في كلا البلدين، كما عادت وطفت الاتّهامات المتبادلة بينهما، بأن كلاً منهما يربّي عدوّ الآخر في حضنه، فإيران تتّهم باكستان بحماية جماعة “جيش العدل” البلوشية المناهضة للنظام الإسلامي، وبدورها تتّهم باكستان جارتها بإيواء المتمرّدين البلوش الناشطين في إطار “جيش التحرير الشعبي البلوشي” و “جبهة تحرير بلوشستان”.

من هم البلوش؟

يعيش الشعب أو الشعوب البلوشية في ثلاث دول متجاورة، هي: باكستان وإيران وأفغانستان، ضمن منطقتين جغرافيتين تشكّلان أراضي بلوشستان التاريخية: شمالية جبلية ذات بنية قبلية بدوية، وجنوبية سهلية زراعية ذات بنية قبلية غير متينة. والمعروف أنهم شعب غير متجانس عرقياً، الأصل أنهم قبائل إيرانية ذات جذور آرية، وانضم إليهم مهاجرون من مجتمعات غير مسلمة من التجار الهندوس والسيخ، وتفرّع منهم مجموعة عربية تعيش في عُمان والإمارات، ووفق إحصاءات غير دقيقة يتجاوز عددهم 12 مليون نسمة، يدين معظمهم بالإسلام السني على المذهب الحنفي، عدا مجموعة شيعية إسماعيلية، تقطن في المناطق الشمالية الغربية لبلوشستان الإيرانية، إضافة إلى أقلية بهائية، ويتحدثون اللغة البلوشية، التي تشبه إلى حدّ كبير أخواتها الفارسية والكردية والباشتو والدارية والأردية. 

شهدت مناطق بلوشستان في التاريخ الحديث، احتجاجات سياسية وحركات تمرّد ومقاومة وطنية، كان هدفها هو تشكيل بلوشستان الكبرى، التي تتمتّع بنوع من الحكم الذاتي، لكنها خلال العقدين الماضيين، سجلّت نموّاً للجماعات الدينية المتطرّفة، على حساب الأحزاب العلمانية، التي نحت بها باتّجاه الإسلام الجهادي، وأفرزت تنظيمات إسلامية مسلّحة، مثل: “جند الله” و”جيش العدل” و”جبهة تحرير بلوشستان” وغيرها.

ويرى خبراء أن السبب الرئيسي لظهور هذه التنظيمات، هو سياسة القمع باسم الدين والتفوّق العرقي، التي تمارسها حكومات الدول الثلاثة في مناطق بلوشستان، من جهة، ومن جهة أخرى، استغلالها الطبيعة المسالمة للشعب البلوشي وعاطفته الدينية الفطرية واحترامه لرجال الدين، لتحويل مطالبه السياسية المحقّة إلى حروب مقدّسة، إضافة إلى الحرمان الإنمائي التأديبي، الذي جعل من هذه البقعة الجغرافية في عمق آسيا، واحدة من أكثر المناطق فقراً وتهميشاً. 

باكستان والنزعات الانفصاليّة

واجهت باكستان منذ استقلالها، نزعات انفصالية وحركات تمرّد قادتها الأقلية البلوشية، تحت راية “جيش التحرير الشعبي البلوشي”، ضمن نطاقها الجغرافي والتاريخي، وكانت وتيرتها تضعف أو تقوى، تبعاً للواقع السياسي في إسلام آباد، وتمكّنت القوات المسلّحة الباكستانية، في الأعوام السابقة، من قمع هذه الحركات، عبر الحملات العسكرية التي كانت تشنّها بشكل روتيني على معاقل الانفصاليين، لكنهم، أي الانفصاليين، عادوا إلى الظهور في الفترة الأخيرة، فأعادوا تنظيم صفوف “جيش التحرير” وأنشأوا تنظيماً آخر باسم “جبهة التحرير”.

في هذه الأثناء، برز حراك مدني يؤمن بالنضال السلمي والعملية السياسية، طالب بتشكيل حكومة فيدرالية تراعي الخصوصية البلوشية، وبحصّة مستحقّة من الثروات الطبيعية من النفط والغاز، التي تختزنها أرض بلوشستان، وبالكثير من الحريات السياسية والثقافية والحقوق المدنية والحماية من الانتهاكات الإنسانية والاغتيالات والإخفاء القسري والسجن والتعذيب للقادة والناشطين السياسيين والحقوقيين البلوشيين، لكن حكومة إسلام آباد لم تستجب لمطالبه، مما أدّى إلى إضعافه وبالتالي اضمحلاله، ليتولّى التنظيمان المسلّحان قيادة المطالب البلوشية عبر الكفاح المسلّح.

الحرب التي تدور حالياً، بين الحكومة الباكستانية والبلوش هي حرب عرقية، جاءت نتيجة للسياسات المركزية لحكم الأغلبية، علما أن بلوشستان تشكّل قرابة نصف أراضي باكستان، ولكن البلوش أقلية سكانية عددية.

إيران وأقليّة البلوش

في إيران، كان إقليم سيستان وبلوشستان مثل غيره من الأقاليم الطرفية، تسكنه أقلية لها امتداد داخل حدود البلد المجاور، لذلك كان في كل الأوقات عرضة لانفجار الهويات والأزمات السياسية مع الحكومة المركزية، ونشطت فيه أثناء الاحتلال البريطاني، حركة انفصالية، بالتزامن مع الثورة الدستورية في طهران، مطلع القرن الماضي، وتمكّنت من تشكيل حكومة محلية مستقلّة بدعم من بريطانيا، لفترة قصيرة، ورغم هذا، ظلّ مستوى الاضّطرابات والتمرّد في الإقليم الإيراني، أقلّ حدّة مما هو عليه في باكستان، إلى أن انتصرت الثورة الإسلامية، فارتفعت حدّة الاضّطرابات واتّخذت بعداً طائفياً، ذلك أن الحكومة الشيعية المركزية في طهران، أظهرت الكثير من التمييز الطائفي ضد الأقلية السنية، وتزامن ذلك مع الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وتشكّل الجماعات الجهادية، مما دفع بالأغلبية السنية البلوشية لاعتناق الأفكار السلفية.

في هذه الأجواء، ظهر أول فصيل مسلّح في الإقليم هو تنظيم “جند الله” بقيادة عبد الملك ريغي، وأعلن أن هدفه ليس الانفصال، إنما تحصيل حقوق الشعب البلوشي عبر الكفاح المسلّح، قضت إيران على التنظيم وأعدمت زعيمه بعد سنوات قليلة من انطلاقه، ثم قام على أنقاضه جماعة جديدة بقيادة محمد ظاهر بلوش سمّت نفسها “جيش العدل” وأخرى أطلقت على نفسها اسم “جيش النصر” بقيادة عبد الرؤوف ريغي شقيق عبد الملك، الذي قتل خلال مواجهة مسلّحة، داخل الأراضي الباكستانية.

ويعزو خبراء سرعة إيران في القضاء على “جند الله”، إلى قلة عدد البلوش وفقرهم المدقع وارتفاع نسبة الأمية والبطالة في الإقليم، مما حال دون تشكيله قاعدة جماهيرية، مقابل قدرة جبّارة للحكومة المركزية في السيطرة على الفضاء العام، والتنسيق الأمني المشترك مع حكومة إسلام آباد، لتفكيك مثل هذه التنظيمات. 

أفغانستان وملاذ البلوش الآمن

يعيش البلوش الأفغانيون بمعظمهم في ولاية نيمروز، وتنتشر قلّة منهم في ولايات أخرى، ويتجاوز عددهم 3 مليون شخص، وقد منحتهم الحكومات الأفغانية المتعاقبة حقوقاً مدنية، من بينها حق التعلّم بلغتهم الأم في المدارس والجامعات، كجامعة قندهار على سبيل المثال، وهم على عكس إخوانهم الإيرانيين والباكستانيين، لم يسبق أن عانوا من التهميش أو العنصرية أو التمييز الطائفي، ما عدا الأقلية الشيعية، التي أبادها الملا عمر الزعيم الروحي لحركة “طالبان” الأفغانية.

لم يشكّل بلوش أفغانستان أحزابا سياسية، لكنهم يمارسون العمل السياسي من خلال المجالس والجمعيات والمنظمات الاجتماعية والثقافية، وتربطهم علاقات أخوية مع الأحزاب السياسية البلوشية في إيران وباكستان، ولطالما كانت مناطقهم ملاذاً آمناً للبلوش الهاربين من بطش أجهزة الأمن الإيرانية والباكستانية، وفي هذه الأيام، يمارس الطرفان ضعوطاً على أفغانستان، لدفعها إلى عدم استقبال الانفصاليين، ومنع انضمام مواطنيها البلوش إلى الأحزاب السياسية في كلا البلدين. 

المشهد السياسي

لطالما كانت العلاقات الإيرانية الباكستانية محكومة بالتوتّرات، بالرغم من التناغم الأمني “الإلزامي” بينهما، وتسبّبت التوتّرات في وقوع فتن دموية بين الجماعات السنية والشيعية في باكستان، كما تسبّبت هجمات الجماعات المناهضة للحكومة الإيرانية في إقليم سيستان وبلوشستان، بإلحاق أضرار جسيمة بالقوّات الإيرانية، لكن ردّة فعل البلدين لم ترتقِ يوماً، إلى مستوى الهجمات الصاروخية. 

وفي الآونة الأخيرة، تزايدت الهجمات ضدّ القوّات العسكرية والأمنية في كلا البلدين، ويتّهم كل جانب الجانب الآخر بتجاهل أنشطة المسلّحين على أراضيه، وتصرّ إسلام آباد أن جماعة “جيش العدل” ليس لها وجود منظّم في باكستان، وقد يختبئ مسلحوها في المناطق النائية في بلوشستان، وتدّعي أنها اعتقلت أعضاء منهم متورّطين بهجمات إرهابية ضدّ إيران، في حين يواصل الانفصاليون البلوش، مهاجمة القوات الباكستانية، انطلاقا من الأراضي الإيرانية، وتتّهم إسلام آباد طهران بدعمهم عسكرياً ومادياً، وتقديم الملاذات الآمنة لهم على أراضيها، وهو ما تنفيه إيران.

ونفّذت إيران هجومها الصاروخي على باكستان، بينما كان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان يجتمع مع رئيس الوزراء الباكستاني الموقت أنوار الحق كاكر، على هامش قمّة دافوس في سويسرا، وقال عبد اللهيان  خلال اللقاء “إن مكافحة الإرهاب إحدى القضايا الهامّة للبلدين” وأشار كاكر إلى أن بلاده وإيران “تواجهان تحدّيات مشتركة في المنطقة، وعليهما بذل جهود مشتركة للحد من التهديدات الإرهابية”.

وبناء على هذا الأجواء الإيجابية، من الصعب الوصول إلى الدوافع الكامنة خلف الهجوم الإيراني الصاعق على باكستان. 

لذلك من الممكن أن تكون أحد دوافعه هجمات “جيش العدل” الأخيرة في مدينة راسك، علاوة على التفجيرات الانتحارية في كرمان، وتتّهم إيران الاستخبارات الإسرائيلية، التي تنشط في باكستان بتنفيذه، برغم أن تنظيم “داعش” تبنّاه، وتقول إن أجهزتها الأمنية، رصدت دخول أحد المهاجمين إلى كرمان من جهة باكستان برفقة امرأة وطفل، علماً أن أمن هذا المثلث الحدودي الأكثر قلقا لإيران، الذي تلتقي عنده إيران وباكستان وأفغانستان، في عُهدة “فيلق القدس”، من ناحية أخرى، يلفت صحافيون إلى أنه “يمكن اعتبار الهجوم على باكستان للاستهلاك المحلي، وحاجة نفسية للحرس الثوري لاستعراض قوّته الصاروخية”.

بعد يوم واحد من الهجوم، استدعت إسلام آباد سفيرها من طهران، ولم تسمح لسفير الجمهورية الإسلامية الموجود في إيران بالعودة إلى أراضيها، وصباح أمس الخميس، نفّذت القوات المسلّحة الباكستانية، هجمات انتقامية في ساراوان الإيرانية، وقالت إنها “ضدّ جماعات مسلّحة مناهضة لباكستان داخل إيران”، ومن الواضح أن إسلام آباد، باعتبارها دولة نووية، سعت إلى تلقين الحرس الثوري الإيراني درساً في اللغة الصاروخية.

 لكن، برغم هذه السقطات، تظلّ إيران وباكستان قريبتين، بشكل يصعب تفسيره، يُحسب لباكستان أنها ساعدت جارتها في تطوير برنامجها النووي، حيث وضع أبو القنبلة النووية الباكستانية عبد القادر خان، خبراته في هذا المجال في تصرّفها، وبرغم اختلافاتهما بالرأي حول العلاقة مع أفغانستان، أو علاقات إسلام آباد مع واشنطن، والتي تسببت في تعليق نقل الغاز الإيراني إلى باكستان، المعروف باسم “خط أنابيب السلام”، ما تزال باكستان ترعى المصالح الإيرانية مع الإدارة الأميركية، وتمارس دور الإطفائي في علاقتها مع أفغانستان.