fbpx

حولا بين مجزرتين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مجزرة جديدة في حولا يفصلها عن المجزرة الأولى ما يقرب من 75 عاماً. مزارع قضى مع عائلته على مشارف وادي السلوقي. مأساة تكفي لإيقاظ التراجيديا الأولى، ولاستعادة حكاية حولا الممتدة على طول الزمن بين المجزرتين.          

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“إلى الرفيق بشار حسين”

لطالما لاحت لي حولا، القرية التي يفصلها عن قريتي شقرا وادٍ ووعر، بعيدة أكثر مما هي بعيدة، ذاك أن الحكايات بين القريتين تتجاوز المسافة التي لا تتعدى عدد أصابع اليد الواحدة من الكيلومترات. 

حولا التي تتعرض اليوم لقصف إسرائيلي مركز استهدف منشآت مدنية، يشكو رئيس بلديتها من ظلم مواز يمارسه الإعلام في تغطيته القصف الإسرائيلي، فحين تُقصف من جنوبها يقول الإعلام إن القصف استهدف خراج بلدة ميس الجبل، وحين تُقصف من الشمال، يُشار إلى بلدة العديسة، أما القصف المركز الذي يستهدف غرب البلدة، فيشار إليه بأنه استهدف وادي السلوقي!.

بالأمس، قتل القصف الإسرائيلي عائلة من حولا كانت في منزلها، أب وأم وابنهما. عائلة مزارعة يقع منزلها غرب بلدة حولا، أي على تخوم وادي السلوقي. والواقعة المعمّدة بدم مدنيين، جنّبت حولا احتمالات “التجاهل” التي أشار إليها رئيس البلدية، ذاك أننا أمام مجزرة ضحاياها من أبناء البلدة.

حولا التي في بالي، ربما ليست حولا اليوم، ذاك أن المسافة التي أشرت إليها بدّدها انسحاب إسرائيل منها في العام 2000، فعادت لا تتجاوز الكيلومترات القليلة، وتلك المنعطفات “الخطرة” التي تتخلل الطريق إليها تم تمهيدها على نحو لا يشبه صعوبات الوصول إليها، كما استقرّت في ذاكرتي عنها. أفكر اليوم، أن المسافة عادت طويلة، وأن المجزرة تولّت مجدداً الفصل بين ضفّتي الوادي. 

تراجيديا حولا اليوم هي امتداد لتراجيديا بدأت في العام 1948، حين ارتكبت الهاغانا الإسرائيلية مجزرة حولا الشهيرة، فأعدمت في ساحة البلدة عشرات من الرجال، كان من بينهم قريب لي.

الناس في حولا، ممن تربطني بعشرات منهم صداقات ومعرفة وقرابات، أشد سمرة من “أهل شقرا”، ولا أدري لماذا كنت أشعر بأنهم أكثر إلفة، وربما وداً، فهم “أصحاب قضية” فرضها موقع البلدة في محاذاة المستعمرات الإسرائيلية، وهو ما أملى عليهم خيارات سياسية، كنا بفعلها، نحن الذين من غير أبناء حولا، أقرب إلى ملتحقين بقضيّتهم. سمرة وجوههم أقوى من سمرة وجوهنا، وشيوعيّتهم أقوى من شيوعيّتنا، وفي الحرب كانوا أشدّ بأساً منا، أو هكذا كنت أشعر، ناهيك بأن في لهجتهم ما هو أكثر حدّة من لهجات أبناء القرى المجاورة.

حولا بلدة الشيوعيين، وهي بالنسبة إلى شيوعيي شقرا، كانت وجهة ونموذجاً ومصدراً لعلاقات عابرة للوادي الذي يفصلها عن بلدتهم، وكنا حين نستمع الى حكايات أبو إسماعيل عن “ثورة العام 1958″، نشعر أن حولا أقرب إلى فيتنام، وأن الاحتلال يفصل بيننا وبين هانوي.   

تراجيديا حولا اليوم هي امتداد لتراجيديا بدأت في العام 1948، حين ارتكبت الهاغانا الإسرائيلية مجزرة حولا الشهيرة، فأعدمت في ساحة البلدة عشرات من الرجال، كان من بينهم قريب لي. هذا القريب أمدّنا، نحن أجيال ما بعد المجزرة، بعلاقة مع حولا، ذاك أننا صرنا شركاءهم بالمجزرة.

والحال، أن حولا لم تكتفِ طوال سنوات احتلالها، بحقيقة أنها مجرد قرية محتلّة تلوح لنا من بعيد، فهي واصلت خلال سنوات الشتات تعريضنا لأنواع من الأسئلة والخيارات، تتعدى ما ينتظره المرء من مجرد بلدة محتلّة. ففي صيدا التي انتقلنا إليها في أعقاب اجتياح العام 1978 الإسرائيلي، أو ما سُمي في حينها “عملية الليطاني”، رافقتنا حولا عبر عائلات الشيوعيين الذين أقمنا بينهم في المدينة، فكان منزل بشار منزلي الثاني، وفيه كانت حولا منتشرة في صوت أم رفيق وطبخها وإلفتها وعشرات الزائرين من “الرفاق” من أبناء البلدة، الذين كانوا يقصدون أبو رفيق. وكان سوء تفاهم ضمنياً بيني وبين بشار موضوعه أن قريتي خارج الاحتلال، وأزورها من حين إلى آخر، بينما كانت حولا محرّمة عليه بعدما غادرها عندما كان طفلاً.

كانت حولا موجودة في شيوعيتنا، مثلما كانت موجودة في حقيقة أننا شركاؤها في المجزرة الأولى. لا بل أن شيوعية أبناء حولا مسّها شيء من تلك المجزرة. في وجوه أبنائها شيء لطالما ردّني إلى حكايات أهلنا عما ارتكبته الهاغانا هناك. قصة قريبي الذي وصل في حينها إلى وادي السلوقي وأوفد عائلته إلى شقرا وعاد أدراجه إلى حولا ليلقى مصيره فيها، وقصة جيش الإنقاذ الذي انسحب من البلدة.

مجزرة جديدة في حولا يفصلها عن المجزرة الأولى ما يقرب من 75 عاماً. مزارع قضى مع عائلته على مشارف وادي السلوقي. مأساة تكفي لإيقاظ التراجيديا الأولى، ولاستعادة حكاية حولا الممتدة على طول الزمن بين المجزرتين.