fbpx

 مشاهد مستعادة من وادي السلوقي الذي تقصفه إسرائيل اليوم

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اليوم، يتعرض الوادي لغارات إسرائيلية، وما أن أقرأ خبراً عنها، حتى تستيقظ القصص الغامضة التي أضعفتها سنوات تحريره!

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قبل أيام، نفّذت طائرات حربية إسرائيلية عشر غارات على وادي السلوقي في جنوب لبنان، الوادي الذي يفصل قريتي شقرا وحولا التي ينحدر منها صديق طفولتي ومراهقتي بشار، وهو أيضاً الوادي الذي أنشأ فيه ابن عمي وجدي مشروعاً زراعياً بعدما انسحب الجيش الإسرائيلي من التلال المحيطة به في العام 2000.

الوادي الشهير هذا يقيم في ذاكرتي على نحو غريب، ذاك أنه لطالما شكّل جسراً بيني وبين وقائع غير ممكنة، وقصص عجيبة. فيه كان والدي يرعى الضباع على ما كان يروي لنا من قصص متخيّلة، وهو إذ يفصلنا عن إسرائيل، أو عن منحدرات بين ميس الجبل وحولا تلامس مستعمرة المنارة، شكل خزاناً لحكايات من المرجح أن معظمها من نسج خيال الناس. ففيه ترعى قطعان الخنازير البرية المنطلقة من مزارع في المستعمرات الإسرائيلية، لكننا لم نرَ واحداً منها طوال سنوات كنا نمضي الصيف خلالها على تخوم الوادي، ناهيك بـ “نهر السلوقي”، وهو أيضاً ما لم نعاينه يوماً سوى في قصص أهلنا عنه.

والسلوقي هو امتداد لوادي الحجير الأكثر شهرة منه لارتباطه بمؤتمر الحجير الذي عقد في العام 1920، وأعلن فيه وجهاء المنطقة التحاقهم بالثورة العربية الكبرى التي كان يقودها آنذاك الشريف فيصل في دمشق. علماً أن هذا المؤتمر شكل مؤشراً مبكراً الى شقاق لبناني يمتد إلى اليوم، بين جماعات أهلية راغبة في الالتحاق بامتدادها الأهلي غير اللبناني، وأخرى راغبة في الانكفاء إلى لبنانها “الصغير”. لكن شهرة وادي الحجير أيضاً مرتبطة بـ”معركة الدبابات” التي خاضها “حزب الله” في العام 2006 ضد محاولات التقدّم الإسرائيلي. لكن المفارقة الأبرز أن الوادي هو اليوم شاهد على الشقاق الأهلي نفسه، بين قرار “حزب الله” بفتح “جبهة مساندة” لحماس في الجنوب اللبناني، وقوى لبنانية أخرى ترى ضرورة حياد لبنان.    

في أعقاب الطفولة ومع بزوغ زمن المراهقة، انكفأنا عن تخوم وادي السلوقي بعدما تحوّل إلى خط تماس يفصل المواقع الإسرائيلية عن قرانا التي كنا نسميها “المناطق المحررة”، فصارت الحكايات أشد صلابة، ولكن أيضاً أكثر بعداً. وحينها، ارتبطت شقرا في وعيي بعدم الأمان، لا أقوى على النوم بمنزلنا فيها سوى مع سلاح أطرد عبره أشباح جيش لحد وقبله جيش حداد، ومن ورائهما جيش إسرائيل الذي تسللت وحدات كوماندوس منه ودمرت أكثر من عشرة منازل لأقاربي بين الأعوام 1979 و1982. في ذلك الوقت، كان وادي السلوقي مصدراً متوهماً لوحدات الكوماندوس، وفاصلاً بيننا وبين بلدة حولا المحتلة في حينها، التي على كتفها الغربي يقع أول موقع لجيش لحد.

وأذكر أنني وقبل الانسحاب الإسرائيلي في العام 2000 بشهور قليلة، أوفدتني جريدة “الحياة” التي كنت أعمل فيها، إلى الشريط الحدودي لتغطية الاستعدادات للانسحاب، ودخلت في حينها من معبر مرجعيون، وانتقلت من هناك إلى مدينة بنت جبيل مروراً بحولا، التي منها أتيح لي أن أنظر إلى بلدتي شقرا من الجهة التي يعاينها منها جنود جيش لحد، وظهرت لي أقرب مما كنت أتوقع.   

الوادي الشهير هذا يقيم في ذاكرتي على نحو غريب، ذاك أنه لطالما شكّل جسراً بيني وبين وقائع غير ممكنة، وقصص عجيبة.

اليوم، عادت الطائرات الإسرائيلية لقصف الوادي بعد نحو عقدين من التحرير، ومن انكشاف أسراره. وجدي ابن عمي أقام فيه مشتلاً زراعياً، والطريق الذي يتوسطه أُقيمت على جانبيه مبانٍ ومنتجعات لم يبالغ أصحابها في الابتعاد بمنشآتهم عن الطريق ومن ملامسة سفوح الجبال التي كنا نسميها “وعر حولا”. استمريت بالشعور بالحذر حين كنت أعبره قاصداً قريتي، على رغم أن “السلام” عمّ وباشر الأهالي بالوصول إلى مزارعهم على ضفافه، ولطالما تساءلت: ما الذي دها بعقل وجدي لكي يقيم مشتله الزراعي هناك؟ وكان مرد تساؤلي، غير المنطقي، هو مواصلة “ضباع أهلنا” في الاشتغال في مخيلتي.

اليوم، يتعرض الوادي لغارات إسرائيلية، وما أن أقرأ خبراً عنها، حتى تستيقظ القصص الغامضة التي أضعفتها سنوات تحريره! الحرب إذ عادت هذه المرة، لم تعد معها قطعان الضباع، وقلعة “دوبي” التي ترتفع فوق أحد تلاله ربما صارت هدفاً للقصف بعدما كانت في زمننا مخزناً للأسرار. أقاربنا الذين بنوا منازلهم على ضفتي الوادي بعد التحرير وزرعوا حدائق في محيطها، استعجلوا ربما! زاهر وراشد من الجهة الغربية للوادي، وسلمى ويوسف وإبراهيم وأحمد من الجهة الشرقية. لو كنت مكانهم لما فعلت ما فعلوا، هكذا رحت أقول لنفسي، ليس لأنني أتوقع حرباً هناك، بل لأن الضباع والخنازير البرية في مخيلتي لم تغادر الوادي، وهي إذ غادرت واقعياً بعد التحرير، إنما اصطحبت معها كل قصص أهلنا عنه، فصار السلوقي وادياً عادياً، من دون ضباع ومن دون نهر ومن دون حكايات القلعة. هل هذا ما نسميه ذاكرة الحرب أو مشاعر تشكلت في سنوات الحرب وكان علينا طردها بعدما “حلّ السلام”، وهو ما يعني أن على جيل كامل أن يكون بلا مشاعر.

الحرب اليوم في الوادي هي حرب عادية، وتقتصر أسرارها على ما يحصل فيها من وقائع، ونحن إذ يصلنا خبر الغارة الإسرائيلية عليها، نستعيد مشهد المشتل الزراعي لوجدي أو منزل زاهر الذي بناه على أحد المنعطفات المفضية إلى السلوقي أو حديقة وليد، رفيقنا الصيداوي وزوج ابنة عمنا التي بنت منزلاً هناك بعد التحرير. في الحرب الأولى، لم نكن نستحضر أماكن ومنازل، فالقصف حين كنا نسمعه أو نعلم به كان يترافق مع نهر غير موجود واقعياً، ومع قطعان من الضباع لا أثر لها سوى في حكايات أهلنا. أما قلعة “دوبي” التي كانت تلوح لنا من بعيد كهيكل حجري غامض ربما كَمَن لنا فيه جيش لحد، فقد استكشفناها بعد التحرير، وتحولت إلى عقار يتنازع عليه أهالي شقرا وحولا.