fbpx

فرنسا التي نحبّها لم تمت بعد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

على رغم تصاعد خطاب شيطنة المهاجرين طوال السنوات الماضية، وإلصاق ويلات البلاد بهم وصولاً إلى توظيف رهاب الأجانب لأغراض سياسية وانتخابية، أثبتت فرنسا أن تاريخها عصي على أي خطاب كراهية يقيم حواجز بين الشعوب ويشوّه القيم العالمية للجمهورية الفرنسية. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لا يختلف اثنان على ما يجسّده ميساك مانوشيان من رمز للمقاومة الفرنسية ضد الاحتلال النازي، رمزية بلغت أوجها في 21 شباط/ فبراير 2024، مع نقل رفاته إلى مبنى البنتايون، أي مقبرة العظماء. البنتايون ليس مجرد مقبرة، بالتالي الغرض من دفن أية شخصية بداخله تخليد جانب من “عظمة فرنسا”. 

ميساك مانوشيان أرمني، نجا من الإبادة الأرمنية وهو بعمر التاسعة، وتنقل بين مناطق عدة، عاش سنوات في لبنان قبل استقراره في فرنسا بعمر الثامنة عشرة. 

انتسب مانوشيان إلى الحزب الشيوعي الفرنسي منتصف الثلاثينات، كردة فعل على تصاعد خطاب الكراهية ضد الأجانب. تقدّم مرتين للحصول على الجنسية الفرنسية، وعلى رغم رفض طلبه لكنه لا يحمل في داخله أي ضغينة أو حقد تجاه فرنسا.

 مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، تطوّع للخدمة العسكرية، ثم انضم إلى المقاومة الشيوعية ضمن ما عرف بوحدة FT¨P-MOI التي نفذت نحو 200 عملية ضد النازيين في باريس بين أيار/ مايو 1942 وتموز/ يونيو 1943. منتصف العام 1943، تولى مانوشيان قيادة هذه الوحدة لتشن واحدة من أبرز عملياتها، اغتيال الجنرال النازي يوليوس ريتر، المسؤول عن إرسال آلاف الفرنسيين للعمل في ألمانيا دعماً لمجهودها العسكري. 

 في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1943، أوقف مانوشيان من الشرطة الفرنسية المتعاونة مع الألمان، ليُسلم بعدها إلى الجانب الألماني الذي أعدمه في 21 شباط/ فبراير 1944 مع 21 شخصاً من مجموعته. 

المُلصق الأحمر

خلال المحاكمة العسكرية التي خضع لها مانوشيان ورفاقه، أطلق النازيون حملة لتشويه صورة المقاومة الفرنسية عبر ملصق دعائي عُرف بالملصق الأحمر، طبعت على الملصق صورة مانوشيان وعدد من رفاقه الشيوعيين، لم يكن بينهم فرنسي واحد كما كان معظمهم من اليهود.

 روجت الدعاية النازية أن “محرري فرنسا” ليسوا من أبنائها، إلى جانب تحريضها على معاداة السامية، لكن “السحر انقلب على الساحر”، إذ أعطى الملصق نتيجة عكسية بعدما تحولت تلك المجموعة إلى رمز للبطولة والتضحية، جُسّدت في أعمال فنية

دخول مانوشيان إلى مقبرة العظماء حمل معاني عدة: صحيح أن عدداً من المقاومين الفرنسيين سبقوه إلى البنتايون، لكنه أول مقاوم شيوعي يدخله، عرفاناً بدور الشيوعيين في مقاومة النازيين. من جانب آخر، هو اعتراف بمساهمة الأجانب والمهاجرين في تلك المقاومة، بمعنى آخر الإقرار بالقيمة المضافة للمهاجرين إلى فرنسا. مانوشيان بات أول أجنبي يرقد في البنتايون، ما أضفى على هذا الصرح قيمة جديدة، إذ لم يعد حكراً على الفرنسيين. أبوابه المشرعة لكل من ساهم في صناعة مجد فرنسا أوضح دليل على ما تجسده هذه البلاد من معان وأبعاد عابرة للحدود. 

ماكرون وتهمة التوظيف السياسيّ

نقل رفات مانوشيان خطوة غير هامشية مع اتساع القاعدة الانتخابية لليمين المتطرف المعادي للمهاجرين والمحرّض عليهم. واقع دفع أخيراً إيمانويل ماكرون إلى التماهي مع هذا الخطاب. 

أصوات يسارية كثيرة اتهمت الرئيس الفرنسي بالتوظيف السياسي باعتباره صاحب القرار بتخليد أية ذكرى شخصية في البنتايون. أوليفييه بيزانسنوه، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، وصف خطوة ماكرون “بالتناقض السياسي الفاضح”، إذ لا يعقل تكريم شخصية تجسّد كل هذه الأبعاد، وفي الوقت نفسه يصوت نوابه على قانون الهجرة الجديد. 

من جهته، علق النائب عن حركة فرنسا الأبية ألكسي كوربيير، على الحدث، مذكراً بأن مانوشيان شيوعي وعامل عانى من ظلم التشريعات الفرنسية بحق المهاجرين، وضحى في سبيل جمهورية مثالية. كوربيير أشار عبر صحيفة Marianne، الى أنه من غير المعقول تكريمه بالتوازي مع  إقرار قانون الهجرة وتبني خطاب يُحمّل المهاجرين مسؤولية انعدام الأمن والأزمة الاجتماعية.  وعليه، فإن عدم مراجعة هذا التناقض سيؤدي إلى إفراغ هذه الخطوة من كل معانيها. 

اليمين المتطرّف وإرث معاداة الساميّة

لكن الجدل الأكبر أثارته زعيمة حزب التجمع الوطني مارين لوبان، أبرز أحزاب اليمين المتطرف، بعد تمسّكها بحضور مراسم نقل الرفات.  فلوبان هي وريثة حزب الجبهة الوطنية الذي أسسه والدها وتولت رئاسته قبل تغيير اسمه إلى التجمّع الوطني. من بين مؤسسي الحزب وقادته الأوائل، نجد عملاء سابقين للاحتلال النازي ومتطوعين في قوات الأمن الخاصة النازية (المعروفة بالـ SS)، يضاف إليهم تاريخ الحزب الحافل بمعاداة السامية والشيوعية وكراهية الأجانب. لوبان الابنة أكدت مراراً عدم تنكّرها لهذا التاريخ، ما يعني أن إرثها السياسي والعائلي هو النقيض التام لكل ما يمثله مانوشيان. 

إصرار مارين لوبان على المشاركة في المراسم، على رغم عدم الترحيب بها من الأحزاب والشخصيات اليسارية، كما من رئيس الجمهورية ومن عائلات المقاومين الذين قضوا مع مانوشيان، يعود الى إدراكها المكاسب السياسية من تلك المشاركة. حضورها إلى البنتايون ليس قناعة منها بل بدافع المصلحة، فغيابها عن مشهد الوحدة الوطنية هذا، سيؤكد أنها لا تزال “منبوذة”.

منذ تربّعها على عرش اليمين المتطرف الفرنسي، وضعت لوبان نصب عينيها الوصول إلى السلطة. لم تبدل قناعاتها لكنها غلّفتها بخطاب معتدل لتزيل عنها لوثة العنصرية وتصبح أكثر قبولاً. على خط مواز، سعت إلى مصالحة حزبها مع تاريخ البلاد: من خلال مشاركتها في تكريم مقاوم شيوعي، تراهن لوبان على طي صفحة سوداء من تاريخ عائلتها السياسية، عنوانها العمالة للمحتل النازي. 

بالنظر إلى منطق لوبان، من المحتمل أن تصدر حججاً للتعتيم على هذا التناقض: باعتبار أن مانوشيان مسيحي الديانة ولا تعود أصوله إلى إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة، يمكنها الادعاء بأنها شاركت في تكريم “النموذج المثالي للمهاجر المتماهي مع ثقافة البلاد وحضارتها”. 

بعبارة أخرى، لو تم تكريم أحد المقاومين المنحدرين من القارة الأفريقية ، هل كانت ستحضر لوبان؟ أمر مستبعد باعتبار أن حضورها سيضعف حجتها التي تصور المهاجرين الأفارقة كتهديد اقتصادي واجتماعي وثقافي وديموغرافي يخلو من أية إيجابيات. على سبيل التذكير، تعرض ماكرون إلى موجة انتقادات في العام 2019 بعد مطالبته بإطلاق أسماء جنود أفارقة على شوارع فرنسية، تخليداً لذكراهم وعرفاناً بمشاركتهم في عملية تحرير فرنسا، فيما لم نشهد حملة مماثلة مع مانوشيان. 

بارقة أمل؟

بعيداً من التوظيف والاستثمار السياسي، يمكن اعتبار تكريم مانوشيان بارقة أمل أعادت إلى فرنسا شيئاً من بريقها الذي افتقدته. على رغم تصاعد خطاب شيطنة المهاجرين طوال السنوات الماضية، وإلصاق ويلات البلاد بهم وصولاً إلى توظيف رهاب الأجانب لأغراض سياسية وانتخابية، أثبتت فرنسا أن تاريخها عصي على أي خطاب كراهية يقيم حواجز بين الشعوب ويشوّه القيم العالمية للجمهورية الفرنسية. 

إيمانويل ماكرون الذي تماهى مع اليمين المتطرف لحسابات سياسية، أقر  بخطوته تلك، بأن الاعتراف بالقيمة المضافة للمهاجرين لا ينتقص من رصيده السياسي، بل يعززه. 

 من جهة أخرى، إصرار مارين لوبان على حضور مراسم نقل رفات مانوشيان لا بد وأن يتحول إلى حجة تستخدم ضدها وضد مشروعها الذي تقوم فلسفته على تشويه صورة المهاجر وتصويره عبئاً على فرنسا. مهما حاولت تبرير قرارها، أُجبِرت لوبان على الاعتراف بقيمة المهاجر وإمكان تحوّله إلى عنوان للوحدة الوطنية ومحطة جامعة تتخطى أية تباينات سياسية وأيديولوجية. 

كذلك، أعاد هذا الحدث الاعتبار الى مفهوم الانتماء الوطني الذي لا يقاس بالجذور أو الديانة: ففيما انحاز فرنسيون إلى صف المحتل، ساهم آلاف الأجانب في تحرير هذا البلد على رغم افتقادهم جنسّيته. 

ليست الغاية مما ذُكر أعلاه، التوهم أن ما بعد 21 شباط 2024 ليس كما قبله، وكأن نفوذ اليمين المتطرف ولّى إلى غير رجعة. بالتأكيد لم ينحسر خطاب الكراهية ضد الأجانب والمهاجرين، ويمكن أن نشهد في أية لحظة تصريحات مسيئة بحقهم أو طرح قوانين تقيّد حقوقهم وتعرقل وصولهم إلى الأراضي الفرنسية. 

لكن الأمل الذي يحكمنا جعل من هذا الحدث “جرعة أوكسجين” أكدت أن لفرنسا ثوابت يستحيل تخطّيها مهما بلغ المشهد من سوداوية. فتكريم مانوشيان هو قبل كل شيء ثمرة جهود شعبية تمثلت في تشكيل لجنة وطنية لهذا الغرض، إلى جانب رفع عرائض لحثّ رئيس الجمهورية على اتخاذ هذه الخطوة.