fbpx

فزاعة “داعش”: إرهاب تحت الطلب أم ناقوس خطر حقيقي؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يشكل اتساع رقعة الصراعات المسلحة والدموية حول العالم، الأرض الخصبة الفعلية لتنظيم “داعش” وغيره من التيارات الدينية الأصولية، إسلامية كانت أم غيرها. ومن الأجدى اعتبار الدول المتصارعة، في هذه الحالة، دميةً بيد “داعش”، وليس العكس، فالأخير يستثمر في الصراعات لكسب المال من جهة وتوسيع نطاق عملياته من جهة أخرى، وليس لديه ما يخسره، كما أنه لا يهتم لكل ما يقال في وسائل الإعلام الروسية والغربية على حد سواء.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تسبّب الهجوم الإرهابي الذي “تبناه” مسلحون من تنظيم “داعش ولاية خراسان” بقيادة المدعو شهاب المهاجر، يوم الجمعة في 22 آذار/ مارس 2024، بمقتل 144 شخصاً وجرح 551 آخرين

 استهدف الهجوم الذي تبنّاه التنظيم في بيان نشره على منصة “تلغرام”، قاعة “كروكوس سيتي هول” المخصصة لإقامة الحفلات الموسيقية، في ضاحية كراسنوغورسك غرب العاصمة الروسية موسكو، وتخلّله إطلاق نار عشوائي بالأسلحة الحربية والمسدسات على الضحايا، وإلقاء قنابل حارقة ومواد مشتعلة تسبّبت باندلاع حريق كبير تلاه انهيار سقف القاعة. 

ألقى منفذو الهجوم أسلحتهم بعدما تسببوا بفوضى عارمة، وتمكنوا من الفرار وسط الآلاف من الهاربين، قبل أن يلقي جهاز الأمن الفيدرالي الروسي القبض على عدد منهم بعد ساعات من وقوع الهجوم.

اعترف أحد المسلّحين المحتجزين أثناء التحقيقات الأولية، وهو يحمل الجنسية الطاجيكية ويدعى فريدون شمس الدين (مواليد 1998)، بأنه “وصل من تركيا في 4 آذار، وجُنِّد عبر “تلغرام” قبل شهر تقريباً، وعُرض عليه مبلغ 500 ألف روبل (نحو 5 آلاف دولار) مقابل تنفيذ عملية قتل عشوائي“، وبأنه ورفاقه كانوا متّجهين نحو الحدود الأوكرانية-الروسية حيث كان بانتظارهم من يساعدهم على الهروب. 

الاعتراف السابق اعتبره المسؤولون الروس، وعلى رأسهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “دليلاً” على تورّط أوكرانيا، وأحسَنوا استغلاله لتهيئة المناخ العام في روسيا لتقبّل التعبئة العسكرية الشاملة. فالحديث في الصحافة الروسية يدور حول تحوّل ما يسميه الكرملين  من”عملية عسكرية خاصة” إلى حربٍ شاملة وغزو واسع للأراضي الأوكرانية. 

لم يتأخر بوتين في توقيع مرسوم التجنيد الإلزامي لـ 150 ألف مواطن روسي بتاريخ 31 آذار 2024، فيما تتسارع عملية عسكرة الاقتصاد الروسي.

تقصير أجهزة الاستخبارات الروسيّة

نشأ تنظيم “داعش” في سياق معقّد وعميق، لا يشكّل العامل الاستخباراتي فيه سوى إحدى طبقاته فقط. وبعد مراقبة أنشطة “داعش” منذ عام 2013، وبخاصة في سوريا والعراق، صار من الممكن القول إنه مخترق على مستوى قياداته من أجهزة استخباراتية عدة متنافسة، بما فيها أجهزة الاستخبارات الإيرانية والروسية. 

تلك الأجهزة تمتلك قاعدة بيانات سرية، وقادرة على جمع المعلومات والمراقبة والرصد والتتبع، كما أنها تستطيع تحديد دقّة المعلومات التي يوفرها هذا الجهاز الاستخباراتي أو ذاك، وليس صحيحاً ما يشاع من معلومات في بعض وسائل الإعلام المنحازة الى السردية الروسية حول تفاجؤ السلطات الروسية بالهجوم الانتحاري الذي استهدف قاعة “كروكوس سيتي هول”، بخاصة أن السفارة الأميركية في موسكو كانت قد عمّمت تحذيراً لمواطنيها وللسلطات الروسية على حد سواء من احتمال وقوع هجوم إرهابي وضرورة “تجنّب التجمعات الحاشدة”، وذلك بتاريخ 7 آذار 2024، أي قبل أسبوعين من وقوع الهجوم.

يُذكّر تجاهل الاستخبارات الروسية التحذير الأميركي الذي تلقّته، بتجاهل الاستخبارات الإيرانية تحذيرٍاً أميركياً آخر تلقّته عبر قنوات سريّة قبل أسبوع واحد من تنفيذ “داعش” تفجيراً إرهابياً مزدوجاً قرب قبر قاسم سليماني في مدينة كارامان جنوب إيران بتاريخ 3 كانون الثاني/ يناير 2024، ما أدى إلى مقتل 94 شخصاً وإصابة 284 آخرين.

كان أحد الانتحاريّين الاثنين اللذين ينتميان إلى تنظيم “داعش- ولاية خراسان”، يحمل الجنسية الطاجيكية. وفي حالة الهجوم على قاعة “كروكوس سيتي هول”، قُبض على أربعة مسلحين طاجيكيين وتمت محاكمتهم، كما اعتقل جهاز أمن الدولة الطاجيكي 9 أشخاص في طاجيكستان للاشتباه في اتصالهم بمنفّذي العملية الإرهابية.

هذا التحذير المسبق في الحالتين يشير إلى وجود اختراق أميركي فعلي لـ “داعش خراسان”، وبالتحديد لخلاياه الناشطة في طاجيكستان، وإلى دقّة المعلومات التي تزوّدها الاستخبارات الأميركية سواء لحلفائها أو خصومها حول التفجيرات المحتملة من هذا التنظيم. وللمفارقة، فقد ألقى القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي آنذاك، اللوم على إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية على رغم التحذير الاستخباراتي الذي تلقته إيران من الولايات المتحدة، تماماً كما تفعل اليوم السلطات الروسية في إلقائها اللوم على أوكرانيا والولايات المتحدة على رغم تلقّيها تحذيراً علنياً منها. 

وفي الحالتين، يبدو واضحاً وجود ثقافة مشتركة بين الطرفين الإيراني والروسي، هي ثقافة الهروب من المسؤولية، وتوظيف الأحداث البشعة والصادمة لعامة الناس من خلال استخدامها وقوداً للتعبئة العسكرية عوضاً عن تحميل المسؤوليات ومحاسبة المقصّرين والمتسبّبين بفشل  الأمن الوقائي أو حتى غيابه.

في قول هذه الحقيقة لا وجود لمفاضلة بين طرف وآخر. فقد أثبتت الاستخبارات الأميركية التزامها بمبدأ “واجب التحذير” مراراً، فيما أثبتت الاستخبارات الروسية، ومن قبلها الإيرانية، أنها لا تضع الأمن الوقائي على لائحة أولوياتها، وهذه وقائع مثبتة. 

نظريات المؤامرة التي تنسجها وسائل الإعلام التابعة لهذا الطرف أو ذاك، لا تستند إلى وقائع بل تلوي الحقائق خدمةً لاتجاهات سياسية وأهداف استراتيجية وحربية معيّنة. تماماً كما فعل الأميركيون أنفسهم بعد هجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001 وبعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، إذ تحوّلت وسائل الإعلام ومنصّات التواصل الاجتماعي الأميركية والغربية عموماً (مع وجود استثناءات) إلى آلات ضخمة لصناعة البروباغندا الحربيّة.

الرد الأوكراني

في مقابلة أجرتها قناة CBS News مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بتاريخ 28 آذار 2024، ورداً على السؤال التالي في الدقيقة 24:01: “ما مدى قلقكم بشأن اتهامات الرئيس بوتين بأن الهجوم الإرهابي الذي وقع بالقرب من موسكو كانت له علاقة بأوكرانيا أو كان مدعوماً منها؟ هل تتوقعون الانتقام، سواء كانت هذه الاتهامات صحيحة أم لا؟”.

أجاب زيلينسكي: “نحن نفهم أن روسيا كانت على علم مسبق بالهجوم. هذه هي الحقيقة. ولم يكن الأمر محصوراً بالمعلومات العامة التي تحدث عنها الجميع، كالولايات المتحدة أو المملكة المتحدة، أو أجهزة الاستخبارات العالمية. لقد زوّدت أجهزة الاستخبارات العالمية الاتحاد الروسي بهذه المعلومات، وبالتواريخ، من خلال قنواتها، وحذّرت من حصول أعمال إرهابية مؤكدة، ولم يفعل ذلك جهاز استخبارات واحد”.

وأضاف زيلينسكي: “إذا تم تحذيرهم بشكل مسبق، فلماذا يجلس بوتين الذي يخاف على حياته في الأقبية؟ لديه الملايين من الدفاعات الجوية في موسكو (…) لماذا لم يستجب بوتين للتحذيرات بأي شكل من الأشكال؟”. 

وأكمل مستطرداً: “لماذا لم تنتشر القوى الأمنية في كل مكان؟ لماذا لم تُعزل موسكو أمنياً؟ لماذا لم تقم الشرطة الروسية بأي مداهمة؟ هم يفعلون ذلك عندما يخرج شخص معارض مثل نافالني لإلقاء خطاب ضد بوتين. لقد رأيتَ ما حصل آنذاك من مداهمات. كانت الشرطة تعتقل المعارضين مع أقاربهم، إضافة إلى إغلاق حساباتهم المصرفية. لقد كان ردّهم دائماً بهذا الشكل، فلماذا لم يفعلوا شيئاً قبل الهجوم؟ أعتقد بأن الإجابة تكمن هنا”.

ثم قال المستضيف: ” لكن هذا لا يمنع بوتين من مهاجمتك على أي حال”، فأجاب زيلينسكي: “بالنسبة إلى بوتين، فهو لا يهمه سبب مهاجمتنا. هو يحتاج إلى تعبئة المزيد من الناس قبل أيار/ مايو أو حزيران/ يونيو 2024 لشن الهجوم المضاد ضد أوكرانيا (…) إنه يستخدم ما حصل لبناء سردية مبتذلة هدفها توحيد مجتمعه قدر الإمكان وتعبئة من لا يؤمنون بهذه الحرب”.

“داعش” وأوكرانيا… وتهمة بوتين التي تلغي نفسها

انضم سابقاً العشرات من مقاتلي “داعش” السابقين، إضافة إلى المئات من مقاتلي “هيئة تحرير الشام”، إلى الحرب الروسية-الأوكرانية للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية بعد بدء الغزو الروسي. لكن هذا لا يمكن اعتباره دليلاً على وجود رابطٍ حقيقي بين الحكومة الأوكرانية وتنظيم “داعش”، فقد لبى آلاف المتطوّعين الأجانب من جميع أنحاء العالم ومن خلفيات أيديولوجية متنوعة ومتناقضة نداء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للانضمام إلى “الفيلق الدولي للدفاع الإقليمي عن أوكرانيا”.

من ضمن من لبى النداء مقاتلو “داعش” السابقون و”هيئة تحرير الشام”، وهم مرتزقة يملكون خبرة واسعة في القتال وتُعتبر عملية تجنيدهم مكلفة، وليسوا متطوّعين بقصد “إنقاذ أوكرانيا”، بل إن إشراكهم في القتال يشكّل عبئاً سياسياً وخطراً أمنياً، فوجودهم سلاح ذو حدّين، وفتح الباب أمام هذا النوع من المرتزقة الذين لا يهمهم سوى المال مهما ارتكبوا من فظائع وجرائم للدفاع عن أراضي أوكرانيا، هو خطأ فادح بحق الشعب الأوكراني، ودليل على ذلك تمكّن جهاز الأمن الفيدرالي الروسي من تجنيد بعضهم للتجسس وتنفيذ الاغتيالات لمصلحة روسيا.

وهنا يجب أن يُطرح السؤال على بوتين، وليس العكس، فهو تساءل “لماذا كان الإرهابيون يحاولون التوجّه نحو أوكرانيا” بعد ارتكاب جريمتهم، وبالنسبة إليه فإن هذا دليل كافٍ على تورّط أوكرانيا في الهجوم الإرهابي! ألا يوجد عدد كبير من العملاء التابعين لأجهزة الاستخبارات الروسية، إضافة إلى أكثر من 300 ألف جندي روسي يقاتلون في أوكرانيا؟

نسأل أيضاً، هل يمكن القول إن الرابط المشار إليه أعلاه بين بعض مقاتلي “داعش” السابقين في أوكرانيا وأجهزة الاستخبارات الروسية، يشكل دليلاً على تورّط الاستخبارات الروسية في الهجوم الإرهابي في موسكو مثلما روّج كثيرون من دعاة نظريات المؤامرة لوجود رابط بين الإدارة الأميركية وهجمات 11 أيلول/ سبتمبر 2001؟

باختصار، بالطبع لا يمكن فعل ذلك، فكما تُبنى نظرية المؤامرة من الجانب الروسي على أساس تكهّنات وافتراضات وانطلاقاً من أحقاد معينة وخدمة لأجندة سياسية، فإن نظرية المؤامرة معكوسة من أي طرف آخر يتّهم روسيا بالضلوع في تنفيذ العملية الإرهابية، تخضع لمنطق التفكير المؤامراتي نفسه. لكن هذا لا يلغي ما يحصل من تحويل “الضحية” لمظلوميتها إلى مؤامرة قائمة بذاتها تُحدِّد هي عناصرها والأهداف منها.

المنطق الاتهامي الذي يروّج له بوتين تشوبه التناقضات الداخلية، إلى درجة أن التهمة تنفي نفسها بنفسها، فما يفعله بوتين يضعه بنفسه في قفص الاتهام بناءً على تكهنات وافتراضات وانطلاقاً من أحقاد ومواقف منحازة من دون توافر أدلة حاسمة.

هذا المنطق المؤامراتي يسهّل نشاط “داعش” إلى أقصى الحدود، ويفتح أمامه الباب لتنفيذ هجمات إرهابية في أوكرانيا نفسها، لأن التهمة ستكون جاهزة مسبقاً ليتم إلصاقها بروسيا في الإعلام الأميركي والأوكراني، وذلك مهما كانت ارتباطات “داعش” وأهدافه على المديين القصير والطويل. 

ليس منطقياً وصف التنظيم بأنه يتكوّن من مجموعات من المرتزقة فقط لا غير، على رغم الدور الارتزاقي الذي يلعبه في أكثر من مكان، فيما يتم تجريده من تمايزه الأيديولوجي، واعتباره دمية لا أكثر بيد هذه القوى الإقليمية أو تلك، على الرغم من أن ولادة “داعش” في العراق وسوريا تطرح إشكالية شائكة ستبقى مدار بحث وتمحيص لسنوات مقبلة قبل أن تتوافر إجابات شافية. 

ما سبق يعاكس الوصف الذي يليق بمجموعات من مقاتلي “داعش” السابقين الذين يمارسون نشاطهم العسكري في عدد من الدول كمرتزقة، بصرف النظر عن أي التزامات تنظيمية وعقائدية، وبهدف كسب المال حصراً حتى ولو تعارض نشاطهم الارتزاقي مع الأهداف الاستراتيجية لفروع تنظيم “داعش”.

روسيا وأوكرانيا و”داعش” في الحرب الأهلية السودانيّة

من المفيد الإضافة أن الصراع بين روسيا وأوكرانيا يمتد إلى أماكن مختلفة حول العالم، ففي الحرب الأهلية السودانية، تحظى القوات المسلّحة السودانية بالدعم من أوكرانيا، حيث تشرف القوات الأوكرانية الخاصة على تدريب مقاتليها، إضافة إلى تزويدها بالطائرات المسيّرة التركية من طراز “بيرقدار” وتدريبهم على استخدامها.

 على الطرف الآخر، تحظى قوات الدعم السريع بالدعم الروسي عبر مجموعة فاغنر باعتراف رسمي من وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، إذ يحصل مقاتلوها على إمدادات الأسلحة الروسية والتدريب العسكري.

 لكن اللافت هنا، مشاركة “داعش” في هذه الحرب ضد قوات الدعم السريع وانتشار مقاتليه الذين يبلغ عددهم بضع مئات فقط في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية في الخرطوم، في ما يمكن اعتباره تلميحاً إلى وجود رابط أو احتكاك غير مباشر بين القوات الأوكرانية الخاصة و”داعش” في السودان.

يشير تقرير أممي بتاريخ 25 تموز/ يوليو 2023 إلى أن أبو بكر العراقي، وهو زعيم تنظيم “داعش” في السودان، يموّل عملياته من خلال شركات صرافة ووكالات سفر وسياحة في تركيا مستغلاً النظام المالي التركي لتحويل الأموال، فيما يسعى إلى توسيع قاعدة عمليات التنظيم وزيادة أعداد مقاتليه. 

الرابط السابق غير كافٍ لحسم وجود علاقة فعلية بين أوكرانيا كدولة و”داعش” كتنظيم، بخاصةً أن بنية التنظيم وارتباطات قياداته تختلف من منطقة إلى أخرى، وبين حينٍ وآخر، تبعاً لأجندات الفروع التابعة له.

“داعش خراسان” وروسيا

يشهد “داعش” ازدهاراً في المناطق المنكوبة اقتصادياً واجتماعياً، بخاصة في مناطق آسيا الوسطى وإفريقيا، الأمر الذي يجعلها بيئات مناسِبة للتجنيد السريع وإحداث الفوضى الأمنية، فهو يؤمّن ظروف حياة أفضل خاصة للعمال المهاجرين المعرّضين لظروف اجتماعية قاسية، وظروف سكنية بائسة، واستغلال مضاعف في أماكن العمل. 

يسعى التنظيم الى تجنيد الأفراد الذين يتعرضون للعزل الاجتماعي لأسباب هوياتية مختلفة، فيشكّل العامل النفسي واستغلال مشاعر الحقد سلاحاً فعالاً بيده. هذا إضافة إلى العامل الأيديولوجي المتصل بقوة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية لمجموع السكان، فالتطرف الديني يتضاعف والهويات الأصولية تتعزّز في المناطق التي تتضاءل فيها مساحات الثقافة والفنون والتعليم العام والخدمات الاجتماعية الأساسية.

دخل تنظيم “داعش” مرحلة إعادة الهيكلة منذ مقتل أبي الحسن الهاشمي القرشي في 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2022 على يد الجيش السوري الحر. دُمج فرع “داعش ولاية خراسان” الذي ينشط في أفغانستان وباكستان بشكل أساسي، ضمن عمليات إعادة الهيكلة، مع فرع “داعش ولاية القوقاز”، وهو المسؤول عن تخطيط للعمليات ضد روسيا وتنفيذها، فهي تدخل ضمن النطاق الجغرافي لأنشطته.

 لكن اللافت، أن “داعش خراسان” كان قد بدأ باستهداف روسيا قبل اندماجه مع “داعش القوقاز”، إذ أعلن مسؤوليته عن التفجير الانتحاري الذي استهدف السفارة الروسية في العاصمة الأفغانية كابول في 5 أيلول/ سبتمبر 2022.

وبتاريخ 3 آذار 2024، وقعت عملية تصفية مسلحين تابعين لتنظيم “داعش” في جمهورية إنغوشيا الروسية، أي قبل أقل من ثلاثة أسابيع فقط على الهجوم الإرهابي الذي نفذه “داعش” في قاعة “كروكوس سيتي هول”. وقد أتت العملية في إنغوشيا رداً على مقتل ثلاثة وجرح عشرة من عناصر الشرطة الروسية بتاريخ 3 نيسان/ أبريل 2023، وذلك في اشتباك مع مسلحين من “داعش” بعدما حاولت اعتقالهم، وحينها تمكّن المسلحون من الفرار. 

ومن هنا، يمكن بسهولة دحض السردية الروسية التي تنفي وجود مصلحة مباشرة لـ “داعش خراسان” في تنفيذ الهجوم الإرهابي الأخير وحصر تلك المصلحة بأوكرانيا. فمن الواضح أن روسيا تقع ضمن نطاق عمليات “داعش خراسان”، وليس الهجوم الإرهابي الأخير أول احتكاك بين الطرفين.

“داعش”/ من الدولة المركزية إلى الإرهاب اللامركزي

من المؤكّد أن “داعش” الذي يسعى إلى بناء دولة مركزية أولاً قد انتهى، وأنه وفي طور إعادة هيكلته بدأ بالتوجه نحو النشاط اللامركزي بشكل أوسع بكثير، ومن المرجّح أن يوسّع دائرة استهدافاته لتشمل دولاً جديدة، بخاصة في القارة الأوروبية. 

ومن المرجح أيضاً، أن القوى الكبرى المتصارعة استخدمت تنظيمي “داعش” و”القاعدة” وفصائل إسلامية أصولية أخرى لمصلحتها تارةً، وحاولت سحقها بنفسها طوراً بعد انتهاء أدوارها بالنسبة إليها. لكن اتهام دولة بالتورّط بتنفيذ هجوم إرهابي في مكان ضد دولة أخرى، عن طريق “داعش” أو غيره، يفتح الباب أمام نظريات المؤامرة المتناقضة، ويتيح للتنظيمات الأصولية التلاعب على خطوط التناقضات الجيوسياسية بما فيه مصلحة مشاريعها المتطرّفة التي رأينا لمحةً منها عام 2013. 

لا يعني ضعف هذه التنظيمات انعدام وجودها بشكل مستقل، فهي تخدم مصلحة هنا أو هناك، ولكنها في نهاية المطاف تسلك اتجاهها الخاص. كما أن وجودها المستقل لا يعني زوال الأصابع الخفية لأجهزة الاستخبارات المتناحرة.

تعود كراهية الإسلاميين الأصوليين للروس إلى فترة الحرب السوفياتية في أفغانستان منذ العام 1979، مروراً بحرب الشيشان الأولى عام 1994، والثانية عام 1999، وصولاً إلى التدخل لمصلحة نظام الأسد في سوريا عام 2015، ثم انقضاض روسيا على مصالح “داعش” في إفريقيا وتعطيل مصادر أساسية لتمويل فروع التنظيم (في حين تنشط التنظيمات الإسلامية بشكل مكثّف وتحتل أراضي بشكل تدريجي في دول إفريقية مثل مالي والصومال والموزمبيق). 

هناك 45 عاماً من مشاعر الكراهية المتراكمة لدى الإسلاميين تجاه روسيا. لذا فإن استحضار الدافع المرتبط بالحقد والانتقام أمر منطقي، على رغم الأسئلة المرتبطة بالتوقيت والهدف، وهي أيضاً أسئلة مشروعة يطرحها الجانب الروسي، بخاصة أن الهجوم أتى فيما استخدمت روسيا والصين حق النقض (الفيتو) ضد مشروع قرار أميركي في مجلس الأمن الدولي. 

لا يمكن أيضاً أن نتجاهل استخدام روسيا (والاتحاد السوفياتي سابقاً) حق النقض 128 مرة، فيما استخدمته الولايات المتحدة الأميركية 85 مرة فقط، لذا فإن الرابط بين استخدام روسيا حق النقض والهجوم الإرهابي لا يبدو جديّاً، بخاصة أن روسيا (والاتحاد السوفياتي سابقاً) أمعنت في استغلال حق النقض في قضايا لا تقل خطورة.

يشكل اتساع رقعة الصراعات المسلحة والدموية حول العالم، الأرض الخصبة الفعلية لتنظيم “داعش” وغيره من التيارات الدينية الأصولية، إسلامية كانت أم غيرها. ومن الأجدى اعتبار الدول المتصارعة، في هذه الحالة، دميةً بيد “داعش”، وليس العكس، فالأخير يستثمر في الصراعات لكسب المال من جهة وتوسيع نطاق عملياته من جهة أخرى، وليس لديه ما يخسره، كما أنه لا يهتم لكل ما يقال في وسائل الإعلام الروسية والغربية على حد سواء.