fbpx

هل يساهم الرعاة في إنقاذنا من التغييرات المناخية؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تشغل المراعي أكثر من نصف أراضي البسيطة، ويكاد يستحيل العيش وإنتاج الغذاء من دون الرعي، الذي يلعب دوراً حاسماً في حماية البيئة وتنحية الكربون وتعزيز التنوع الحيوي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تحيل كلمة “الرعي” في أذهاننا الغارقة في حياة المدن وإسمنتها، إلى مجموعات من البشر الذين يعيشون حياة “بدائية” ويمارسون نشاطاً ينتمي الى ما قبل الحضارة.  يبدو مشهد الرعاة  في عصر الحداثة وما بعدها رومانسياً بالنسبة الى البعض، في ظل ضغوط الحياة المعاصرة، حتى أن البعض يرى في هؤلاء السائرين بماشيتهم وأغنامهم بشراً من خارج التاريخ والجغرافيا ومنطق العصر ودورة حياته. 

اللافت أن الدول لا تنظر إلى الرعاة بصورة رومانسية أبداً، ولا تحسدهم على إفلاتهم من الإيقاع السريع للحياة في مدينة عصرية، بل ترى في الرعي نشاطاً “بدائياً” يمارس في مساحات فقيرة عشبياً، يجب استصلاحها وتوطين هؤلاء “الهائمين” فيها للتحكّم بهم والاستفادة الأمثل منهم، أو إزاحتهم لصالح المستثمرين الزراعيين الكبار الذين ينتجون محاصيل موجّهة للتصدير.

تنشأ عن هذه النظرة سياسات غير مناسبة في كثير من الأحيان، كالاستصلاح العشوائي للأراضي، الذي يؤدي إلى هدرٍ فادح للجهود والموارد، وغيرها من السياسات التي تعجز عن التقاط جوهر نشاط الرعي وأهميته بالنسبة الى أنظمتنا الغذائية.

يمكن تتبع هذه السياسات “غير الملائمة” إن أردنا استخدام الوصف الأقلّ سلبيةً، في كتاب: “الماشية والمناخ وسياسيات الموارد” لإيان سكونز، الأستاذ في معهد دراسات التنمية في جامعة “سَسِكْس”، الكتاب الصادر هذا العام، ترجمة ثائر ومهيار ديب، عن منشورات المعهد العابر للقوميات (TNI) وشبكة سيادة .

يتناول الكتاب الصغير (70 صفحة) قضايا متعددة، كأهمية الرعي، واختلاف الرعاة عن الفلاحين، وأوجه الاختلاف بين الرعي والطرائق الحديثة لتربية الحيوانات، والعلاقة بين الرعي والتصحر، كما يناقش خطورة الاستيلاء على الأراضي بالنسبة إلى الرعاة، ومدى توافق المحميات الطبيعية والرعي، وكيف يدافع الرعاة عن بيئتهم وبيئتنا، وأخيراً يطرح سؤال، ما الذي نتعلمه من الرعاة؟

أوهام غاز الميثان: البقرة ليست سيّارة

تشغل المراعي أكثر من نصف أراضي البسيطة، ويكاد يستحيل العيش وإنتاج الغذاء من دون الرعي، الذي يلعب دوراً حاسماً في حماية البيئة وتنحية الكربون وتعزيز التنوع الحيوي، وهنا تأتي أهمية الكتاب، الذي يحاول تبديد الأوهام  الخاصة بأثر الرعي على غازات الدفيئة، عبر التفريق بين مزارع الماشية الكبيرة والإنتاج الحيواني الرعوي، الذي يتم في نطاقات شاسعة ويُعدُّ محايداً، بل وإيجابياً، تجاه المناخ.

يشرح الكتاب أن نظم الرعي تحاكي الحياة البرية، لذلك لا تضيف إلى إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة إلا قليلاً، وفي حين تنتج الماشية في مزارع الإنتاج الحيواني التي تتبنى النموذج الرأسمالي غاز الميثان بكميات كبيرة، كونها تقوم على الإنتاج المكثف ضمن بقعة جغرافية ضيقة للغاية (عنبر)، وتُجرى فيها تغذية المواشي بالأعلاف الصناعية المستوردة، وكأن الماشية آلات للإنتاج التي لا ترى ضوء النهار، تُعلف وتسمّن وتطلق الغازات ضمن نموذج لا إنسانيّ، يبحث عن الربح والكميات الكبيرة بعيداً من أي اعتبارات لحقوق الحيوان.

لا يتوقف الكتاب عند تبرئة الرعاة من وزر انبعاث غاز الميتان، بل ينقُض السردية البسيطة التي تتبناها منظمات حماية البيئة ومنتجو “الأغذية الصحية” وبعض الناشطين، الذين يدعون الى وقف إنتاج الماشية بجميع أشكالها، بهدف حماية الكوكب من الميثان الذي تنتجه الأبقار، والتي تصوَّر على أنها تعادل السيارات في مقدار التلوث الذي تسببه.

يبدد الكتاب أيضاً اللبس المحيط بـ”الأغذية الصحية”، التي  تركز على ضرورة خفض استهلاك اللحمة الحمراء في جميع أنحاء العالم، في تجاهلٍ سافر لوضع الذين لا يقدرون على تحمل تكاليف البدائل النباتية للحوم والألبان المنتجة صناعياً. إذ تشير الإحصاءات التي يقدمها الكتاب إلى لا واقعية هذه الخطابات وانحيازها الضمني للأغنياء، إذ تستهلك النخب الأكثر ثراءً أضعاف ما تستهلكه الغالبية الفقيرة من اللحوم.

ففي عام 2014، وصل استهلاك المواطن الأميركي من اللحوم الى 100 كيلوغرام في مقابل 5 كيلوغرامات فقط للمواطن الهندي على مدار العام، وتتعمق الفوارق على المستوى الوطني أيضاً لصالح أغنياء البلد الواحد على حساب فقرائه، الذين ي يُطالَبون بالتوقف عن لحوم لا يحصلون عليها إلا أقل بكثير مما يحتاجون.

الذين أخطأتهم التنمية

يُلام الرعاة باللائمة في كثير من الأحيان بوصفهم مشاركين في تدمير البيئة، وغالباً ما يقوم هذا الاتهام على فهم مغلوط للبيئة الصحراوية، إلى جانب التحيز الموروث ضد الرعاة منذ الحقبة الاستعمارية.

يورد الكتاب أبرز الأمثلة على إساءة الفهم تلك، وهي قضية التصحر، وهي قضية بارزة في الجزائر وفي منطقة الساحل الإفريقي وتثار أحياناً في مصر، إذ يسود اعتقاد أن الرعاة الذين يسكنون الأراضي الجافة هم السبب في تلك الظاهرة.

يتناقض ذلك مع الحقائق التي كشفها التصوير الضوئي بواسطة الأقمار الصناعية، إذ أثبت أن الأراضي الجافة كانت تتسع وتتراجع دورياً من دون أي تدخل بشري، في حين نجم التدهور البيئي حول أماكن الاستقرار ومصادر المياه عن تدخلات التنمية.

هذا الكشف للحقائق لم يؤثر على القناعات الراسخة والسائدة حول البقاع الجافة، فلا تزال الحكومات والنخب مهووسة باستصلاح الأراضي الجافة من خلال زراعة أشجار الزيتون وغيرها من الأشجار التي بات غرسها جزءاً من “المهمة الحضارية للتنمية”، ومشروعات التسويق السياسي.

وفي هذا السياق، كثيراً ما جرى النظر إلى المراعي على أنها “أراضٍ مقفرة” تنتظر إعادة تخضيرها على يد الحكومات، وذلك على عكس حقائق الأشياء، فهي “نظم بيئية مفتوحة”.

أبرز مثال على سوء الفهم الكبير الذي يورده الكتاب، والذي يتعلق بإعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مؤتمر قمة الكوكب الواحد لعام 2021، تمويل “السور الأخضر العظيم” في منطقة الساحل بمبلغ 14 مليار دولار أميركي.

ساد افتراض حالم حينها، أن غرس الأشجار على طول 8 آلاف كيلومتر وعلى مساحة 100 مليون هكتار من السنغال إلى جيبوتي، سيساهم بحسم في “دحر” تقدم الصحراء الكبرى، لكن المشروع الذي رُوِّج له كإنجاز تاريخي أصبح طللاً يستحِّثُ النيسان.

مثل هذه الجهود لا تبدد الأموال والجهد في غرس أشجار التي لا تتمكن من النجاة في الصحراء فحسب، بل تستهدف المراعي الطبيعية وتحولها إلى مزارع للتصدير، وبالتالي تهدد بشكل مباشر مصدر رزق الرعاة عبر الاستيلاء على أرضهم وتهميشهم باسم التنمية وحماية المناخ وغيرها من الشعارات.

كلفة سوء الفهم “العلمي”

في ضوء ما سبق، لا بد من طرح سؤال: كيف يمكن أن يخطئ الخبراء والمتخصصون أخطاءً بهذه الجسامة؟ وهو سؤال تكمن الإجابة عنه في التاريخ والسياسة، وفي شيءٍ من المحاججة العلميّة المضادة.

يرصد الكتاب ظهور “إدارة المراعي” في الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن العشرين، بناء على فهم خاص لعلم البيئة، واستندت إلى عمل فريد ريك كليمنتس الذي رأى أن النظم البيئية تمر على نحو طبيعي بمراحل مختلفة بما يمكن تسميته بـ”التعاقب التاريخي” تنتهي غالباً بغابة قديمة النمو ومغلقة.

تبنت إدارة المراعي هذه النظرية ومعها اعتقاد بالحاجة إلى ضبط أعداد الماشية على نحو دقيق للحيلولة دون تحول الغابات إلى أراضٍ عشبية، ودُرِّبت أجيال من مديري المراعي على اتباع هذه القواعد، وصُدّرت هذه الفلسفة عبر مشروعات استعمارية شتى إلى أفريقيا وآسيا.

المفارقة أن الاختلاف الكبير بين النظم البيئية في البلاد الحارة ونظيرتها من البلدان المعتدلة، أمر درسه إيان سكونز ووضحه جيداً، ففي البلدان الباردة تعمل نظرية “التوازن” أو “الحمولة الرعوية” من دون مشكلات كبيرة، إذ يتشابه المناخ في الفصول جميعها، وبالتالي تتحمّل المراعي العدد نفسه من الحيوانات على مدار العام.

لكن في البيئات “اللامتوازنة” بما فيها الأراضي الجافة والنظم البيئية الجبلية في العالم الثالث، هناك عوامل خارجية (مثل معدل الأمطار المتغير) تؤثر بشكل كبير على قدرة هذه البقاع في تحمّل الحيوانات، وبالتالي تختلف الحمولة الرعوية من فصل لآخر ومن عام لآخر، والشيء الأكيد أن الرعاة توارثوا وراكموا معرفة دقيقة بتغيرات السنوات والفصول عبر أجيالٍ متعاقبة.

قدم منظور “إيكولوجيا المراعي اللا متوازنة” فهماً أفضل لطبيعة تلك البقاع والنظم البيئية، فيما تحدى التصور الاستعماري عن الصلة بين الماشية وتدهور البقاع أو تصحرها، فضلاً عن تحديه النظرة الاستعمارية التبسيطية التي تهدف الى الاستقرار والتحكم، والأهم أنه ساهم في توضيح أهمية ممارسات الرعاة التقليدية القائمة على المرونة والتكيف والتنقل.

بديل البديل… البشر قبل الشركة 

هناك حديث لا ينقطع عن الأضرار الصحية لتناول مقدار كبير من اللحوم الحمراء، وهو أمر لا يمكن الجدال بشأنه، لكن الكتاب يحاجج بأن هناك قصوراً في معظم الأنظمة الغذائية النباتية، وأنه يمكن اللحوم والألبان أن تكون مصادر قيمة للغاية للبروتين عالي الكثافة بالنسبة إلى الفقراء.

 تزداد أهمية الحجة التي يطرحها الكتاب في ظل انتشار سوء التغذية وما يصاحبه من مشكلات صحية فادحة في أجزاء كثيرة من العالم، خصوصاً في أفريقيا وآسيا، فضلاً عن الحرمان من العناصر والفيتامينات الضرورية والتي تتوافر بكثرة في مصادر الغذاء الحيواني، ولا يمكن تعويضها إلا بكميات كبيرة ومكلفة من الأطعمة النباتية.

بالتالي، لا يمكن الحديث عن أفضلية النظام الغذائي بالمطلق من دون التطرق إلى انعدام المساواة الاقتصادية والافتقار إلى حيازة الأرض لإنتاج الغذاء في ظل توسع المزارع الرأسمالية المصممة لتصدير الغذاء، وصعوبة حصول صغار المزارعين على البذور، والتضييق على الصيادين أو باختصار غياب (أو ضعف) “السيادة الغذائية” بشكل عام.

تماشياً مع هذا المفهوم، ينتقد كتاب “الماشية والمناخ وسياسيات الموارد” النظم الغذائية التي تعتمد على إنتاج الغذاء من الشركات الكبرى والعابرة للقوميات، والتي تضع الربح في المقام الأول بغض النظر عن معاناة صغار منتجي الغذاء ومستهلكيه وحالة البيئة والمناخ وأي شيء آخر.

يُظهر الكتاب أيضاً انحيازاً لصغار منتجي الغذاء من الرعاة، الذين يعطيهم الأولوية في تحديد الأنظمة الغذائية الملائمة لهم لتوفير الغذاء للمجتمعات المحلية والقومية، ويدافع عن مصالحهم في الأرض والماشية، ويفند التصورات السلبية عنهم التي تدعي العلم بينما تحمي مصالح الشركات الكبرى.

لا يوافق الكتاب على  نظم إنتاج اللحوم المكثفة التي تركت تأثيراً سلبياً على حياتنا ومناخنا، وينسحب الانتقاد على “البدائل الصحية” ذات الأصل النباتي، التي تتجاهل السياقات البيئية والاجتماعية والسياسية للخيارات الغذائية ولا ترى إلا الميسورين القادرين على تبني نظام غذائي نباتي، ناهيك بحقيقة قيمتها “الغذائية” نظراً إلى العناصر الداخلة في تركيبها والمواد المضافة إليها، كما أن تأثيرها قد يكون أسوأ من إنتاج اللحوم الرعوية، نظراً إلى متطلبات الوقود الأحفوري في المصانع التي تنتجه.

لا تُقرِّبنا هذه البدائل  من نظام غذائي عادل ومتجدد، بل تكرِّس اعتمادنا على عددٍ صغير من السلع المنتجة صناعياً، وتعزز سيطرة الشركات على نظامنا الغذائي، وتبدد سيطرة الناس على الغذاء الذي ينتجونه ويتناولونه.

ذلك كله يجعل مسألة دعم الرعاة أمراً واجباً، فالبديل الحقيقي ليس مكافحة الإنتاج الحيواني الرأسمالي لصالح شركات الأغذية الصحية، بل البدء بالبشر واحترام نمط معيشتهم وثقافتهم ومعرفتهم المتوارثة وتجاربهم، والعمل مع نظم العيش المحلية القائمة، وليس تشويهها، بل تمكين الناس من السيادة على غذائهم وحياتهم.

رابط الكتاب على موقع سيادة