fbpx

“احتلال” من نوع آخر… أسماك قاتلة تغزو شواطئ سوريا ولبنان 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يفكر الصياد أحمد – الذي امتهن الصيد منذ سنوات عدة- جدياً بترك هذه المهنة، فإضافة إلى مشاكل التلوث والصيد بالديناميت، جاءت مشكلة الكائنات الغازية التي زاحمت الأسماك في البحر على الغذاء أو تغذت على صغارها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

انتشرت قبل مدة، أخبار عن وفاة عدة أشخاص في الساحل السوري بعد تناولهم وجبة سمك. يبدو هذا الخبر غريباً للوهلة الأولى، فكيف لوجبة محليّة أن تسبّب الوفاة، بخاصة في منطقة يمتلك سكانها ثقافة جيدة في الأسماك وأنواعها.

أرجع أحد سكان طرطوس، في حديثه لـ “درج”، سبب التسمّم الى نوع غازٍ وسامّ من الأسماك دخل المنطقة منذ فترة، والأسوأ أن التجار يعمدون إلى بيع الأنواع السامة على شكل شرحات “فيليه”، ما يجعل اكتشافها صعباً.

فما هي الكائنات الغازية أو الدخيلة؟ يُعرّف تقرير صادر عن مكتب معلومات البحر المتوسط للبيئة والثقافة والتنمية المستدامة (MIO-ECSDE)، هذه الكائنات بأنها كل النباتات أو الحيوانات أو الفطريات أو الكائنات المجهرية، التي تنتقل مصادفة أو بشكل متعمّد، عبر حدود بيئية وتستقر في مناطق خارج مجالها الطبيعي.

توضح الأستاذة والباحثة في المعهد العالي للبحوث البحرية في جامعة تشرين، الدكتورة ازدهار عمار، أن دراسات عدة أثبتت ازدياداً كبيراً في عدد الأنواع غير الأصلية، وتأثيرها على المجتمعات الأصلية في جميع أنحاء العالم.

وتابعت الدكتورة المهتمة بالأحياء البحرية، بأن البحر الأبيض المتوسط يعد منطقة مهمة لاستقبال هذه الأنواع البحرية، ويختلف توزّعها وانتشارها من بلد إلى آخر، وهي أكثر غزارة في الحوض الشرقي.

أضرار اقتصادية – بشرية

تؤثر بعض هذه الكائنات على غذاء الأسماك المحلية الموجودة أصلاً في المتوسط، بخاصة في دول مثل سورية ولبنان، حيث تعاني الثروة السمكية بالأصل من مشاكل عدة، مثل عمليات الصيد الجائر وانتشار التلوث بكل أشكاله.

يخبرنا أحمد، صياد سوري، أن الصيد في هذه الفترة لم يعد مُجدياً، فبعد ساعات من الوقوف وسط حرارة الجو المرتفعة، لم ينجح في الحصول إلا على القليل من الأسماك، وهو زاد يكاد يكفي حاجات أسرته ولا يغرّ للنزول إلى السوق وبيعه.

يمسك أحمد إحدى السمكات السمينة ويشير إليها بإصبعه: هذه السبب؟، ويشير الى أخرى ذات أشواك غريبة الشكل ويقول هذه أيضاً، موضحاً أنها أسماك غازية جاءت إلى المتوسط عابرة للحدود من خلال قناة السويس، وأنها شرهة تأكل “الأخضر واليابس”.

2018… بداية الغزو

تقدَّر هذه الكائنات الغازية بالمئات، وتوضح عمار، أنه في العام 2018 تم توثيق 957 نوعاً غير أصلي (NIS) في البحر المتوسط، وقد تجاوز العدد حالياً الألف نوع.

تشمل هذه الأنواع 13 مجموعة تصنيفية تهيمن عليها الأسماك والرخويات، تليها القشريات (سرطانات بحرية وأنواع من القريدس) والديدان الحلقية. وفي أحدث قائمة، بلغ عدد أنواع الطحالب الغريبة في البحر المتوسط 610 أنواع، بنسبة ارتفاع 20 في المئة خلال الأربع سنوات الأخيرة.

تلفت عمار إلى أنه “من المتوقع أن يكون لهذه الأنواع تأثير خطير ومهم على البيئة البحرية من الناحيتين البيئية والاقتصادية، وعلى التنوع الحيوي عبر إحداث تغيير في البيئة والتنافس مع الأنواع الأصلية”.

يُصنَّــف البحــر الأبيــض المتوســط، الذي يعد أكبر بحر قــاري فــي العالــم، مــن النقاط الســاخنة للتنــوّع البيولوجي البحري، إذ يضمّ أكثر من 17.000 نوع، خمسها من الأنواع المتوطنة، بحسب التقرير العربي للتنمية المســتدامة 2020.

يمسك أحمد إحدى السمكات السمينة ويشير إليها بإصبعه: هذه السبب؟، ويشير الى أخرى ذات أشواك غريبة الشكل ويقول هذه أيضاً، موضحاً أنها أسماك غازية جاءت إلى المتوسط عابرة للحدود من خلال قناة السويس، وأنها شرهة تأكل “الأخضر واليابس”.

دور الأنشطة البشريّة في “الغزو”

لا يختلف الوضع في لبنان كثيراً عن سوريا، فالشاطئان السوري واللبناني متاخمان لبعضهما البعض، ومسببات التلوث ووصول هذه الكائنات واحدة، يشرح الدكتور محمد عبدالله، من فريق “الجنوبيون الخضر”، أن دخول الأنواع غير الأصيلة أو الغازية، المباشر وغير المباشر، إلى مناطق جديدة، هو نتيجة للأنشطة البشرية. 

يتابع قائلاً  أنه في السابق، تم إدخال الكثير من الأنواع عمداً بسبب فوائدها الاقتصادية والبيئية وغيرها، بينما تم إدخال أنواع أخرى عن طريق المصادفة كمتجوّل أو ملوّثات.

وعند سؤاله عن سبب الحديث عن تلك الكائنات حالياً، يقول عبدالله إنه لـ”مدة 80 عاماً، كان البحر الأبيض المتوسط محمياً بحاجز طبيعي أنشأه الاختلاف في الملوحة بين بحيرات المرة والتمساح، والمياه العذبة من النيل، وكان لهذا الاختلاف وارتفاع نسبة الملوحة من دوراً في الحد من تنقّل هذه الأنواع وانتشارها. لكن في عام 2015، تم توسيع قناة السويس وتعميقها، ما أدى إلى إزالة هذا الحاجز الطبيعي، وسهّل بالتالي تنقّل الأنواع الغازية وعبورها من خلال القناة”.

يضيف أيضاً أن مياه التوازن الخاصة بالسفن أو ما يُعرف بالصابورة، تلعب دوراً في نقل هذه الكائنات، فهي تحمل صغارها ويرقاتها معها وتفرغها في منطقة أخرى.

يذكر أن الكائنات الاستوائية المستوطنة في المحيط الهندي وشرق إفريقيا وأستراليا واليابان،  بدأت بشق طريقها إلى البحر المتوسط في القرن التاسع عشر بأعداد ضئيلة وأنواع نادرة، لكنها بسبب تدهور تغيرات المناخ أخذت تضاعف أعدادها وتتزايد سنة بعد سنة.

الصيد… مهنة لم تعد مجدية

يفكر الصياد أحمد – الذي امتهن الصيد منذ سنوات عدة- جدياً بترك هذه المهنة، فإضافة إلى مشاكل التلوث والصيد بالديناميت، جاءت مشكلة الكائنات الغازية التي زاحمت الأسماك في البحر على الغذاء أو تغذت على صغارها.

غالبية الكائنات الغازية غير مفيدة اقتصادياً وحتى ضارة، إما لكونها سامة أو شرهة للغاية كحال سمكة الأسد، (موطنها الأصلي غرب المحيط الهندي).

 يوضح  عبدالله أن وجود هذه الأسماك يشكل تحدياً صعباً بالنسبة الى النظام البيئي البحري في لبنان، الذي أُضعف لعقود نتيجة الصيد الجائر والتلوث والتوسع العمراني العشوائي.

ويتابع أنه بالإضافة الى سمكة الأسد، تعتبر السمكة المنتفخة (نوع آخر من الأنواع الغازية) من الأسماك الشديدة السمية للإنسان، ويضيف: “تعد السمكة المنتفخة من الأنواع المفترسة العدائية، إذ يعُرف عنها تدمير شباك الصيد للوصول إلى ما بداخلها، وإذا تم صيدها في شبكة مع أسماك أخرى، تهاجمها وتسمّمها، ما يفسد المصيد بأكمله”.

شروط الغزو والاستقرار 

تقول د. ازدهار عمار إن الكائنات الغازية تنافس الأنواع الأصلية على المكان والغذاء وتحل محلها، بالإضافة الى تخريب الموائل والبيئات التي تنتشر فيها، وتغيير التركيبة الأحيائية للتجمّعات (فقدان أنواع وظهور أخرى جديدة)، وقطع السلاسل الغذائية البحرية.

تركز عمار على الآثار الاقتصادية، التي تتمثل بانخفاض كميات الأسماك من الأنواع المحلية، إذ تحل الغازية محلها في المصايد وشباك الصيد، ولا يستفيد منها الصياد لأن الكثير منها سامّ، كما هي حال سمكة البالون والسمكة البوقية وسمكة الأسد وسمكة القط، ناهيك بأن تأثير بعضها قاتل. 

تضيف عمار، “هناك أنواع سامة أخرى لها تأثير سلبي على السياحة والاستجمام، مثل قنفذ البحر الأسود طويل الأشواك Diadema setosum، وهو من الأنواع الغازية في البحر الأبيض المتوسط، التي تشهد حالة نفوق جماعي على سواحله”.

لا يقتصر الأمر طبعاً على مجرد عبور هذه الكائنات ضمن شواطئ المتوسط الشرقيّة، إذ تحمل لقب غازية لأنها تستقر، وساعدتها في ذلك التغيرات المناخية والتلوث الكبير في شواطئ سوريا ولبنان.

شروط الاستقرار التي سبّبها التلوث تتجلى في أن هذه الكائنات وجدت مياهاً دافئة شبيهة بتلك التي اعتادت عليها في البحر الأحمر، إذ ترتفع درجة حرارة منطقة البحر الأبيض المتوسط بـنسبة 20 في المئة أسرع من المتوسط العالمي،  مع توقع ارتفاع درجة حرارة البحر بمقدار 3.5 درجة مئوية في السنوات السبعين المقبلة، وفقاً لتقرير “خطة عمل البحر الأبيض المتوسط” التابع للأمم المتحدة.

وإضافة الى ارتفاع الحرارة، ساهم التلوث والسلوك البشري في توفير عوامل أخرى لاستقرار هذه الكائنات، إذ ذكر التقرير العربي للتنمية المســتدامة 2020، أن مشــكلة النفايــات البحريــة” تزداد، بما فيها الحطام البلاســتيكي في المنطقــة والعالــم، وتطــاول أضرارهــا التنــوّع البيولوجي. ففي البحر الأبيــض المتوســط وحــده، تؤذي النفايــات البحرية أكثر من 130 نوعــاً بحرياً. ويتابع التقرير أن البحــر الأبيــض المتوســط، الذي يضم ّ1 في المئة مــن ميــاه العالــم، يتلقى 7 في المئة من النفايات البلاســتيكية في العالم (0.57 مليون طن ســنوياً)، ما يُســفر عن تلوث السلاسل الغذائية والمياه، ويضرّ بالصحــة العامة”.

هل من حلّ لمُشكلة الغزو ؟

حلّ المشكلة ليس بالأمر السهل حالياً، إذ يوضح المحاضر في المعهد العالي للبحوث البحرية بجامعة تشرين، والاختصاصي في إدارة المصائد السمكية، الدكتور فراس الشاوي، أن الحل يبدأ من الامتناع عن استقدام كائنات أخرى عدوة لهذه الكائنات الغازية، والعمل على تحسين البيئة لتغيير الظروف وجعلها غير مناسبة لاستقطاب كائنات كهذه.

يشير الشاوي إلى بعض الحلول لـ”طرد” هذه الكائنات، “يمكن بدايةً عدم تفريغ المخلفات السائلة أو الصلبة في البحر، وعدم استخدام الديناميت، وإقامة مسابقات لصيد أكبر كمية من الأسماك السامة والغازية مثلما يحصل في إيطاليا، وتحديداً لسمكة أسد البحر أو سمكة البالون”. 

هناك حلول أخرى أيضاً، كإقامة مشاريع حيوية للاستفادة من هذه الأسماك السامة، كاستخراج مضادات لأمراض النباتات منها، كالمبيدات الحشرية،أو الفطرية، والبحث عن كائنات محلية لديها القدرة على تناولها كسمكة اللمبوكة، والتي تبين بعد تشريح أحشائها وجود صغار أسماك البالون داخلها.

يقول الشاوي، “لا بد من حماية أسماك اللمبوكة، وإجراء دراسة لتحديد أماكن تفريخ الأسماك الغازية و القضاء على أعشاشها، إضافة إلى إمكان توجيه السكان لتناول الأسماك الغازية بعد إجراء معاملات غذائية عليها. فمثلاً، تصبح سمكة أسد البحر، بعد قص الأشواك السامة منها، صالحة للأكل”.

يشرح عبدالله أن التحكم أو القضاء على الأنواع الغازية صعب تقنياً، وهو أمر معقد ومُكلف، بخاصة أن هناك مصادر وتحديات (كقناة السويس، التغير المناخي، الصيد المفرط…) تعرقل هذه المهمة. 

وفي رأيه، فإن كل ما يمكن فعله، إضافة إلى مساعدة الصيادين على احتواء تزايد أعدادها ضمن خطط أشمل ترعاها وزارة الزراعة بالتعاون مع وزارة البيئة، هو التكيف مع الواقع البحري المتغير، وإدخال الأسماك الأجنبية ببطء إلى النظام الغذائي المحلي، وإيجاد استخدامات للأسماك غير الصالحة للأكل، وهذا ما يقوم بفعله بعض الصيادين في لبنان.

نموذج محميّة صور

في لبنان، وتحديداً مدينة صور، توجد محمية طبيعية تحمل اسم المدينة نفسه، تمتاز بأنها تجمع تنوعاً بيئياً يضم الغطاء النباتي الأخضر والكثبان الرملية الصفراء والشاطئ البحري الأزرق، كما يستقطب شاطئها الرملي نوعين من السلاحف المهمة، ذات الرأس الضخم والخضراء المهددة بالانقراض.

تصل مساحة المحمية إلى 126.82 كلم مربع، متضمنة المياه الإقليمية، وهي تشهد خطة لاستمرارية حماية النباتات في نطاقها، والتي يزيد عددها عن 300 نوع. أنشئت المحمية عام 1998، وتم إعلانها منطقة “رطبة ذات أهمية عالمية” عام 1999 وفقًا لاتفاقية “رامسار” للمناطق الرطبة. 

وفي هذه المحمية، ينشط الدكتور علي بدر الدين، مدير المحمية، لبناء نوع من العلوم التشاركية مع الصيادين والغواصين وأبناء المنطقة من ذوي الخبرة في مجال الكائنات البحرية، والهدف من هذه العلوم تعريفهم بالكائنات المحلية والغازية. وبعد اكتساب المعرفة، يتعاون هؤلاء مع المحمية لإخبار القائمين عليها بأي نوع غاز جديد عثروا عليه.

يشرح الدكتور بدر الدين، أنهم يرافقون الصيادين والغواصين في جولات، الهدف منها مقارنة كميات الأسماك والكائنات الغازية مع المحلية.

ويوضح، “عند العثور على كائن غريب، تسعى المحمية الى القيام بالإجراءات المناسبة لمنع انتشاره في حال كان ضاراً، وكانت أعداده قليلة، ولكن عند تحقيقه الانتشار يكون من الصعب القيام بحلول في الوقت الحالي”.

يضيف بدر الدين، أنهم يشجعون الصيادين على صيد الأنواع القابلة للأكل، مثل سمكة الأسد ذات الطعم الشهي، وكذلك التوتيا، وهي سمكة غازية يمكن أكلها، وفي الوقت ذاته يحذرون البحارة من الأنواع السامة كالنفيخة. ولمزيد من التشجيع، تنظّم المحمية حفلات، تخصّص كل منها لصنف واحد فقط، بهذه الطريقة يشتري الناس هذا النوع ويتم تشجيع الصيادين لزيادة صيدهم، وبالتالي ينقذون الشاطئ.