fbpx

إغلاق “حديقة حيوان الجيزة”… أين “تتنفّس” الطبقة الوسطى في مصر؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

قبل أيام من إغلاق حديقة الحيوان، تمكّن عبد الرحمن وأسرته من إلقاء النظرة الأخيرة عليها، في رحلة كانت تشبه الوداع لطرقات الحديقة وأشجارها وحيواناتها أيضاً، فبحسب قوله، كل مشروع تأتي معه كلمة تطوير، تنتهي به الحال لتغيير معالم المكان وتحويله الى منطقة استهلاكية فقط، لا تضم اللون الأخضر.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

اتجه محمد عبد الرحمن كعادته اليومية من العمل الى المنزل، يمر على الطريق الذي اعتاد السير عليه يومياً، والذي تغيرت ملامحه عن السابق كثيراً، يبحث عن مكان يستظل به من الشمس، ليستكمل مشوار عودته الى المنزل، والذي يستغرق نحو 30 دقيقة سيراً على الأقدام، ليجد حوله محلات ومطاعم، لا وجود للأشجار أو الحدائق المفتوحة.

محمد عبد الرحمن، موظّف في إحدى الشركات بمنطقة مصر الجديدة، يبعد منزله من العمل مسافة قليلة لا تحتاج الى سيارة أو مواصلات، كان يحب هذه “الميزة” في الماضي، يقول: “من حوالي 3 أو 4 سنين كده والمنطقة دي كانت كلها أشجار وجناين، ممكن أي حد يقعد فيها ببلاش، زي حديقة الميريلاند، أو اللوتس، بس مع الوقت كل الأماكن الخضرا دي بتتشال، وتتحط مكانها محلات أكل وكافيهات، والمعالم بتغير، أنا فعلا مبقتش أحب اروح البيت مشي برغم إنها مسافة قريبة باخد تاكسي علشان بقيت حاسس إني ماشي في صحرا”.

ما يتحدث عنه عبد الرحمن، ينطبق على الكثير من أحياء محافظات مصر، فالمناطق المفتوحة والمساحات الخضراء تقل، بعدما كانت بمثابة متنفس لفئة كبيرة من أبناء الطبقة الوسطى، للتنزّه وتمضية الوقت، من دون الحاجة الى دفع مبالغ كبيرة كما يحصل اليوم من أجل الخروج إلى المتاجر الكبرى، أو المطاعم والكافيهات، آخر هذه المساحات، حديقة الحيوان بمحافظة الجيزة، والتي أُغلقت رسمياً أمام الجمهور في تموز/ يوليو الماضي، لمدة عام ونصف العام لتطويرها.

يسترجع عبد الرحمن ذكرياته مع الحديقة قائلاً، “دي كانت فسحة أساسية للأسرة كل أسبوع، التذكرة تقريبا ببلاش، وفيها جناين وحيوانات وكمان بقى فيها ألعاب للأطفال، كان ممكن نجيب سندوتشات من البيت ونقضي اليوم فيها واحنا والولاد ننبسط، دلوقتي مبقاش في أماكن للخروج ببلاش، يا إما مولات يا إما كافيهات، والأسرة اللي مرتباتهم يا دوب مكفياها بالعافية مش هتقدر طبعا تروح الأماكن دي”.

المتحدث باسم وزارة الإنتاج الحربي المصرية محمد عيد بكر، قال في بيان مقتضب، إن شركة الإنتاج الحربي للمشروعات والاستشارات الهندسية التابعة للوزارة استلمت كلاً من حديقتي الحيوان والأورمان في محافظة الجيزة، لبدء مخطط تطوير الحديقتين، ووفقاً للإعلان، فإن مخطط التطوير يضم إضافة حيوانات جديدة إلى الحديقة، وربطها مع حديقة الأورمان عبر تلفريك، مع تقسيم الحديقة إلى 4 قطاعات هي: المصرية والإفريقية والآسيوية والتجربة الليلية.

إبراهيم عز الدين، الباحث والمهندس المعماري، قال إن منطقة مصر الجديدة كانت تحوي ما يقرب من الـ 43806 أشجار في 2018، ليتقلص العدد الى 40507 أشجار في عام 2023، لتظهر المقارنة بين الفترتين انخفاضاً في عدد الأشجار في المنطقة خلال الفترة الزمنية المذكورة، يقدر بـ 3299 شجرة، مشيراً إلى أن تقليص المساحات الخضراء يؤثر سلباً على صحة الإنسان، فالأشجار تعمل على امتصاص الكربون الضار بالصحة، وتقليل درجات الحرارة صيفاً، ومع ذلك تواصل الدولة حملات مستمرة لقطع الأشجار، واستبدال المساحات الخضراء بأماكن استثمارية.

يوضح عز الدين، أن هذا الأمر يتعارض أيضاً مع القوانين الدولية، التي تفيد بأن متوسط نصيب الفرد العالمي من الأشجار والمساحات الخضراء لا يقل عن 15 متراً، أما حالياً فنصيب الفرد من تلك المساحات لا يتعدى السنتيمترات.

“دي كانت فسحة أساسية للأسرة كل أسبوع، التذكرة تقريبا ببلاش، وفيها جناين وحيوانات وكمان بقى فيها ألعاب للأطفال”

الجسور عوضاً عن المساحات الخضراء

لا تنظر الدولة الى تلك المساحات الخضراء، بل ينصب تركيزها الأكبر على المشاريع والأعمال الإنشائية، والتي تبرر دوماً من خلال بياناتها، بأن الهدف من تلك الأعمال الإنشائية مثل الكباري وتوسعة الطرق التي تتطلب قطع الأشجار، تقليل التكدّس المروري، إلا أنها لا تراعي أهمية الأشجار أو المتنزهات العامة سوى في المدن الجديدة فقط، والتي تستقطب طبقة محددة من الجمهور، وهي الطبقة العليا، وفي تلك المدن توفر الدولة مساحات خضراء ومتنزهات تتراوح ما بين 5 و20 فداناً.

ووفقاً لورقة بحثية أصدرتها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فإن القانون يضم نصوصاً لحماية المناطق الخضراء، ففي المادة 45 من الدستور المصري، تلتزم الدولة بحماية تلك المساحات وتزويدها، وتحظر التعدي عليها أيضاً، وتحافظ على حق المواطن للانتفاع بها. كذلك، اهتمّ قانون البيئة في مادته 27 بتخصيص مساحة في كل حي وكل قرية لا تقل عن 1000 متر من أراضي الدولة، على أن تكون مشتلاً لإنتاج الأشجار.

نبّهت الورقة إلى ضرورة قيام الحكومة بتطوير استراتيجيات القطاعات المختلفة لتحقيق التنمية المستدامة والتكيف مع آثار تغيّر المناخ. وأكدت أهمية تحديد الحكومة أهدافًا واقعية معلنة لنسب نصيب الفرد من المساحات الخضراء في المدن، والاستثمار في زراعة الأشجار، ولتوفير المساحات الخضراء، كإجراءات مُجدية ومنخفضة التكلفة لتخفيف الحرارة وتلوث الهواء في المدن.

الحرمان من التنزه

يتفق عز الدين مع عبد الرحمن على أن المساحات الخضراء هي المتنفس للطبقة الوسطى للتنزه، وهو ما تؤكده منظمة الأمم المتحدة، والتي تصف تلك المساحات بأنها مساحات توفر للناس فرصاً لزيادة ممارسة رياضة المشي وركوب الدراجات والانخراط في النشاط البدني في أوقات الفراغ. لذا، فإن الاستثمارات في حدائق المدن والمساحات الخضراء والممرات المائية تمثل وسيلة فعالة واقتصادية لتحسين الصحة والتخفيف من آثار تغير المناخ على حد سواء.

ووفقاً لورقة أعدها باحثون من جامعة القاهرة، درست أكثر أحياء القاهرة احتياجاً لزيادة المسطحات الخضراء للتخفيف من أثر موجات الحرارة، تبيّن أن كل أحياء القاهرة تفتقر الى الحد الأدنى من الغطاء الأخضر. وعن طريق دراسة درجات الحرارة القصوى، والكثافة السكانية، والفئات الأكثر هشاشة، من السكان الأكبر من 65 سنة، والأطفال تحت 5 سنوات، ومستويات الفقر في كل حي، كانت النتيجة أن 13 من أصل 46 منطقة في القاهرة معرضة لمخاطر مرتفعة أو مرتفعة جداً من التعرض لموجات الحرارة.

في عام 2019، أعلنت الدولة المصرية عن مشروع ضخم لزرع نصف مليون شجرة، ليقابل هذا المشروع بحملة كبرى لقطع الأشجار، ولم يقتصر الأمر على الحدائق في الشوارع، ولكنه امتد الى الحدائق المسورة أيضاً، لينفي بذلك ما تردده الدولة دوماً بأن الأمر يتم ضمن خطة “تنمية” لمشروعات تقضي على الزحام وتقلّل من التكدس المروري.

ورغم أن هناك أسساً ومعايير للتنسيق الحضاري للمناطق المفتوحة والمسطحات الخضراء، معتمدة من المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية العمرانية، طبقاً للقانون رقم 119، والتي تؤكد أن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في المدن القائمة يجب أن يكون 7 أمتار، وفي المدن الجديدة 15 متراً، وفي القرى ما بين 3 الى 5 أمتار، إلا أن الدولة لا تراعيها عند تجريف تلك المساحات، ولا تنظر إلا الى الاستثمارات أو المشاريع التي قد تجلب ربحاً فقط.

بالعودة الى عبد الرحمن، وهو أحد أبناء الطبقة الوسطى، فهو يقول: “الدولة مبتفكرش فينا الحقيقة، احنا اقصد الناس العادية غالبية الشعب اللي مش معاه فلوس يروح مدينتي ولا التجمع، فتلاقي حتى خضرا الناس تفرح فيها تقوم قلباها مطعم، هو فعلا محدش بيشوف إن المكان المفتوح اللي ببلاش ده خروجه بتخلي أسرة كاملة سعيدة، أب وأم يشموا شوية هوا معاهم عيالهم بيلعبوا حواليهم وجايبين معاهم أكل واهوه يوم خلص من غير تكاليف، أنا فعلا مش فاهم إيه اللي يضر الدولة في كده”.

يؤكد حديث عبد الرحمن، بحث نُشر للباحثين نزار كفافي وحسام فتحي، مدرسا الهندسة العمرانية بجامعة القاهرة في عام 2019، في المجلة الدولية للتنمية والاستدامة، عن أهمية المساحات الخضراء، وما تمثله من سعادة لزوارها، إذ يتردد عليها ما يقرب من 95 في المئة من سكان مدينة القاهرة. ويتابع عبد الرحمن، “أنا مش بتاع اقتصاد، بس قدام بعد شوية سنين الدولة هتدفع تمن ده، هيبقى في خسائر ما هو أكيد الحدائق إزالتها هتأثر على صحتنا وعلى إنتاجنا في الشغل، وغير اللي بنسمعه في الاخبار كل شوية عن التغير المناخي اللي ممكن وجود أشجار يساهم في الحد من أضراره”.

قبل أيام من إغلاق حديقة الحيوان، تمكّن عبد الرحمن وأسرته من إلقاء النظرة الأخيرة عليها، في رحلة كانت تشبه الوداع لطرقات الحديقة وأشجارها وحيواناتها أيضاً، فبحسب قوله، كل مشروع تأتي معه كلمة تطوير، تنتهي به الحال لتغيير معالم المكان وتحويله الى منطقة استهلاكية فقط، لا تضم اللون الأخضر.