fbpx

محمود عباس يشكّك في الهولوكوست…
والقيادة الفلسطينيّة تهاجم المثقفين

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

بدا هجوم السلطة دلالة على انفصام القيادة السائدة عن شعبها وقضاياه، وعن الواقع، والتاريخ، بالنظر الى انهماكها بترسيخ سلطتها على الشعب، على حساب حقوقه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بدا مشهد الهجوم الذي شرعته القيادة الفلسطينية الرسمية، على بيان من فقرتين، لمثقفات ومثقفين وناشطات وناشطين فلسطينيين في معظم أماكن وجود الشعب الفلسطيني، سريالياً وتراجيدياً وعبثياً في الوقت ذاته.

فقد وقّع عشرات الأكاديميين والمثقفين والناشطين اعتراضاً على خطاب ألقاه محمود عباس في اجتماعات المجلس الثوري أخيراً، وأحال فيها محارق الهولوكوست الى سلوكيات اليهود في أوروبا. بيان المثقفين أدان بشدة موقف عباس، وقد ورد فيه: 

“الشعب الفلسطيني مثقل بما فيه الكفاية بالاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والسلب والاحتلال والقمع من دون أن يضطر إلى تحمل التأثير السلبي لمثل هذه الروايات الجاهلة والمعادية للسامية بشدة، والتي يديمها أولئك الذين يزعمون أنهم يتحدثون باسمنا. ونحن مثقلون أيضاً بالحكم الاستبدادي والقاسي المتزايد الذي تمارسه السلطة الفلسطينية، والذي يؤثر بشكل غير متناسب على أولئك الذين يعيشون تحت الاحتلال”.

وسريعاً، بدأت آلة دعاية وإعلام تابعة للسلطة في شنّ حملات تخوين وتحريض ضد موقّعي البيان. 

بدا هجوم السلطة دلالة على انفصام القيادة السائدة عن شعبها وقضاياه، وعن الواقع، والتاريخ، بالنظر الى انهماكها بترسيخ سلطتها على الشعب، على حساب حقوقه.

للتذكير، وللحقيقة، فإن مركز الخلاف مع القيادة السائدة يتعلق بانزياح أو تفكيك تلك القيادة الرواية الوطنية الجامعة المؤسسة للوطنية الفلسطينية، بنقلها السردية الفلسطينية من ملف النكبة 1948 (إقامة إسرائيل وولادة مشكلة اللاجئين) الى ملف استقلال الأراضي التي احتلت عام 1967، والتي لم تكن محتلة أصلاً عندما تأسست منظمة التحرير وحركة فتح (1965).

ومعلوم أن تلك القيادة باتت تعتبر أن الصراع هو مع إسرائيل التي تحتل أراضي الدولة الفلسطينية (راجعوا مقررات الدورة 23 للمجلس الوطني ومقررات المجالس المركزية، وراجعوا أيضاً رسائل الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، وراجعوا بنود اتفاق أوسلو التي لم تعرف إسرائيل كدولة احتلال ولا الضفة وغزة كأراض محتلة وكله فقط مقابل ترسيمها كسلطة فلسطينية على الشعب وليس على الأرض والموارد والمعابر)، أي أن الحديث يجري عن سلطة تحت الاحتلال، وتشتغل وفق التنسيق معه أمنياً واقتصادياً وإدارياً ومالياً، بل إن تلك القيادة باتت توصم الكفاح الفلسطيني بالإرهاب، وتنبذه، بحسب رسائل الاعتراف المتبادل من دون أن تذكر الإرهاب الإسرائيلي ومن دون أن تطالب بالإفراج عن المعتقلين ومن دون حتى أن تفرض شرط وقف الاستيطان، لدى حماستها لإقامة السلطة (1993)، والتي كان الرئيس محمود عباس الأكثر حماسةً لهذا الاتفاق الذي انطوى على المصالحة مع الرواية الصهيونية.

أيضاً الخلاف مع تلك القيادة يتعلق بتحويلها الحركة الوطنية الفلسطينية من كونها حركة تحرر وطني الى سلطة مهيمنة تقيد تطور شعبها وكفاحه السياسي، سلطة همشت وضيعت منظمة التحرير، الكيان الجامع لشعب فلسطين، وأشاعت الفساد والمحسوبية لتوسيع قاعدتها الشعبية مع عشرات ألوف المتفرغين في مختلف الكيانات والمؤسسات، من ضمنهم مثقفون لا شغل لهم سوى الدفاع عن الخيارات البائسة لقيادة فاشلة.

وبالتأكيد، فإن ذلك الخلاف يشمل افتقاد النظام السياسي الفلسطيني العلاقات الديمقراطية والمشاركة السياسية، بدلالة بقاء محمود عباس رئيساً للسلطة وفتح وللمنظمة، منذ 18 عاماً، ورفضه الذهاب الى انتخابات، وحله مجلس القضاء الأعلى، والمجلس التشريعي، وتغييبه المجلس الوطني الفلسطيني، رغم أنه صاغه كما صاغ السلطة وهيئات فتح القيادية على قياسه وبحسب مزاجه.

بدا مشهد الهجوم الذي شرعته القيادة الفلسطينية الرسمية، على بيان من فقرتين، لمثقفات ومثقفين وناشطات وناشطين فلسطينيين في معظم أماكن وجود الشعب الفلسطيني، سريالياً وتراجيدياً وعبثياً في الوقت ذاته.

في هذه الإطارات، أتى الاعتراض على إطلاق خطابات واهنة ومضرة ولا داعٍ لها، تعود الرئيس إطلاقها، مثل أنه من صفد لكنه لا يريد العودة إليها، وأن اللاجئين الفلسطينيبن في سوريا والأردن لن يطبقوا حق العودة.

وكذلك، زلة لسانه المشهورة بخصوص الصين ذات مرة في اجتماع قيادي، وفي مقاربته المسألة اليهودية في أوروبا بطريقة تثير الشبهات حول مسؤولية النازية، كنظرية عنصرية ضد اليهود والعرب والغجر والشرائح الضعيفة. فما هو الغرض أو ما هي الرسالة التي توجهها حركة وطنية تتوخى الحقيقة والعدالة (بحسب تعبير إدوارد سعيد) الى العالم؟ وما هي الرسالة التي تقدمها حركة وطنية عمرها 58 عاماً، مع تجربة ثرية وباهظة لشعب يضم أعلى نسبة من الأكاديميين والمتعلمين مع رئيس يتشبثّ بالسلطة ويتمسك بعناده وهو في أواخر الثمانينات؟!

أمر سريالي جداً وهزلي جداً وانتهازي جداً، أن ترد تلك القيادة وبعض مثقفيها على بيان من فقرتين يأخذ على الرئيس تصريحاته الخفيفة وغير المسؤولة. وفي هذا الأمر، تحدث صبري جريس، الذي شغل منصب مدير مركز الأبحاث الفلسطيني (1978-1993) وهو حجة في تاريخ اليهود وإسرائيل، بخطأ الرئيس، الذي كان اعتذر عن مثل ذلك التصريح إبان لقائه المستشار الألماني شولتز في برلين قبل أشهر، بادعاء أن التصريحات أُخرجت من سياقها.

باختصار، ليس لموقّعي الوثيقة أي مطمح، أو أي امتياز، أو أي غرض شخصي، من مواجهة القيادة الفلسطينية وعلى رأسها أبو مازن، فهم مستقلون، ويعيشون من كدهم في عملهم، كأساتذة في الجامعات وكباحثين في مراكز دراسات وككتاب في الصحف والمجلات، وكعاملين في مهن مختلفة، لاهم لهم سوى الدفاع عن مصالح شعبهم وحقوقه الوطنية وعن كفاحه وتضحياته، بمعزل عن أية عصبيات فصائلية أو حزبية، ومن دون الالتفات الى رضى أحد. لا الرئيس، ولا هذا القيادي أو غيره، لذا من السريالي والهزلي أن تكون تلك القيادة، وأي من مشيعيها، هي مصدر الوطنية، أو مصدر منح هويات نضالية لآخرين، وهي التي طوحت بالرواية الوطنية الجامعة والمؤسسة لوحدة شعب فلسطين، وعملت كل شيء لإضعاف البني الوطنية الفلسطينية، ورسخت علاقات الفساد والاستزلام والمحسوبية فيها. هذه القيادة تحتاج الى النقد والى المحاسبة والتغيير.

المؤسف أن الفساد السياسي في السلطة ولّد فساداً في الطبقة المثقفة، الملحقة بها، ما يفسّر هبوط الثقافة الفلسطينية، وتخلّيها عن طابعها كثقافة تتطلّع الى الحرية والعدالة والمساواة للفلسطينيين ولغير الفلسطينيين. والمؤسف، أن تلك القيادة بردها على بيان المثقفين تمعن في الفصل بين السياسة والثقافة، ومحاولة فصل الشعب عن مثقفيه الذين يتمثلون مصالحه وحقوقه وسلامة مسيرته الكفاحية وضمان عدم تبديد تضحياته.

ثمة ملاحظة هنا للرئيس والقيادة وتابعيهم، بأنكم أنتم الذين روّجتم لأوهام التسوية والمصالحة مع إسرائيل، وركنتم وراهنتم على أن الولايات المتحدة راعية وضامنة لعملية السلام، وراهنتم على إسرائيل بأنها ستعطي دولة في ٢٢ بالمئة من أرضنا، وأنتم الذين راهنتم على الأنظمة العربية. في المقابل، كان معظم الموقعين على البيان، الذي أثاركم، يحذرون من تلك الأوهام، ومن آثارها الخطيرة على قضيتنا وشعبنا وحركتنا الوطنية، فلا تحمّلوا أحداً مسؤولية أوهامكم، وإخفاقاتكم وخطاباتكم القاصرة والمشينة، ولا تتبجحوا بعدما وقع الفاس بالراس، وبعد شلّكم أوراق القوة الفلسطينية، فما هو بديلكم؟! علماً أن الفلسطينيين في الأراضي المحتلة كانوا قبل إقامة السلطة أكثر قوة ووحدة وتتحرراً في مقاومتهم إسرائيل عنهم بعد إقامتها للأسف.

مسألة أخرى لم أؤيدها ولم آتِ على ذكرها سابقاً، إذ طالما حذرت من خطابات التشكيك والاتهام والتخوين التي انصبت على القيادة الفلسطينية بسبب الخيارات التي ذهبت إليها، وضمنها الاعتراف بإسرائيل وأوسلو والتنسيق الأمني، فكأن تلك القيادة ومشايعيها يضفون اليوم شرعية على ذلك النهج المضر لحركة وطنية يفترض أن تغتني بالحرية والنقد والرأي الآخر. 

أيضاً، كيف لتلك القيادة التي كابدت كثيراً من تلميحات واتهامات الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لها، إبان حصاره في مقره في رام الله (2003-2004)، وتحريضه عليها بتشبيهها بحالة كرازاي وبناية العار، ما أدى بمحمود عباس رئيس الحكومة الفلسطينية المعين وقتها (بضغط أميركي) الى الإعلان عن استقالته بسبب ذلك (والقصة معروفة وكتاب الاستقالة وسببها منشور في مجلة الدراسات الفلسطينية)، أن تقوم من دون أي خجل بإشهار خطاب العار الذي ألبس لها سابقاً؟ أية خفة وأية انتهازية وأي انعدام مسؤولية هي تلك الفعلة المشينة؟

في المقابل، نلاحظ أن النقد الإسرائيلي لإسرائيل أكبر وأقسى كثيراً من النقد الفلسطيني للقيادة الفلسطينية في مواقفها وخياراتها وطريقتها في العمل، مثال ما يكتبه أمثال إيلان بابيه وأبراهام بورغ وعميره هس وجدعون ليفي وأمنون راز وشلومو ساند وإسرائيل فرنكشتاين وإيلا شوحط، ومنظمة بتسيلم، من دون أن تشهر بوجه أي من هؤلاء اتهامات من أي نوع، رغم أنهم يفضحون السياسات الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية لإسرائيل، ورغم حديث بعضهم عن نازية وعن فصل عنصري تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني.

الاستنتاج الأساسي هنا، هو أن العطب والفشل الفلسطينيين لا يقتصرا على السياسة والخيارات والخطابات والكيانات السياسية، فقط، فذلك يشمل أيضاً ضياع القيم، وغياب الضمير الأخلاقي للطبقة السياسية المهيمنة، كما يشمل محاباة الشخص “القائد”، رب العمل، صاحب الدكانة، شيخ القبيلة (الفصيل)، والخضوع لأهوائه وخياراته، في سيادة عقلية النظام التسلطي، في غياب الحوار، وتحريم الرأي الأخر، وتجريم النقد وافتقاد الحراكات الديمقراطية في الكيانات السياسية، ومحاباة نظم الاستبداد. 

هكذا أخذنا الى مفاوضات سرية في أوسلو، هكذا ضاعت منظمة التحرير، هكذا تم تبديد تضحيات وتجرية وطنية عمرها 58 عاماً. وهكذا وصلنا إلى هذه الحال من التدهور السياسي والأخلاقي أيضاً، الى درجة بات يصح معها القول بأن أي تفكير جديد، يجب أن يتأسس على وحدة الشعب والأرض والقضية، وأن ينبني على القطع مع تلك التجربة، لأنه مع البقاء فيها سنبقى في “المغطس” ذاته.

باختصار، القضية الفلسطينية ليست قضية أرض فقط، فهي قضية نبيلة، وهي معنى للحرية  والكرامة والعدالة، والثقافة هي كذلك أيضاً، فلا تقتلوا هذا المعنى.