fbpx

في فلسطين… مستوطنات أشجار من غير هذه البلاد

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

منذ بداية الهجرات اليهودية الى فلسطين في أواخر العصر المنصرم، جُردت الجبال من نباتاتها الأصلية لتُستبدل بأصناف دخيلة. وبذلك، جنّد المستعمر الطبيعة واستعملها كسلاح لمحو الذاكرة المكانية والزمانية للبلاد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في فلسطين معالم جغرافية متنوّعة، إذ يقسم سطح البلاد بين سهول ومرتفعات جبلية، ووادي الأردن والأغوار، وصحراء النقب، هذا ما تعلمناه في المدارس. في الحقيقة، هوية الفلسطيني ومكان ولادته يحددان أياً من هذه التضاريس يألف. وبينما لم نُحرم، في الضفة الغربية، من رطوبة البحر المتوسط، منعنا المستعمر من الوصول إليه.

رغم ذلك كله، تصطفّ السيارات في بقعة معينة في حي الطيرة برام الله، ليحدق العشرات بين الجبال، باحثين عن خط أفق البحر المخفي وراء السحاب وأنوار المستوطنة، ليقولوا سوياً “وااال، شايف البحر قديش قريب؟”.

في الضفة الغربية، سُلب من الفلسطيني حقه بالتنقل في البلاد والوجود في الحيز العام. حينما أحاطت الحواجز مداخل القرى والمدن، وغُرست أعلام المستعمر في الشوارع لترفرف بين الغيوم كأسراب من الغربان، توجّهنا الى الجبال. ولعل الخشية من “اللامعروف” هي أصعب الهواجس: “ممكن يعملوا حاجز، ممكن يهجموا مستوطنين، ممكن اعلق ساعتين، ثلاثة، خمسة، عشرة، في الطريق”.

“من صحراء الى جنة”

منذ بداية الهجرات اليهودية الى فلسطين في أواخر العصر المنصرم، شجع الصندوق القومي اليهودي المستوطنين على زراعة الأشجار في وطنهم الجديد، بهدف تغيير مشهد فلسطين الطبيعي ليصبح أكثر وئاماً مع الرواية الصهيونية، فجُردت الجبال من نباتاتها الأصلية لتُستبدل بأصناف دخيلة. وبذلك، جنّد المستعمر الطبيعة واستعملها كسلاح لمحو الذاكرة المكانية والزمانية للبلاد.

من أهم الأمثلة على ذلك، مشاريع التشجير التي أنشئت على أنقاض القرى الفلسطينية المهجرة في مدينة القدس بهدف تزييف تاريخ المدينة وتهويدها. فزرع المستعمر الصهيوني الشجر الأوروبي، كالصنوبر والسرو، في أراضي المدينة المقدسة، وهي أشجار سريعة الاشتعال، ولا تتلاءم مع المحيط الإقليمي. فعبر تغيير ملامح المدينة، تصبح الأرض الكنعانية أكثر ألفة لمستوطنيها الأوروبيين. فإن وقفت أشجار البلوط والخروب والزعرور بوجه المستعمر، لكانت قد نفت رواية يتم الأرض الأزلي، ودحضت خرافة تحويلها من صحراء قاحلة إلى جنة مصغرة.

شكّل هذا التداخل مشهداً طبيعياً مشوّهاً، لا هو بالفلسطيني، ولا بالأوروبي. وفي عام 2021، انتفضت الأرض، وأضرمت النيران بنفسها ثائرة على حلّتها المشوّهة. وعقب خمود ألسنة النيران التي اندلعت فوق 25 ألف دونم من الأرض، كُشف النقاب عن سناسل زراعية بناها فلاحون فلسطينيون قبل نحو أربعة عقود.

لم يقتصر استعمار المشهد الحضري على ذلك، فانتهج المستعمر أساليب عدة لتحقيق مسعاه على مستوى البلاد، مثل إعلان المحميات الطبيعية على الأراضي الفلسطينية، وقرارات الاستملاك ومصادرة الأراضي، وتوسيع المشروع الاستيطاني. ووفقاً للتقرير السنوي لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان لعام 2022، يبلغ عدد المستوطنين في الضفة الغربية وشرقي القدس 726 ألفاً و427 مستوطناً في 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية. وبينما زرع المستوطن الأراضي بزعم “تخضيرها”، لم يتردد في اقتلاع أشجار من أراضي الفلاحين الفلسطينيين وانتهاك حرمتها.

“لن يلمس التاريخ ولو كان عرافاً”

قبيل وفاته في عام 2002، وبينما كان يصارع المرض العضال، قرر حسين البرغوثي العودة من المهجر ليلتقط آخر أنفاسه في مسقط رأسه بجبال قرية كوبر في ريف رام الله. وهناك، أرشف سيرته الذاتية في كتاب “سأكون بين اللوز”، مجيباً عن كل ما راودني من أسئلة حول المفارقة ما بين “علاقتنا” و”علاقتهم” بالجبال.

“خطرت على بالي “ذاكرة المكان” هذه، وأنا واقف فوق الخرائب. غرباً، في قمة جبل مغطى بغابات صنوبر وسرو وبلوط، تشعّ أضواء النيون من مستعمرة إسرائيلية تدعى “حلميش” عندهم، و”مستعمرة النبي صالح” عندنا. أضواء باردة، وكاشفة، ومحاطة بأسلاك شائكة. وبدت المستعمرة معلقة في الفضاء، ربما بسبب الضوء أيضاً، ولم تلمس الأرض، ولا التاريخ، بعد.

ماذا يرى مستوطن جاء من روسيا أو إستونيا، ربما، قبل سنة فقط، حين يفتح الآن شباكه، ويحدق في هذه الجبال نفسها التي أنا فيها؟ ماذا يرى، أو يدرك من هذه الجبال التي تسبح في تاريخها وتبزغ منه؟…  لن يلمس التاريخ، ولو كان عرّافاً، ليس تاريخي أنا، على الأقل، ولو كان إلهاً”.

بالقرب من مقام رجل صالح لُقب بسيدنا أبو العينين وشجرة قيقب يزيد عمرها عن 1500 عاماً في قمة جبلية تشرف على قرية عين كينيا، رأيت مقابلي معالم القرية والمستوطنة المجاورة لها. في تلك الليلة الربيعية الباردة، دارت في بالي مجابهة بين الكيانين. بحضورها الفظ، تذكرنا المستوطنة بأن شعور الحرية وهمي، أشبه بمسرحية من وحي الخيال، حتى وإن جلست وسط الجبل. أما الجبل، فهو ليس بمتواطئ ولا براض. 

تتمثل المفارقة بين الفلسطيني والمستوطن بهذا المشهد القاسي، والذي يصفه البرغوثي في كتابه “وأنا واقف فوق الخرائب تلك، شعرتُ بفَرقٍ شاسع بينَ نوعين من “الضوء”: القمر والنيون في المستعمرة. كان الأخير مُرتّباً، ومهيمناً، حادّ البياض، منتشراً حتّى وراء الأسلاك الشائكة، التي تعزلُ كلّ مستوطنة عن محيطها، أشبه ما يكون بـ “رؤيا مسلّحة” باحتلال بصريّ، ومعمار ضوئيّ لدَولة تهذي حتّى في منامها برؤى مسلّحة ومضاءة بالنيون. وبدَت المستعمرة كلّها كتاباً في النفس أيضًا: في العلاقة بين “القوة” و “الضّوء” لم يدرس أحدٌ بعد العلاقة بين القوّة والضّوء!”.

دفء الجبل يواسيني

أمسى الجبل عالماً سحرياً، مأوى لكل من لم يجد لنفسه مكاناً في هذا الكون. عندما أغلقت المحلات والمقاهي خلال جائحة كورونا، وجد الفلسطيني ملاذاً له في الجبال، حتى أصدر “فرمان” يمنع التوجه إليها، ما أجبرنا على إيجاد طرق ملتوية للوصول. شخصياً، لم أضطر للبحث طويلاً، أو بعيداً، لتحقيق هذا المنال. ففي عمق الوادي القريب من منزلي، كان هناك مسار ضيق ووعر يؤدي إلى “حديقتي السرية”. زرتها مرات معدودة، والتقطت من أرضها الخبيزة، وورق الزعمطوط، واللوف لنطبخها، حتى رجتني أمي أن أتوقف لما جلبته هذه النباتات البرية من أعمال شاقة.

دُمر المسار المؤدي الى الحديقة السرية، وحلّت محله عمارة سكنية، وفقدت فردوسي المؤقت، فحين تصعب الحياة، وتكثر الهموم وتفوح رائحة الموت، يهرب الفلسطيني إلى الجبل. وحين يلاحقه المستعمر، يختبئ بين طياته، أم تحمي أولادها من جبروت الجلاد. الشعور بالحرية نادر في هذه البلاد. إلا أني، ومن غير سابق إنذار، أحسست به لوهلة فانية. بين الصخور والأشواك والعقارب، نظرت أمامي لأرى أفقاً لا نهاية له ولا بداية، وأدركت في تلك اللحظة أن بإمكاني المشي الى الأبد، فالحدود وهمية والجبل لا نهائي.