fbpx

عن حركة النهضة ومأسسة الاستبداد لدى الغنوشي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

يحتدم الصراع في تونس بين الرئيس قيس سعيد وحركة النهضة. وهذا الصراع يكشف عن مفارقات جمة وتعقيدات متفاوتة تحت وطأة أعباء جيوسياسية واستحقاقات سياسية ومجتمعية. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

الوقائع المختلفة تكشف عن أزمة عنيفة، بنيوية وسياسية، تضرب هياكل “الحركة الإسلاموية” برئاسة راشد الغنوشي، إذ تعاني من ضعف الإطار الأيديولوجي، ووهن في صفوفها التنظيمية، بما تسبب في تآكل قاعدتها الانتخابية رغم محاولاتها التخفيف من حمولات أيديولوجية تتصل بالهوية الإسلامية والدخول في تحالفات براغماتية لجهة عدم الصدام. 

ذلك التحوّل التكتيكي المؤقت والذي نفذته النهضة بإعلان “فصل الدعوي عن السياسي” عام 2016، سرعان ما سقط بعد مرحلة “التمكين”، وقد أدارت ظهرها لحلفائها، بل وخطابها الذي عنى بالإصلاح الاجتماعي والاقتصادي سابقاً. وفرضت الاستقطابات المختلفة الهوياتية والدينية ذاتها في الصراع للتعمية على إجراءات ملحة تقصم ظهر المجتمع وفئاته الوسطى والفقيرة. 

طابع اللامساواة الذي فاقم الوضع الحقوقي والاقتصادي والطبقي بعد تنفيذ توصيات صندوق النقد ومآلاته على تجميد التوظيف في القطاع العام، ثم خفض دعم الوقود وزيادة أسعار الكهرباء، فاقم من الصراع وسمح لأطراف عدة بأن تمزق ورقة الديمقراطية التمثيلية التي أخفقت في تحقيق تطور لافت في الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.

كشف إعلان رئيس حركة النهضة بالنيابة، منذر الونيسي، عن تنظيم مؤتمرها العام المؤجل منذ سنوات مضت خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل عن حجم وعمق الصراع التنظيمي الذي لحق بالحركة جراء حملة الاعتقالات والضربات الأمنية المتلاحقة لعدد من القادة التاريخيين، فضلاً عن غلق مقرات الحركة إبان الصراع الذي نشب مع الرئيس التونسي قيس سعيد على هامش قرارت الخامس والعشرين من تموز/ يوليو 2021 وحتى الأيام الأولى من شهر أيلول/ سبتمبر الجاري الذي شهد قرارات بإيقاف منذر الونيسي، الرئيس بالنيابة، وعبد الكريم الهاروني، رئيس مجلس شورى الحركة، وآخرين.

ضمن هذه البيئة المتخمة بالصراعات والتي عرفت وضعاً تنظيمياً وسياسياً  يتّسم بالتفكك والضمور في “النهضة”، عمدت القيادة الجديدة إلى الإعلان عن عقد مؤتمر الحركة العام الذي تم تأجيله مرات عدة بسبب خلافات بين أجنحتها الداخلية. مع الأخذ في الاعتبار أن الإعلان عن المؤتمر جاء في ظل وجود رئيس الحركة راشد الغنوشي ونائبيه علي العريض ونور الدين البحيري في السجن.

ترى قيادات الحركة أن المؤتمر في نسخته الحالية عليه أن يهتم بأمر اختيار قيادة جديدة بعد مضي أكثر من ثلاثة عقود من وجود الغنوشي على رأس الحركة وهيمنته الكاملة على التنظيم، وبما يضمن معالجة الفجوات التي تباعد بين الحركة وأهدافها، كما بين قادتها وقواعدها، وجعلت ناخبيها وحواضنها أعباء إضافية على مشاكلها مع السلطة.

دفع النسق السلطوي لنظام سعيد منذ قراراته في شهر تموز 2021، وصياغة دستور جديد لتونس يعلي من سلطاته كرئيس (في مقابل نسخة دستور برلماني شهدت من خلاله حركة النهضة ورئيسها التاريخي راشد الغنوشي زخماً ونشاطاً سياسياً وشعبياً عبر عشرية كاملة)، أركان الحركة نحو الصدام العنيف والحتمي مع سلطة الرئيس ونظامه تارة، ومع قادة الحركة الذين قبع بعضهم داخل السجون طوراً، وتارة أخرى مع آخرين موجودين خارج البلاد، فضلاً عن شباب الحركة والقيادات الوسيطة.

إلى ذلك، خبرت النهضة ذواتها وكياناتها في مواجهة مباشرة مع سلطة الرئيس الذي طور المواجهة، لاحقاً، نحو غلق المقر المركزي للحركة ومنع الاجتماعات في جميع مقراتها، ثم إغلاق مقر اجتماعات جبهة الخلاص  التي تمثل كياناً موازياً للنهضة. فضلاً عن توجيه تهم مباشرة ضد عدد من قيادات الصف الأول بالتآمر على “أمن الدولة” والتورط في شبكات التسفير إلى بؤر التوتر في ليبيا وسوريا والعراق، خلال الفترة بين عامي 2012 و2015، وكذا تحت طائلة قضايا تبييض أموال وفساد حتى اعتقال رئيس الحركة راشد الغنوشي في شهر نيسان/ أبريل الماضي.

في هذه الأثناء، انتظم برلمان قيس سعيد وشرعت مجموعة من النواب في البرلمان في جمع التوقيعات على عريضة سياسية لـ “حل الحركة وتصنيفها تنظيماً إرهابياً” على اعتبار أنها “تضم أشخاصاً في قياداتها العليا والمتوسطة تلاحقهم تهم بتلقي أموال مشبوهة من جهات خارجية” وارتباطات بالجهاز السري للحركة المتورط في قضايا الاغتيالات السياسية، بخاصة قضيتي شكري بلعيد ومحمد البراهمي. 

بدت النهضة في تلك الأثناء، تواجه تيه الارتداد لحالة التشرذم التي عرفتها قبل العام 2011، والمضي نحو مقاربة أخرى بشخصيات جديدة تستطيع الحوار والتعايش مع سياق التحولات التي شهدتها المنطقة وخروج حركات وتنظيمات الإسلام السياسي من تجربة الحكم. الأمر الذي يستلزم معه مناقشة مرحلة ما بعد الغنوشي الذي تتضاءل فرصة تمسكه بقيادة الحركة لاعتبارات السجن والعمر، ما دفع حلفاء الأخير الى رفض هذا التوجه ومواجهته عبر إعلان رفضهم تنظيم المؤتمر، بخاصة مع ما جاء على لسان صهر راشد الغنوشي رفيق عبد السلام، الذي طالب “بضرورة تجديد تذكية القيادات التاريخية السجينة لمرحلة انتقالية تنتهي برفع حالة الاستثناء التي فرضها الانقلاب”.

كشف التسريب الصوتي المنسوب الى منذر الونيسي، نائب رئيس الحركة، عن وجود صراعات بين قيادات من الحركة لرئاسة الحزب. واتهم شخصيات مقربة من الغنوشي بتلقي أموال من الخارج وتوظيفها لحسم هذا الصراع، بالإضافة إلى تحالفات مع رجال أعمال في الآجال السياسية المقبلة.

من الصعوبة بمكان، النظر إلى أهمية عقد مؤتمر النهضة المقبل من خلال تغيير اسم رئيس الحركة راشد الغنوشي من دون النظر إلى الفلسفة الممكنة التي تجعل المقاربة الديمقراطية في تونس ممكنة، لا سيما في ظل إسقاط نظام الغنوشي الكيانات الحزبية والسياسية كافة من حساباتها خلال العامين الأخيرين. فلا يبتعد التوجه السلطوي الذي تقدمه سلطة الرئيس قيس سعيد ميدانياً منذ العام 2021 عن التوجه ذاته الذي يبدو في تمسك راشد الغنوشي ورفاقه بقيادة الحركة، ما يشي بكثير من الدلالات المنطقية عن تغييب ثقافة الديمقراطية وتداول السلطة سواء في الأنظمة الحاكمة أو الكيانات الحزبية التي خبرت السلطة، لا سيما أن غالبية النقاط التي تتعلق بضرورة تغيير رأس الحركة وسحب الصلاحيات الكاملة من رئيس الحركة لصالح مجلس الشورى، تعد من الأمور التي تدفع بعض الشخصيات في النهضة نحو مناقشتها ووضعها على جدول الأعمال منذ المؤتمر العاشر في العام 2016، وذلك بما يضع النهضة ومؤتمرها المزمع عقده خلال الشهر المقبل نحو مفترق الطرق.

الكاتب التونسي مراد علالة، يرى أن احتمالات تنظيم المؤتمر رهينة شرط يصعب تحقيقه في الوقت الحاضر، وهو يتمثل في مساحة الانفتاح التي يمكن أن تتيحها السلطة لحركة النهضة. ويؤكد علالة أن ذلك “مستبعد رغم كل الرسائل التي حرص الونيسي قبل إيقافه توجيهها مباشرة الى الرئيس قيس سعيد والتأكيد على كون النهضة، في حال رفع الحجر عنها واستعادة مقراتها ومعاملة قادتها في السجن بشكل آخر، وتمكينها من عقد مؤتمرها العلني، ستقوم بما هو مطلوب منها عبر المراجعات الضرورية، وستضحى شريكاً إيجابياً للحكم وطرفاً في حوار وطني بقيادة الرئيس قيس سعيد”.

لمّح علالة في حديثه لـ”درج”، إلى أن هناك جناحاً ثانياً للإسلاميين، خرجوا في غالبيتهم من التنظيم الأم (النهضة) بقيادة عبد اللطيف المكي، وقد أسس حزب “العمل والإنجاز” بينما استقطب في وقت قياسي كثيراً من الأسماء البارزة والوازنة كزبير الشهودي، المرافق الشخصي والمسؤول السابق عن مكتب راشد الغنوشي، إلى جانب إقبال كبير لشباب يمل من هيمنة المرشد وعائلته على التنظيم. فيما يرى، والحديث للكاتب التونسي علالة، في عبد اللطيف المكي الذي عايش المؤسسين وهو اليوم قريب من الشباب، “القائد المثالي للمرحلة المقبلة، فضلاً عن كونه لا يتصادم مع المجتمع ولا مع السلطة. وحتى عندما ينتقد تجربة التنظيم الأم لا يشيطنه ولا يتعرض لرفاقه بسوء. بالتالي، فإن حبل الود كما يقال موجود وقوي”.

يختتم مراد علالة حديثه بالإشارة إلى أن وضع الإسلاميين “ليس مريحاً”. كما أنهم لم يحسموا موقفهم إزاء الاستحقاق الانتخابي الرئاسي  في 2024 رغم كونهم لم يستطيعوا “قلب المعادلات”، كما ولم تنجح دعواتهم لمقاطعة الانتخابات التشريعية الأخيرة وقبلها الاستفتاء على الدستور، وليس ذلك بحكم قوة الرئيس قيس سعيد فقط وإنما نتيجة مزاج شعبي خصم في جزء كبير منه رصيد الإسلام السياسي في ذهنية المواطنين.