fbpx

طوفان الأقصى والشرخ السياسي الفرنسي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الخلاف بين حركة فرنسا الأبية وباقي القوى السياسية يتلخص في وجود منطقين مختلفين: الأول، يضع العملية في سياق صراع تمتد جذوره إلى عقود مضت، فيما ينظر الطرف الآخر إلى عملية حماس كحدث مستقل ينبغي الاصطفاف حياله من زاوية “أخلاقية – مبدئية”، وفقاً لأصحابه.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

بعد خمسة أيام على عملية طوفان الأقصى، أطل الرئيس الفرنسي في كلمة متلفزة. من جملة ما تناوله ماكرون كان التشديد على ضرورة “الوحدة الوطنية الفرنسية”، في إدراك منه لحجم الاحتقان الداخلي على خلفية ما يجري في غزة وإسرائيل، ما قد يؤدي إلى “أعمال معادية للسامية”. احتقان مرده إلى انقسام حاد تشهده الحياة فرنسا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، انقسام ترافق مع جدل وسجال سياسيين على درجة كبيرة من الحدة وظهور مؤشرات تدفع الى التساؤل ما إذا كانت بعض القوى السياسية الفرنسية تسعى الى تجيير الحدث الخارجي خدمة لمصالحها الداخلية.  

منذ اليوم الأول، انحاز الموقف الرسمي الفرنسي إلى الجانب الإسرائيلي: إيمانويل ماكرون سارع إلى التغريد بالفرنسية والإنكليزية والعبرية لإدانة “الهجمات الإرهابية”، مبدياً تضامنه مع الضحايا وعائلاتهم. موقف عبرت عنه أيضاً رئيسة الوزراء إليزابيت بورن، التي طالبت “بمحاربة الإرهاب بكل أشكاله” مع حماية المدنيين.  

الشخصيات العامة الفرنسية تضامنت بدورها مع إسرائيل، لا بل سارع بعضها الى المزايدة على الحكومة: رئيس حزب الجمهوريين إريك سيوتي حث على قطع التمويل الفرنسي عن كل الدول “الداعمة للإرهاب الاسلامي” مثل قطر، كما توجه إلى ماكرون ليطالبه باتخاذ موقف من نائبة أوروبية موالية له لرفضها قطع التمويل الأوروبي عن السلطة الفلسطينية. أمين عام الحزب الاشتراكي اوليفييه فور رفض وصف ما فعلته حماس “بالمقاومة”. رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو ترأست حملة تضامنية تُوجت بإضاءة برج إيفل بالعلم الإسرائيلي،  حتى الحزب الشيوعي الفرنسي انحاز إلى صف المؤيدين لإسرائيل: أمينه العام، فابيان روسيل، وصف “تعرض حماس للمدنيين”  بـ “غير المقبول وغير المبرر” لتعنون صحيفة الحزب يوم الخميس: حماس أفضل عدو للفلسطينيين. 

مدير الأبحاث السابق في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، فرنسوا بورغا، لم يستغرب تلك المساندة لإسرائيل من جانب أحزاب اليمين واليسار، لميولها الصهيونية. إلا أنه توقف، في اتصال مع موقع “درج”، عند موقف الحزب الشيوعي الفرنسي الذي يتناقض مع انحيازه التاريخي الى الفلسطينين، محيلاً هذا التحول إلى شخصية الأمين العام الحالي للحزب فابيان روسيل.  

بورغا أشار إلى وجود عاملين يحكمان مواقف الأحزاب السياسية الفرنسية: الأول تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام ، بخاصة تلك التي تتبنى سياسة يمينية أو يمينية متطرفة، ما أدى إلى نقل الحدث على هذا النحو. العامل الثاني هو الربط بين الصراع العربي – الإسرائيلي من جهة وانتشار رهاب الإسلام في فرنسا وأوروبا من جهة أخرى، وكأن ما يواجهه الفرنسيون والإسرائيليون يأتي في السياق ذاته. ما أتى بورغا على ذكره تجلى بوضوح خلال كلمة ماكرون المتلفزة، إذ شبه الرئيس الفرنسي ما شهدته إسرائيل بالهجمات الإرهابية التي عرفتها بلاده في السنوات الماضية، معتبراً أن ما جرى خرج عن نطاق الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ليتحول إلى حرب ضد الإرهاب، لا سيما مع وجود ضحايا فرنسيين. 

يانيس روديه، الباحث في معهد جان جوريس، لم يتفق مع بورغا، إذ اعتبر أن الإجماع الفرنسي على دعم إسرائيل مرده “للجرائم التي ارتكبتها حركة حماس ضد المدنيين العزل”، مذكراً، في اتصال مع “درج”، بتصنيف حماس كمنظمة إرهابية. بناء عليه، لا يمكن توقع موقف فرنسي مغاير بحسب روديه.

إيمانويل ماكرون سارع إلى التغريد بالفرنسية والإنكليزية والعبرية لإدانة “الهجمات الإرهابية”، مبدياً تضامنه مع الضحايا وعائلاتهم.

أحزاب صغيرة عدة غردت خارج السرب، لكن السجال الأكبر أثارته حركة فرنسا الأبية، أي التنظيم السياسي اليساري الأكبر حجماً في فرنسا. مؤسس الحركة ومرشحها السابق للانتخابات الرئاسية جان لوك ميلانشون، اتخذ موقفاً وسطياً، معتبراً أن العنف يولد العنف، مبدياً تعاطفه مع جميع الضحايا إلى جانب تشديده على ضرورة وقف إطلاق النار وحل الصراع على أساس الدولتين. 

حملة انتقادات حادة تعرض لها ميلانشون بالرغم من إدانة عدد من قيادات ونواب الحركة لهجمات حماس. الانتقادات توقفت عند  امتناعه عن تأييد إسرائيل على نحو صريح: رئيسة الوزراء وصفت موقف ميلانشون “بالغامض المثير للاشمئزاز” لمساواته بين أفعال حماس وسياسة الحكومة الإسرائيلية، مضيفة أن معاداته للصهيونية تخفي معاداةً للسامية. حتى أحزاب اليسار سارعت إلى الهجوم على ميلانشون: أوليفييه فور انتقد هذا “الخطأ السياسي” المتمثل بعدم الإقرار بأن ما جرى “عمل إرهابي”. عضو مجلس الشيوخ الفرنسي عن حزب البيئة ومرشحه السابق للانتخابات الرئاسية يانيك جادو، رأى أن ميلانشون “ينكر الواقع” لعدم اعترافه بهوية حماس الإسلامية والإرهابية، فيما أبدى فابيان روسيل أسفه “لغياب الوضوح لدى ميلانشون”، مشيراً إلى وجود “خلافات عميقة” ضمن “تحالف اليسار والبيئة”.

الأجهزة الرسمية اتخذت، من جانبها، سلسلة من الإجراءات: “حزب مناهضة الرأسمالية” يواجه تحقيقاً بتهمة “التسامح مع الإرهاب” وسط مطالبات بحله من جهات عدة يهودية وسياسية داخلية، لتأييده “كل أشكال المقاومة التي يختارها الفلسطينيون”.   وزير الداخلية أصدر، يوم الخميس، تعليمات للسلطات المحلية بمنع أي تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، كما وقع وزير العدل مذكرة إدارية للتعامل بحزم مع أي “متسامح مع الإرهاب”. 

ميلانشون رد على منتقديه، فوفقا له، تسعى رئيسة الوزراء إلى استغلال الحرب في الشرق الأوسط لتشن حرباً على حركة فرنسا الأبية. كما توجه إلى المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، الذي “أجبر الجميع على التماهي مع سياسة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة”، محملاً إياه مسؤولية غياب التضامن الفرنسي الجامع لإسرائيل. من جهته، كرر منسق حركة فرنسا الأبية، مانويل بومبار، إدانته لهجوم حماس، مؤكداً أن “دعمهم الكامل للشعب الإسرائيلي” لا ينسحب بالضرورة على مساندة “الدولة الإسرائيلية”، متمنياً لو شملت دقيقة الصمت، التي شهدتها الجمعية الوطنية، الضحايا الفلسطينيين. 

التغطية الإعلامية لهذا الجدل تفاوتت من وسيلة إلى أخرى. على سبيل المثال، حرصت صحيفة Le Figaro ، ذات التوجه اليميني، على إحاطته من جوانبه كافة وعدم تفويت أي فرصة للتصويب على ميلانشون، ليتساءل أحد صحافييها ما إذا باتت حركة فرنسا الأبية خارج “الجبهة الجمهورية”.  فالصحيفة المذكورة لم تتوقف عن وصم حماس بالإرهاب في غالبية موادها المنشورة.  

محطة BFMTV ، المتشددة يمينياً، تطرقت في معرض تغطيتها المتواصلة إلى فرضية تعرض “تحالف اليسار والبيئة” للانفجار الداخلي. في المقابل، بدت الصحف اليسارية أقل حدة خلال تناولها هذا الجدل، مثل Le Monde  و Libération التي وفرت مساحة لقيادات الحركة لتوضيح موقفهم

فرنسوا بورغا علق على هذه الحملة خلال حديثه لـ”درج”: من بين جميع أحزاب اليسار المعارضة، تشكل حركة فرنسا الأبية الخطر الأكبر على الحكومة الفرنسية، لهذا السبب لم نشهد حملة إعلامية مماثلة على “حزب مناهضة الرأسمالية” رغم انحيازه الواضح الى الفلسطينيين. 

وتابع بورغا حديثه لـ”درج” متوقفاً عند نقطة أخرى، فبسبب نجاح ميلانشون في بناء قاعدة انتخابية في أوساط المسلمين، بات “رهاب الإسلام” يحمل في طياته تصويباً على حركة فرنسا الأبية، فالعبارات المستخدمة في معرض تناول الصراع العربي – الإسرائيلي هي ذاتها المستخدمة للإشارة إلى الحرب ضد “خطر الإسلام”. في المقابل، اعتبر بورغا أن مشكلة اليسار الفرنسي تكمن في عدم امتلاكه الأدوات الفكرية لإجراء مقاربة سليمة للملفات السياسية التي يتداخل فيها العامل الديني، فاليسار الفرنسي بجوهره معاد للأديان، ما يجعله عاجزاً عن بلورة حجج صلبة ومتماسكة تمنع عنه مثل هذه الحملات. 

في المقابل، كانت ليانيس روديه رؤية مغايرة لهذا السجال الداخلي. وفقاً له، الجهة الوحيدة التي تملك حسابات سياسية وانتخابية هي حركة فرنسا الأبية، على اعتبار أن المسلمين في فرنسا يشكلون جزءاً لا يستهان به من قاعدتها الانتخابية. روديه توقف عند محطات كثيرة اتخذت فيها الحركة مواقف منحازة الى الجالية الإسلامية، لتصبح اليوم “الحزب السياسي الوحيد في فرنسا الذي لا يصفق للضحايا”، في إشارة منه إلى القتلى الإسرائيليين، ليختم حديثه إلى “درج” بالإشارة إلى هذا “الشرخ الجديد” في الداخل الفرنسي. 

موقع ميديا بارت توقف عند تأييد حزب التجمع الوطني للجانب الإسرائيلي، إذ إن يومني كازوف ومارين تورشي استعرضا تاريخ هذا الحزب اليميني المتطرف الذي أسسه جان ماري لوبان، واشتهر بمعاداته السامية، تاريخ لم تتنكر له مارين لوبان، إبنة المؤسس وزعيمة الحزب الحالية. في المقابل، توقف كازوف وتورشي عند ورشة التحولات التي أطلقتها لوبان الابنة للوصول إلى السلطة، آخر فصول تلك التحولات كان إعلان “دعمها للشعب الإسرائيلي” وتقديم نفسها كحامية ليهود فرنسا.  

وعليه، أشار كاتبا المقال إلى سعي حزب التجمع الوطني لمحو هذا الجانب من ماضيه بغية جذب شرائح انتخابية ترفض الاقتراع له، نظراً الى تاريخه الحافل بمعاداة السامية. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى تصريح النائب الفرنسي – الإسرائيلي مائير حبيب بأن حزب التجمع الوطني بات جزءاً من الجبهة الجمهورية بعد تأييده إسرائيل.

كلام بورغا وروديه كما مقالة ميديا بارت مؤشرات تدفع الى التساؤل عما إذا كانت الأحزاب السياسية الفرنسية تستغل الحدث الإسرائيلي لتسجيل نقاط في الداخل الفرنسي سواء لتعزيز موقعها أو لإضعاف خصومها. مثلما أرسى الغزو الروسي لأوكرانيا مسلمات سياسية فرضت على غالبية الأحزاب الفرنسية، بما فيها مؤيدو بوتين، الالتزام بها تحت طائلة “النبذ”، بات الحدث الفلسطيني معياراً من معايير الفرز الداخلي. 

الخلاف بين حركة فرنسا الأبية وباقي القوى السياسية يتلخص في وجود منطقين مختلفين: الأول، يضع العملية في سياق صراع تمتد جذوره إلى عقود مضت، فيما ينظر الطرف الآخر إلى عملية حماس كحدث مستقل ينبغي الاصطفاف حياله من زاوية “أخلاقية – مبدئية”، وفقاً لأصحابه.  وبالنظر إلى حجم الانتقادات التي لاحقت الفريق الأول، رغم إدانته عملية حماس، يبدو واضحاً أن الفرز المذكور لا يقبل أي وسطية أو تمايز، فارضاً لغة ومفردات لا تقبل التأويل.  

وعليه، قد يتحول تاريخ 7 تشرين 2023 إلى محطة مفصلية في السياسة الخارجية الفرنسية: الدعم الفرنسي المطلق لإسرائيل لم يعد من منطلق التعاطف أو التكفير عن ذنب اضطهاد اليهود لقرون، بل باتت باريس تعتبر أنها في مركب واحد مع تل أبيب لمواجهة عدو مشترك هو “الإرهاب الإسلامي”.   

والحال أن الانقسام الذي يشهده الداخل الفرنسي ليس إلا انعكاساً لضخامة الحدث، وهو ما اتضح في التغطية الصحافية التي أدركت منذ اليوم الأول النتائج المحتملة لعملية حماس:  بنجمان بارت ومن على صفحات Le Monde، وصف هجوم حماس “بالزلزال”، إذ لم يسبق لمقاتلي حماس الدخول إلى الأراضي الإسرائيلية بهذا الشكل وعلى هذا النحو وبهذا العمق، ملحقين هذا الكم من الخسائر. برأي بارت، بعثت هذه العملية برسالة إلى دول المنطقة كما الدول الغربية مفادها: لا استقرار في الشرق الأوسط من دون الفلسطينيين. 

صحيفة Le Jdd توقفت عند الخسائر الإسرائيلية التي فاقت الخسائر الفلسطينية في اليوم الأول، معتبرة أن الفارق يكمن في انقلاب هذه الصورة. وأضافت الصحيفة المذكورة أن التركيز الأميركي على توفير الدعم لأوكرانيا، أضعف التعاون الاستخباراتي الأميركي – الإسرائيلي، ما صب في صالح حماس، ليختم ريجيس لو سومييه مقالته المذكورة بالقول: عملية حماس شكلت اختباراُ للخارطة السياسية الدولية الآخذة في التشكيل بعد توسع مجموعة البريكس، إذ أجبرت العالم بأسره على الاصطفاف حيالها. 

جيل باريس تماهى مع رأي لو سومييه، فعبر صحيفة Le Monde أشار الكاتب الفرنسي الى أن عملية حماس أوضحت وجود فرز جيوسياسي حيال القضية الفلسطينية، فرز يحيل العالم إلى معسكرين: معسكر غربي وآخر يضم دول الجنوب، فرز بدأ مع الغزو الروسي لأوكرانيا. وبحسب باريس، أظهرت هذه العملية وجود نقاط ضعف ضمن مجموعة البريكس، إذ لم يتخذ أعضاؤها موقفاً موحداً. 

جورج مالبرينو رأى عبر صحيفة Le Figaro أن هذه الحرب ستعطل تشكيل الشرق الأوسط، إذ من شأنها عرقلة مسار تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية، كما تعزز “محور المقاومة الذي تقوده “إيران الشيعية” على حساب الدول العربية السنية التي تميل إلى التقارب مع إسرائيل. ألان بوير وصف من على صفحات l’Opinion، عملية حماس بـ “المعقدة والمنسقة والقوية” كما شبهها “بالانتفاضة الكاملة” التي وضعت حداً لوهم السلام. 

15.10.2023
زمن القراءة: 8 minutes

الخلاف بين حركة فرنسا الأبية وباقي القوى السياسية يتلخص في وجود منطقين مختلفين: الأول، يضع العملية في سياق صراع تمتد جذوره إلى عقود مضت، فيما ينظر الطرف الآخر إلى عملية حماس كحدث مستقل ينبغي الاصطفاف حياله من زاوية “أخلاقية – مبدئية”، وفقاً لأصحابه.

بعد خمسة أيام على عملية طوفان الأقصى، أطل الرئيس الفرنسي في كلمة متلفزة. من جملة ما تناوله ماكرون كان التشديد على ضرورة “الوحدة الوطنية الفرنسية”، في إدراك منه لحجم الاحتقان الداخلي على خلفية ما يجري في غزة وإسرائيل، ما قد يؤدي إلى “أعمال معادية للسامية”. احتقان مرده إلى انقسام حاد تشهده الحياة فرنسا منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، انقسام ترافق مع جدل وسجال سياسيين على درجة كبيرة من الحدة وظهور مؤشرات تدفع الى التساؤل ما إذا كانت بعض القوى السياسية الفرنسية تسعى الى تجيير الحدث الخارجي خدمة لمصالحها الداخلية.  

منذ اليوم الأول، انحاز الموقف الرسمي الفرنسي إلى الجانب الإسرائيلي: إيمانويل ماكرون سارع إلى التغريد بالفرنسية والإنكليزية والعبرية لإدانة “الهجمات الإرهابية”، مبدياً تضامنه مع الضحايا وعائلاتهم. موقف عبرت عنه أيضاً رئيسة الوزراء إليزابيت بورن، التي طالبت “بمحاربة الإرهاب بكل أشكاله” مع حماية المدنيين.  

الشخصيات العامة الفرنسية تضامنت بدورها مع إسرائيل، لا بل سارع بعضها الى المزايدة على الحكومة: رئيس حزب الجمهوريين إريك سيوتي حث على قطع التمويل الفرنسي عن كل الدول “الداعمة للإرهاب الاسلامي” مثل قطر، كما توجه إلى ماكرون ليطالبه باتخاذ موقف من نائبة أوروبية موالية له لرفضها قطع التمويل الأوروبي عن السلطة الفلسطينية. أمين عام الحزب الاشتراكي اوليفييه فور رفض وصف ما فعلته حماس “بالمقاومة”. رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو ترأست حملة تضامنية تُوجت بإضاءة برج إيفل بالعلم الإسرائيلي،  حتى الحزب الشيوعي الفرنسي انحاز إلى صف المؤيدين لإسرائيل: أمينه العام، فابيان روسيل، وصف “تعرض حماس للمدنيين”  بـ “غير المقبول وغير المبرر” لتعنون صحيفة الحزب يوم الخميس: حماس أفضل عدو للفلسطينيين. 

مدير الأبحاث السابق في المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS)، فرنسوا بورغا، لم يستغرب تلك المساندة لإسرائيل من جانب أحزاب اليمين واليسار، لميولها الصهيونية. إلا أنه توقف، في اتصال مع موقع “درج”، عند موقف الحزب الشيوعي الفرنسي الذي يتناقض مع انحيازه التاريخي الى الفلسطينين، محيلاً هذا التحول إلى شخصية الأمين العام الحالي للحزب فابيان روسيل.  

بورغا أشار إلى وجود عاملين يحكمان مواقف الأحزاب السياسية الفرنسية: الأول تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام ، بخاصة تلك التي تتبنى سياسة يمينية أو يمينية متطرفة، ما أدى إلى نقل الحدث على هذا النحو. العامل الثاني هو الربط بين الصراع العربي – الإسرائيلي من جهة وانتشار رهاب الإسلام في فرنسا وأوروبا من جهة أخرى، وكأن ما يواجهه الفرنسيون والإسرائيليون يأتي في السياق ذاته. ما أتى بورغا على ذكره تجلى بوضوح خلال كلمة ماكرون المتلفزة، إذ شبه الرئيس الفرنسي ما شهدته إسرائيل بالهجمات الإرهابية التي عرفتها بلاده في السنوات الماضية، معتبراً أن ما جرى خرج عن نطاق الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ليتحول إلى حرب ضد الإرهاب، لا سيما مع وجود ضحايا فرنسيين. 

يانيس روديه، الباحث في معهد جان جوريس، لم يتفق مع بورغا، إذ اعتبر أن الإجماع الفرنسي على دعم إسرائيل مرده “للجرائم التي ارتكبتها حركة حماس ضد المدنيين العزل”، مذكراً، في اتصال مع “درج”، بتصنيف حماس كمنظمة إرهابية. بناء عليه، لا يمكن توقع موقف فرنسي مغاير بحسب روديه.

إيمانويل ماكرون سارع إلى التغريد بالفرنسية والإنكليزية والعبرية لإدانة “الهجمات الإرهابية”، مبدياً تضامنه مع الضحايا وعائلاتهم.

أحزاب صغيرة عدة غردت خارج السرب، لكن السجال الأكبر أثارته حركة فرنسا الأبية، أي التنظيم السياسي اليساري الأكبر حجماً في فرنسا. مؤسس الحركة ومرشحها السابق للانتخابات الرئاسية جان لوك ميلانشون، اتخذ موقفاً وسطياً، معتبراً أن العنف يولد العنف، مبدياً تعاطفه مع جميع الضحايا إلى جانب تشديده على ضرورة وقف إطلاق النار وحل الصراع على أساس الدولتين. 

حملة انتقادات حادة تعرض لها ميلانشون بالرغم من إدانة عدد من قيادات ونواب الحركة لهجمات حماس. الانتقادات توقفت عند  امتناعه عن تأييد إسرائيل على نحو صريح: رئيسة الوزراء وصفت موقف ميلانشون “بالغامض المثير للاشمئزاز” لمساواته بين أفعال حماس وسياسة الحكومة الإسرائيلية، مضيفة أن معاداته للصهيونية تخفي معاداةً للسامية. حتى أحزاب اليسار سارعت إلى الهجوم على ميلانشون: أوليفييه فور انتقد هذا “الخطأ السياسي” المتمثل بعدم الإقرار بأن ما جرى “عمل إرهابي”. عضو مجلس الشيوخ الفرنسي عن حزب البيئة ومرشحه السابق للانتخابات الرئاسية يانيك جادو، رأى أن ميلانشون “ينكر الواقع” لعدم اعترافه بهوية حماس الإسلامية والإرهابية، فيما أبدى فابيان روسيل أسفه “لغياب الوضوح لدى ميلانشون”، مشيراً إلى وجود “خلافات عميقة” ضمن “تحالف اليسار والبيئة”.

الأجهزة الرسمية اتخذت، من جانبها، سلسلة من الإجراءات: “حزب مناهضة الرأسمالية” يواجه تحقيقاً بتهمة “التسامح مع الإرهاب” وسط مطالبات بحله من جهات عدة يهودية وسياسية داخلية، لتأييده “كل أشكال المقاومة التي يختارها الفلسطينيون”.   وزير الداخلية أصدر، يوم الخميس، تعليمات للسلطات المحلية بمنع أي تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، كما وقع وزير العدل مذكرة إدارية للتعامل بحزم مع أي “متسامح مع الإرهاب”. 

ميلانشون رد على منتقديه، فوفقا له، تسعى رئيسة الوزراء إلى استغلال الحرب في الشرق الأوسط لتشن حرباً على حركة فرنسا الأبية. كما توجه إلى المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، الذي “أجبر الجميع على التماهي مع سياسة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة”، محملاً إياه مسؤولية غياب التضامن الفرنسي الجامع لإسرائيل. من جهته، كرر منسق حركة فرنسا الأبية، مانويل بومبار، إدانته لهجوم حماس، مؤكداً أن “دعمهم الكامل للشعب الإسرائيلي” لا ينسحب بالضرورة على مساندة “الدولة الإسرائيلية”، متمنياً لو شملت دقيقة الصمت، التي شهدتها الجمعية الوطنية، الضحايا الفلسطينيين. 

التغطية الإعلامية لهذا الجدل تفاوتت من وسيلة إلى أخرى. على سبيل المثال، حرصت صحيفة Le Figaro ، ذات التوجه اليميني، على إحاطته من جوانبه كافة وعدم تفويت أي فرصة للتصويب على ميلانشون، ليتساءل أحد صحافييها ما إذا باتت حركة فرنسا الأبية خارج “الجبهة الجمهورية”.  فالصحيفة المذكورة لم تتوقف عن وصم حماس بالإرهاب في غالبية موادها المنشورة.  

محطة BFMTV ، المتشددة يمينياً، تطرقت في معرض تغطيتها المتواصلة إلى فرضية تعرض “تحالف اليسار والبيئة” للانفجار الداخلي. في المقابل، بدت الصحف اليسارية أقل حدة خلال تناولها هذا الجدل، مثل Le Monde  و Libération التي وفرت مساحة لقيادات الحركة لتوضيح موقفهم

فرنسوا بورغا علق على هذه الحملة خلال حديثه لـ”درج”: من بين جميع أحزاب اليسار المعارضة، تشكل حركة فرنسا الأبية الخطر الأكبر على الحكومة الفرنسية، لهذا السبب لم نشهد حملة إعلامية مماثلة على “حزب مناهضة الرأسمالية” رغم انحيازه الواضح الى الفلسطينيين. 

وتابع بورغا حديثه لـ”درج” متوقفاً عند نقطة أخرى، فبسبب نجاح ميلانشون في بناء قاعدة انتخابية في أوساط المسلمين، بات “رهاب الإسلام” يحمل في طياته تصويباً على حركة فرنسا الأبية، فالعبارات المستخدمة في معرض تناول الصراع العربي – الإسرائيلي هي ذاتها المستخدمة للإشارة إلى الحرب ضد “خطر الإسلام”. في المقابل، اعتبر بورغا أن مشكلة اليسار الفرنسي تكمن في عدم امتلاكه الأدوات الفكرية لإجراء مقاربة سليمة للملفات السياسية التي يتداخل فيها العامل الديني، فاليسار الفرنسي بجوهره معاد للأديان، ما يجعله عاجزاً عن بلورة حجج صلبة ومتماسكة تمنع عنه مثل هذه الحملات. 

في المقابل، كانت ليانيس روديه رؤية مغايرة لهذا السجال الداخلي. وفقاً له، الجهة الوحيدة التي تملك حسابات سياسية وانتخابية هي حركة فرنسا الأبية، على اعتبار أن المسلمين في فرنسا يشكلون جزءاً لا يستهان به من قاعدتها الانتخابية. روديه توقف عند محطات كثيرة اتخذت فيها الحركة مواقف منحازة الى الجالية الإسلامية، لتصبح اليوم “الحزب السياسي الوحيد في فرنسا الذي لا يصفق للضحايا”، في إشارة منه إلى القتلى الإسرائيليين، ليختم حديثه إلى “درج” بالإشارة إلى هذا “الشرخ الجديد” في الداخل الفرنسي. 

موقع ميديا بارت توقف عند تأييد حزب التجمع الوطني للجانب الإسرائيلي، إذ إن يومني كازوف ومارين تورشي استعرضا تاريخ هذا الحزب اليميني المتطرف الذي أسسه جان ماري لوبان، واشتهر بمعاداته السامية، تاريخ لم تتنكر له مارين لوبان، إبنة المؤسس وزعيمة الحزب الحالية. في المقابل، توقف كازوف وتورشي عند ورشة التحولات التي أطلقتها لوبان الابنة للوصول إلى السلطة، آخر فصول تلك التحولات كان إعلان “دعمها للشعب الإسرائيلي” وتقديم نفسها كحامية ليهود فرنسا.  

وعليه، أشار كاتبا المقال إلى سعي حزب التجمع الوطني لمحو هذا الجانب من ماضيه بغية جذب شرائح انتخابية ترفض الاقتراع له، نظراً الى تاريخه الحافل بمعاداة السامية. في هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى تصريح النائب الفرنسي – الإسرائيلي مائير حبيب بأن حزب التجمع الوطني بات جزءاً من الجبهة الجمهورية بعد تأييده إسرائيل.

كلام بورغا وروديه كما مقالة ميديا بارت مؤشرات تدفع الى التساؤل عما إذا كانت الأحزاب السياسية الفرنسية تستغل الحدث الإسرائيلي لتسجيل نقاط في الداخل الفرنسي سواء لتعزيز موقعها أو لإضعاف خصومها. مثلما أرسى الغزو الروسي لأوكرانيا مسلمات سياسية فرضت على غالبية الأحزاب الفرنسية، بما فيها مؤيدو بوتين، الالتزام بها تحت طائلة “النبذ”، بات الحدث الفلسطيني معياراً من معايير الفرز الداخلي. 

الخلاف بين حركة فرنسا الأبية وباقي القوى السياسية يتلخص في وجود منطقين مختلفين: الأول، يضع العملية في سياق صراع تمتد جذوره إلى عقود مضت، فيما ينظر الطرف الآخر إلى عملية حماس كحدث مستقل ينبغي الاصطفاف حياله من زاوية “أخلاقية – مبدئية”، وفقاً لأصحابه.  وبالنظر إلى حجم الانتقادات التي لاحقت الفريق الأول، رغم إدانته عملية حماس، يبدو واضحاً أن الفرز المذكور لا يقبل أي وسطية أو تمايز، فارضاً لغة ومفردات لا تقبل التأويل.  

وعليه، قد يتحول تاريخ 7 تشرين 2023 إلى محطة مفصلية في السياسة الخارجية الفرنسية: الدعم الفرنسي المطلق لإسرائيل لم يعد من منطلق التعاطف أو التكفير عن ذنب اضطهاد اليهود لقرون، بل باتت باريس تعتبر أنها في مركب واحد مع تل أبيب لمواجهة عدو مشترك هو “الإرهاب الإسلامي”.   

والحال أن الانقسام الذي يشهده الداخل الفرنسي ليس إلا انعكاساً لضخامة الحدث، وهو ما اتضح في التغطية الصحافية التي أدركت منذ اليوم الأول النتائج المحتملة لعملية حماس:  بنجمان بارت ومن على صفحات Le Monde، وصف هجوم حماس “بالزلزال”، إذ لم يسبق لمقاتلي حماس الدخول إلى الأراضي الإسرائيلية بهذا الشكل وعلى هذا النحو وبهذا العمق، ملحقين هذا الكم من الخسائر. برأي بارت، بعثت هذه العملية برسالة إلى دول المنطقة كما الدول الغربية مفادها: لا استقرار في الشرق الأوسط من دون الفلسطينيين. 

صحيفة Le Jdd توقفت عند الخسائر الإسرائيلية التي فاقت الخسائر الفلسطينية في اليوم الأول، معتبرة أن الفارق يكمن في انقلاب هذه الصورة. وأضافت الصحيفة المذكورة أن التركيز الأميركي على توفير الدعم لأوكرانيا، أضعف التعاون الاستخباراتي الأميركي – الإسرائيلي، ما صب في صالح حماس، ليختم ريجيس لو سومييه مقالته المذكورة بالقول: عملية حماس شكلت اختباراُ للخارطة السياسية الدولية الآخذة في التشكيل بعد توسع مجموعة البريكس، إذ أجبرت العالم بأسره على الاصطفاف حيالها. 

جيل باريس تماهى مع رأي لو سومييه، فعبر صحيفة Le Monde أشار الكاتب الفرنسي الى أن عملية حماس أوضحت وجود فرز جيوسياسي حيال القضية الفلسطينية، فرز يحيل العالم إلى معسكرين: معسكر غربي وآخر يضم دول الجنوب، فرز بدأ مع الغزو الروسي لأوكرانيا. وبحسب باريس، أظهرت هذه العملية وجود نقاط ضعف ضمن مجموعة البريكس، إذ لم يتخذ أعضاؤها موقفاً موحداً. 

جورج مالبرينو رأى عبر صحيفة Le Figaro أن هذه الحرب ستعطل تشكيل الشرق الأوسط، إذ من شأنها عرقلة مسار تطبيع العلاقات السعودية – الإسرائيلية، كما تعزز “محور المقاومة الذي تقوده “إيران الشيعية” على حساب الدول العربية السنية التي تميل إلى التقارب مع إسرائيل. ألان بوير وصف من على صفحات l’Opinion، عملية حماس بـ “المعقدة والمنسقة والقوية” كما شبهها “بالانتفاضة الكاملة” التي وضعت حداً لوهم السلام. 

15.10.2023
زمن القراءة: 8 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية