fbpx

عن مريم.. صديقتي الافتراضية التي ماتت قبل أن تعرف معنى الحياة خارج غزة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تكتب زينب شميس عن صديقتها الافتراضية مريم سمير المقيمة في غزة، والتي في كل حرب على القطاع، كانت تشارك خوفها وعجزها مع أصدقائها الافتراضيين الكثر، الموزعين في بلاد عربية كثيرة، وعند انتهاء الحرب، كانت تعلن بقاءها على قيد الحياة، وتلعن الاحتلال والموت ألف مرة. ماتت مريم تحت القصف، هي ليست رقماً،  ولا صورةً، مريم صديقة للكثيرين الذين لن ينسوا اسمها ولا حكايتها ولا أحلامها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أغلقت التلفزيون، على خبرٍ عاجلٍ مفاده السماح بعبور عشرين شاحنة محملة بالمساعدات لقطاع غزة. كان الخبر رغم قسوته وبشاعته، أجمل خبر سمعته منذ بدء الحرب الاسرائيلية على غزة، فربما في هذه الشاحنات ما يوقف عداد الموت الذي يرتفع كل ساعةٍ، أردت أن أغمض عيناي في تلك الليلة على هذا الحلم البسيط الساذج، فربما تبقى في غزة أحياءٌ يحتاجون إلى المساعدة.  

فتحت الهاتف، شغلت بعض الموسيقى وتصفحت “فيسبوك”، كنت جاهزة لكل ما يحمله من صور ومقاطع فيديو خرجت إلينا من قلب المجزرة التي طالت مستشفى المعمداني، فقد شاهدتها جميعها، طوال اليوم، كما شاهدت غيرها في الأيام السابقة، وبعضها كررته مرات عديدة، كفيديو الرجل الذي يصرخ هائمًا على وجهه “هذول ولادي”، بينما هو يحمل في يديه أكياس معبئةً بأشلاء بشرية.

” مريم ماتت يا ناس”. 

كانت العبارة الأولى التي قرأتها في منشورٍ مذيل بإشارة لحساب صديقتي الإفتراضية ” مريم سمير”، أو مريم البتول سمير حجازي، كما هو اسمها في بطاقة العائلة. وحده شقيقها الذي يعيش خارج غزة نجا وأنقذ العائلة من أن تمحى من السجلات المدنية كما حصل مع عائلات أخرى ماتت جميعها بالقصف.

هذه العبارة من بين عبارات كثيرةٌ أخرى خشيت قراءتها في الأسبوعين الماضيين، وفي كل المرات السابقة التي قرأت فيها خبر غارات إسرائيلية على قطاع غزة. كان هاجس موت مريم بهذه الطريقة يلاحقني مذ عرفتها، وكنت حريصةً في كل مرة على الإطمئنان عليها، سواء عبر محادثتها، أو عبر الدخول إلى حسابها ومتابعة منشوراتها.

وفي كل حرب على غزة، كانت مريم تشارك خوفها وعجزها معنا، مع أصدقائها الافتراضيين الكثر، الموزعين في بلاد عربية كثيرة وعند انتهاء الحرب، كانت تعلن بقاءها على قيد الحياة، وتلعن الاحتلال والموت ألف مرة.

هذه المرة، في هذا العدوان الطويل، لم أجرؤ على سؤالها عن حالها، واكتفيت بتفقد حسابها بشكل شبه يومي، كان غيابها الافتراضي في بعض الأيام مفهومًا، وحضورها القليل مفهومًا أيضًا، وكنا نعرف مما كتبته للعالم، أنها خائفةً أكثر من العادة، وأنها لا تريد الموت، ولا الحرب ولا التنقل بين المنازل والملاجئ، كانت تريد النجاة فقط.

ما هي الحياة الطبيعية يا مريم؟

في اليوم الرابع للحرب، كتبت مريم على صفحتها ” نفسي أرجع لحياتي الطبيعية”.

لم تكن حياة مريم، كما هو حال الكثيرين في غزة، وردية وهادئة، فقد كانت تنقل لنا معاناتها اليومية من الحصار وتبعاته، من خوفٍ و فقرٍ وبطالة وانعدام مقومات الحياة الكريمة، أو الطبيعية على أقل تقدير. عاشت مريم، سبعةً وعشرين عامًا عاجزةً فيها عن تحقيق أي حلم صغيرٍ من أحلامها، عاجزةً عن إيجاد السكينة والأمان والجمال في مدينتها المخنوقة بكل أشكال القهر والعذاب.

ولكنها لم تتوقف يومًا عن المحاولة، كانت قويةً بإصرارها على أن لا تستسلم للواقع، ظلت تبحث في كل زاوية، وبكل طريقة عن فرصةً للحياة، للعمل بشهادتها، للخروج من غزة إلى أي مكان آخر في العالم.

كانت تحلم بالبحر، بالاستلقاء ذات يومٍ قرب نهرٍ بطيء، أن تحدق في الشمس والأشجار، بعيدًا عن البيوت المتلاصقة ببعضها البعض، المكتظة بالأطفال المحرومين من معنى الطفولة، المهددين في أي لحظة بأن يسرقهم الموت من حضن أمهاتهم.

أرادت أن تعرف كل شيء، أن تقرأ وتكتب وتستمع إلى الموسيقى، أن تشاهد الأفلام التي تحبها، كانت تنتظر الخريف، تنتظر “أكتوبر” اللطيف، الذي يشبهها كثيرًا. وقد جاء أكتوبر، ليحملها معه، إلى السماء، والشمس، بعيدًا عن غزة، وبعيدًا عن حياتها الطبيعية القاسية في أحيائها.

كان هاجس موت مريم بهذه الطريقة يلاحقني مذ عرفتها، وكنت حريصةً في كل مرة على الإطمئنان عليها، سواء عبر محادثتها، أو عبر الدخول إلى حسابها ومتابعة منشوراتها.

من بيروت إلى غزة

تابعتني مريم بدايةً منذ سنوات طويلة، وأحبت ما أكتبه، أخبرتني بذلك مرارًا، وأخبرتني عن حبها للحياة والفن بجميع أشكاله. وأحببت شغفها بإكتشاف الأشياء، وبحثها الدائم عن المعرفة والحقيقة والأمل، ولطافتها المعهودة.

لم أسألها يومًا، أين يقع منزلها في غزة بالتحديد، في أي جانب ومنطقة وحي وشارع من قطاع غزة، التي صرنا نعرفها اليوم أكثر، بعد أن طالها القصف جميعها. نحن نعرف تفاصيل بلادنا، وأين يسكن أصدقائنا فيها، لكننا لا نطرح السؤال على البعيدين، لا سيما من يقطنون بلادًا لن يسعنا العمر أن نزورها يومًا، وأن نطرق على أبواب ساكنيها لنشرب سويًا فنجان قهوةٍ ونتبادل حديثًا. لكنني عرفت غزة من خلالها أكثر مما عرفتها من نشرات الأخبار، من خلال حزنها الطويل ومأساتها اليومية، غزة كانت بالنسبة لي مريم، بأسماء مختلفة، يوحدها الألم والحصار.

وقد عرفت مريم العالم من خلالنا، من خلال صورنا ومنشوراتنا وأحاديثنا عن بلادنا، ومعاناتنا التي مهما كبرت فهي لن تبلغ من قسوة الحياة في غزة شيئًا، وأحبته، أحبت العالم خارج هذا السجن المفتوح. أحبت البلاد البعيدة الشاعرية، المدن الساحرة حيث تكثر الموسيقى والمطر والحب، وتمنت زيارتها، لو في الحلم، لو بعد مئة عامٍ.

“ما تشوفي شر”

عندما قرأت خبر وفاة مريم، كنت استمع إلى أغنية “حدا تاني” للفرعي، الذي كان يتوجه فيها إلى حبيبته الحالمة، التي تريد الحياة في ظل كل هذا الموت، تريد أن تجتاز بسيارتها الكبيرة حدود البلاد، وتجوب الشوارع، تريد أن تنسى كل بشاعة العالم حولها، وأن تختبأ في قصر كبير، لا يشبه منزلها الصغير، وشارع بيتها الذي لا يتسع لأكثر من المشاة، ليعترف لها في النهاية أن أحلامها كلها مشروعة، لكن ليس باليد حيلة، لذا، فلتبحث عن مكان آخر، وعسى أن لا ترى شرًا.

بحثت عن أول من نشر الخبر، أردت أن أصدق للحظة أن هذا التباس أو تشابه في الأسماء، سألته : متأكد؟ أكد لي، مريم “المسكينة” على حد قوله ماتت، هي وكل أفراد عائلتها.

ماتت قبل أن تعرف طعم الخير والسعادة في حياتها، ماتت وحيدةً دون أصدقاءٍ حقيقين يشاركونها أحلامها المشروعة، ماتت خائفة في غرفتها، في شارع بيت أهلها الضيق، ولم يتنسى لها أن تعبر الحدود، في سيارة أو طيارةٍ، أو حتى سيرًا على الأقدام.

استمع إلى الأغنية اليوم وأبكي، أكررها، كأنها كُتبت لمريم الحالمة، التي لم تر سوى الشر في حياتها، وأعزي نفسي بأن روحها الطيبة تحلق في السماء اليوم، وأنها ربما لن ترى المزيد من الشر في هذا العالم المتوحش.

لسنا أرقامًا، احفظوا اسمائنا

عندما صدقت في نهاية الأمر أن مريم ماتت، وأصبح مشهد حياتها وموتها مكتملًا في رأسي، تنبهت إلى أنني طوال الست سنوات من معرفتي بها، لم أر صورتها، ولا أعرف في الحقيقة كيف تبدو ملامحها، لا أعرف طولها، أو شكل عينيها، لكنني أعرفها جيدًا، بإسمها.

كانت “مريم” صديقة لي، بأحلامها وحزنها وسعيها وخوفها، لم تكن صورةٍ، ولا زائد واحد على آلاف من ماتوا معها، كانت مريم لأنني أعرفها، وأعرف قصتها. وتذكرت، كل الذين طالبوا العالم أن يتذكرهم، واختزلوا قصصهم في سطور قصيرة، على قدر ما أسعفهم الوقت ليكتبوها، لأنهم ليسوا أرقاماً، لأن لهم أسماء وأحلام وحكايا كثيرة، سرقتها الحرب منهم على حين غفلة.

استيقظت على صوت الريح والمطر الذي يرمي برذاذه على وسادتي، وقررت بأنني سأكتب عن مريم صديقتي الافتراضية لكي لا تصبح رقمًا، مريم التي كانت تنتظر الشتاء وماتت قبل قدومه، وقبل أن تعرف معنى الحياة أو الموت خارج غزة.

21.10.2023
زمن القراءة: 5 minutes

تكتب زينب شميس عن صديقتها الافتراضية مريم سمير المقيمة في غزة، والتي في كل حرب على القطاع، كانت تشارك خوفها وعجزها مع أصدقائها الافتراضيين الكثر، الموزعين في بلاد عربية كثيرة، وعند انتهاء الحرب، كانت تعلن بقاءها على قيد الحياة، وتلعن الاحتلال والموت ألف مرة. ماتت مريم تحت القصف، هي ليست رقماً،  ولا صورةً، مريم صديقة للكثيرين الذين لن ينسوا اسمها ولا حكايتها ولا أحلامها.

أغلقت التلفزيون، على خبرٍ عاجلٍ مفاده السماح بعبور عشرين شاحنة محملة بالمساعدات لقطاع غزة. كان الخبر رغم قسوته وبشاعته، أجمل خبر سمعته منذ بدء الحرب الاسرائيلية على غزة، فربما في هذه الشاحنات ما يوقف عداد الموت الذي يرتفع كل ساعةٍ، أردت أن أغمض عيناي في تلك الليلة على هذا الحلم البسيط الساذج، فربما تبقى في غزة أحياءٌ يحتاجون إلى المساعدة.  

فتحت الهاتف، شغلت بعض الموسيقى وتصفحت “فيسبوك”، كنت جاهزة لكل ما يحمله من صور ومقاطع فيديو خرجت إلينا من قلب المجزرة التي طالت مستشفى المعمداني، فقد شاهدتها جميعها، طوال اليوم، كما شاهدت غيرها في الأيام السابقة، وبعضها كررته مرات عديدة، كفيديو الرجل الذي يصرخ هائمًا على وجهه “هذول ولادي”، بينما هو يحمل في يديه أكياس معبئةً بأشلاء بشرية.

” مريم ماتت يا ناس”. 

كانت العبارة الأولى التي قرأتها في منشورٍ مذيل بإشارة لحساب صديقتي الإفتراضية ” مريم سمير”، أو مريم البتول سمير حجازي، كما هو اسمها في بطاقة العائلة. وحده شقيقها الذي يعيش خارج غزة نجا وأنقذ العائلة من أن تمحى من السجلات المدنية كما حصل مع عائلات أخرى ماتت جميعها بالقصف.

هذه العبارة من بين عبارات كثيرةٌ أخرى خشيت قراءتها في الأسبوعين الماضيين، وفي كل المرات السابقة التي قرأت فيها خبر غارات إسرائيلية على قطاع غزة. كان هاجس موت مريم بهذه الطريقة يلاحقني مذ عرفتها، وكنت حريصةً في كل مرة على الإطمئنان عليها، سواء عبر محادثتها، أو عبر الدخول إلى حسابها ومتابعة منشوراتها.

وفي كل حرب على غزة، كانت مريم تشارك خوفها وعجزها معنا، مع أصدقائها الافتراضيين الكثر، الموزعين في بلاد عربية كثيرة وعند انتهاء الحرب، كانت تعلن بقاءها على قيد الحياة، وتلعن الاحتلال والموت ألف مرة.

هذه المرة، في هذا العدوان الطويل، لم أجرؤ على سؤالها عن حالها، واكتفيت بتفقد حسابها بشكل شبه يومي، كان غيابها الافتراضي في بعض الأيام مفهومًا، وحضورها القليل مفهومًا أيضًا، وكنا نعرف مما كتبته للعالم، أنها خائفةً أكثر من العادة، وأنها لا تريد الموت، ولا الحرب ولا التنقل بين المنازل والملاجئ، كانت تريد النجاة فقط.

ما هي الحياة الطبيعية يا مريم؟

في اليوم الرابع للحرب، كتبت مريم على صفحتها ” نفسي أرجع لحياتي الطبيعية”.

لم تكن حياة مريم، كما هو حال الكثيرين في غزة، وردية وهادئة، فقد كانت تنقل لنا معاناتها اليومية من الحصار وتبعاته، من خوفٍ و فقرٍ وبطالة وانعدام مقومات الحياة الكريمة، أو الطبيعية على أقل تقدير. عاشت مريم، سبعةً وعشرين عامًا عاجزةً فيها عن تحقيق أي حلم صغيرٍ من أحلامها، عاجزةً عن إيجاد السكينة والأمان والجمال في مدينتها المخنوقة بكل أشكال القهر والعذاب.

ولكنها لم تتوقف يومًا عن المحاولة، كانت قويةً بإصرارها على أن لا تستسلم للواقع، ظلت تبحث في كل زاوية، وبكل طريقة عن فرصةً للحياة، للعمل بشهادتها، للخروج من غزة إلى أي مكان آخر في العالم.

كانت تحلم بالبحر، بالاستلقاء ذات يومٍ قرب نهرٍ بطيء، أن تحدق في الشمس والأشجار، بعيدًا عن البيوت المتلاصقة ببعضها البعض، المكتظة بالأطفال المحرومين من معنى الطفولة، المهددين في أي لحظة بأن يسرقهم الموت من حضن أمهاتهم.

أرادت أن تعرف كل شيء، أن تقرأ وتكتب وتستمع إلى الموسيقى، أن تشاهد الأفلام التي تحبها، كانت تنتظر الخريف، تنتظر “أكتوبر” اللطيف، الذي يشبهها كثيرًا. وقد جاء أكتوبر، ليحملها معه، إلى السماء، والشمس، بعيدًا عن غزة، وبعيدًا عن حياتها الطبيعية القاسية في أحيائها.

كان هاجس موت مريم بهذه الطريقة يلاحقني مذ عرفتها، وكنت حريصةً في كل مرة على الإطمئنان عليها، سواء عبر محادثتها، أو عبر الدخول إلى حسابها ومتابعة منشوراتها.

من بيروت إلى غزة

تابعتني مريم بدايةً منذ سنوات طويلة، وأحبت ما أكتبه، أخبرتني بذلك مرارًا، وأخبرتني عن حبها للحياة والفن بجميع أشكاله. وأحببت شغفها بإكتشاف الأشياء، وبحثها الدائم عن المعرفة والحقيقة والأمل، ولطافتها المعهودة.

لم أسألها يومًا، أين يقع منزلها في غزة بالتحديد، في أي جانب ومنطقة وحي وشارع من قطاع غزة، التي صرنا نعرفها اليوم أكثر، بعد أن طالها القصف جميعها. نحن نعرف تفاصيل بلادنا، وأين يسكن أصدقائنا فيها، لكننا لا نطرح السؤال على البعيدين، لا سيما من يقطنون بلادًا لن يسعنا العمر أن نزورها يومًا، وأن نطرق على أبواب ساكنيها لنشرب سويًا فنجان قهوةٍ ونتبادل حديثًا. لكنني عرفت غزة من خلالها أكثر مما عرفتها من نشرات الأخبار، من خلال حزنها الطويل ومأساتها اليومية، غزة كانت بالنسبة لي مريم، بأسماء مختلفة، يوحدها الألم والحصار.

وقد عرفت مريم العالم من خلالنا، من خلال صورنا ومنشوراتنا وأحاديثنا عن بلادنا، ومعاناتنا التي مهما كبرت فهي لن تبلغ من قسوة الحياة في غزة شيئًا، وأحبته، أحبت العالم خارج هذا السجن المفتوح. أحبت البلاد البعيدة الشاعرية، المدن الساحرة حيث تكثر الموسيقى والمطر والحب، وتمنت زيارتها، لو في الحلم، لو بعد مئة عامٍ.

“ما تشوفي شر”

عندما قرأت خبر وفاة مريم، كنت استمع إلى أغنية “حدا تاني” للفرعي، الذي كان يتوجه فيها إلى حبيبته الحالمة، التي تريد الحياة في ظل كل هذا الموت، تريد أن تجتاز بسيارتها الكبيرة حدود البلاد، وتجوب الشوارع، تريد أن تنسى كل بشاعة العالم حولها، وأن تختبأ في قصر كبير، لا يشبه منزلها الصغير، وشارع بيتها الذي لا يتسع لأكثر من المشاة، ليعترف لها في النهاية أن أحلامها كلها مشروعة، لكن ليس باليد حيلة، لذا، فلتبحث عن مكان آخر، وعسى أن لا ترى شرًا.

بحثت عن أول من نشر الخبر، أردت أن أصدق للحظة أن هذا التباس أو تشابه في الأسماء، سألته : متأكد؟ أكد لي، مريم “المسكينة” على حد قوله ماتت، هي وكل أفراد عائلتها.

ماتت قبل أن تعرف طعم الخير والسعادة في حياتها، ماتت وحيدةً دون أصدقاءٍ حقيقين يشاركونها أحلامها المشروعة، ماتت خائفة في غرفتها، في شارع بيت أهلها الضيق، ولم يتنسى لها أن تعبر الحدود، في سيارة أو طيارةٍ، أو حتى سيرًا على الأقدام.

استمع إلى الأغنية اليوم وأبكي، أكررها، كأنها كُتبت لمريم الحالمة، التي لم تر سوى الشر في حياتها، وأعزي نفسي بأن روحها الطيبة تحلق في السماء اليوم، وأنها ربما لن ترى المزيد من الشر في هذا العالم المتوحش.

لسنا أرقامًا، احفظوا اسمائنا

عندما صدقت في نهاية الأمر أن مريم ماتت، وأصبح مشهد حياتها وموتها مكتملًا في رأسي، تنبهت إلى أنني طوال الست سنوات من معرفتي بها، لم أر صورتها، ولا أعرف في الحقيقة كيف تبدو ملامحها، لا أعرف طولها، أو شكل عينيها، لكنني أعرفها جيدًا، بإسمها.

كانت “مريم” صديقة لي، بأحلامها وحزنها وسعيها وخوفها، لم تكن صورةٍ، ولا زائد واحد على آلاف من ماتوا معها، كانت مريم لأنني أعرفها، وأعرف قصتها. وتذكرت، كل الذين طالبوا العالم أن يتذكرهم، واختزلوا قصصهم في سطور قصيرة، على قدر ما أسعفهم الوقت ليكتبوها، لأنهم ليسوا أرقاماً، لأن لهم أسماء وأحلام وحكايا كثيرة، سرقتها الحرب منهم على حين غفلة.

استيقظت على صوت الريح والمطر الذي يرمي برذاذه على وسادتي، وقررت بأنني سأكتب عن مريم صديقتي الافتراضية لكي لا تصبح رقمًا، مريم التي كانت تنتظر الشتاء وماتت قبل قدومه، وقبل أن تعرف معنى الحياة أو الموت خارج غزة.

21.10.2023
زمن القراءة: 5 minutes

اشترك بنشرتنا البريدية