fbpx

قبل 12 ألف عام… تغيّر مناخي كبير أدى الى ظهور الزراعة في الشرق الأوسط

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

تقول فرضية (تأثيرات درياس الأصغر)، إن شظايا مذنب متفكك اصطدمت بالضفة اليمنى من نهر الفرات، لم تتمخّض عن ذلك الاصطدام كارثة بيئية وتقلّص عدد السكان فقط، بل خلق بيئة مناسبة لظهور الزراعة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يتّفق علماء الحفريات على أن اصطدام مذنب عملاق بكوكب الأرض قبل 66 مليون سنة، أدى الى دمار هائل ونتج منه الانقراض الجماعي الخامس للأنواع على كوكب الأرض، بما في ذلك الديناصورات. ولم يبق من الأنواع نتيجة ذلك الانفجار الكبير الذي يعتقد العلماء بأنه حدث في موقع المكسيك الحالي في شمال أميركا، سوى 5 بالمئة من الكائنات على الكُرة الأرضية. ولكن كان هناك انفجار مماثل في تاريخ الأرض بتأثير معاكس، إذ ساعد على ظهور الزراعة وانتقال المجتمعات البشرية من الصيد وجمع الثمار الى مستوطنات زراعية مستقرة.

تؤكد دراسة مثيرة للاهتمام عن المناخ القديم أو ما قبل التاريخ Paleoclimate، على تعرض شمال شرقي سوريا الى ضربة مذنب كارثية، ما أدى الى انقراض واسع للأنواع وحدوث تغيرات جذرية في طبيعة المنطقة من ناحية الرطوبة والغطاء النباتي والأنواع، كما أدى الى تحول كبير في حياة السكان من الاعتماد على الصيد وجمع الثمار البدائيين الى الزراعة المستقرّة. 

وتعتمد هذه الدراسة الجديدة على فترة مناخية مهمة في تاريخ الأرض تعود تاريخها الى 12800 الى 11600 ألف سنة قبل الآن. وقد أدى ذلك الحدث المناخي الكبير في فترة تسمى بنظرية (تأثيرات درياس الأصغر) في الدراسات المتعلقة بالمناخ القديم، إلى تبريد مناخ الكوكب على نطاق واسع في نصف الكرة الشمالي عند خطوط العرض العليا، وإلى الاحترار ودرجات الحرارة المتوسطة في خطوط العرض العليا في نصف الكرة الجنوبي. 

تقول فرضية (تأثيرات درياس الأصغر) والتي بنيت عليها الدراسة الجديدة، إن الأرض اصطدمت بشظايا مذنب متفكك في تل أبو هريرة في الضفة اليمنى من نهر الفرات على بعد 80 كم غرب مدينة الرقة الحالية، ما أدى إلى تغير المناخ في فترة درياس الأصغر قبل نحو 13 ألف عام قبل الآن. لم تتمخّض عن ذلك الاصطدام كارثة بيئية وتقلّص عدد السكان فقط، وإنما نجمت منه أيضاً ظروف بيئية جديدة ملائمة للزراعة وإنتاج الحبوب. وتأتي أهمية التل الذي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، ووُجدت فيه أقدم آثار للقمح المزروع في العالم، من توفيره سجلاً أثرياً مستمراً وعالي الدقة تقريباً، عن كيفية حصول الانتقال الكبير من حياة الصيد وجمع الثمار الى الزراعة المبكرة، بما في ذلك الأنماط الجديدة الناشئة في تدجين النباتات والحيوانات في غرب آسيا. 

تأتي أهمية تل أبو هريرة، الذي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ، إلى وجود أقدم آثار للقمح المزروع في العالم، ما يوفر سجلاً أثرياً مستمراً وعالي الدقة تقريباً، عن كيفية حصول الانتقال الكبير من حياة الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة المبكرة.

يركز الباحثون في حفريات ما قبل التاريخ على حَجَر الكوارتز المكسور كدليل على انفجار هوائي كوني/محلي قريب من سطح الكوكب، وعلى الزجاج المصهور عالي الحرارة المرتبط بالصدمات، وكذلك على الألماس النانوي، والكريات الدقيقة، والإيريديوم، والبلاتين. بناءً على ذلك، توصلت الدراسة الحديثة الى نتيجة مفادها أن الانفجارات الهوائية/الاصطدامات الكونية المتعددة أدت إلى تغير المناخ في فترة درياس الأصغر. وقد نتج من ذلك انتقال كبير، إذ تغير نمط السكان من الصيادين وجامعي الثمار إلى مستوطنين زراعيين.

كان التحوّل الأكبر في قرية أبو هُريرة بالقرب من نهر الفرات، هو توقف توسع الغابات في المنطقة واختفاء أشجار الفاكهة والجوز وشجيرات التوت إلى حد كبير، مع تراجع موطنها نتيجة برودة الظروف القاحلة والأكثر جفافاً جراء الانفجار. بالإضافة الى توسع السهوب القاحلة لمسافة 200 كيلومتر تقريباً باتجاه ساحل البحر الأبيض المتوسط. 

ويعد البحث عن مصادر غذاء جديدة، بما في ذلك الحبوب والبقوليات وتدجين الحيوانات البرّية، النتيجة المنطقية لتوقف الغابات وتراجع الثمار وأعداد الحيوانات البرّية جراء ذلك الانفجار، بخاصة أن المناخ الناشئ الجديد كان ملائماً لذلك. وعلى الرغم من أن المناخ أصبح معتدلاً مرة أخرى مع بداية عصر الهولوسين (قبل 12 ألف سنة)،لكن التغير استمر نحو مناخ أكثر جفافاً، ولم تعد الغابات بعد إلى المنطقة. وقد حدث الانتقال بحسب العلماء، بعد مرور آلاف السنين على ذلك الانفجار.

 ويعدّ التحول من الصيد وتجميع الثمار إلى الزراعة المستقرة، إحدى أهم عمليات التكيف في تاريخ البشرية، بخاصة أن الزراعة كانت العامل الرئيسي في تأسيس الحضارة الحالية. وعلى الرغم من ذلك، تبقى طبيعة التطور والاستقرار الزراعي قضية مثيرة للجدل والنقاش في علم الآثار. “نحن نعترف بهذا النقاش المستمر حول توقيت وطبيعة التنمية الزراعية ،وندرك أن هذا التطور كان غير خطي وتدريجي”، يقول كتاب الدراسة. وإن نمّ ذلك عن شيء، إنما ينمّ عن صحة ما ذهب إليه الفيلسوف والمنظر الاجتماعي الأميركي لويس مورغان (1818-1881) في كتابه المرجعي المعنون (المجتمع القديم)، والذي ألهم كلاً من كارل ماركس وفريدريك إنغلز. وكتب مورغان في الفصل الثاني من الكتاب المذكور، أن الجنس البشري هو الكائن الوحيد الذي يمكن القول إنه اكتسب سيطرة مطلقة على إنتاج الغذاء؛ ولم يمتلك في البداية أي نوع من الأنواع هذه السيطرة. 

ومن دون توسيع أساس العيش، لم يكن بإمكان البشرية أن تنتشر في مناطق أخرى لا تمتلك أنواع الطعام نفسها، وفي النهاية على كامل سطح الأرض؛ وأخيراً، من دون الحصول على سيطرة مطلقة على تنوع الغذاء وكميته، لم يكن ممكناً أن تتكاثر البشرية باتجاه أمم مكتظة. تالياً، فمن المحتمل أن العصور العظيمة للتقدم البشري قد تم تحديدها، بشكل مباشر إلى حد ما، مع توسيع موارد العيش.

تكشف تحقيقات أثرية على التكسير الصادم لحبيبات “الكوارتز” أجراها فريق عمل في علوم الآثار تحت إشراف عالم الآثار البريطاني أندرو مور في موقع أبو هريرة، عن اعتماد سكان الموقع في أواخر العصر الحجري القديم (13400 ألف سنة قبل الآن) على الصيد وتجميع الثمار قبل الانتقال إلى الزراعة واسعة النطاق في أوائل العصر الحجري الحديث (7500 سنة قبل الآن). يقترح أندرو مور أن حدث تأثير درياس الأصغر أدى فجأة إلى تغير مناخي، وأصبحت الظروف المناخية أكثر برودة وجفافاً في أبو هريرة.

 وما يُلاحظ هنا، أن الانتقال من حياة الصيد وجمع الثمار الى الاستيطان الزراعي ورعي الماشية، لم يحدث بين ليلة وضحاها، بل احتاج الى ما يقرب من 7 آلاف سنة، وهي فترة أساسية تطورت فيها زراعة الحبوب والبقوليات وكذلك تربية الحيوانات على مدى آلاف السنين اللاحقة.

ما حدث في أبو هريرة بحسب العلماء، هو جزء من فرضية تأثير درياس الأصغر التي تفترض حدوث انفجارات هوائية كونية متعددة القارات في أكثر من 50 موقعاً في العالم، وتمتد لأكثر من 100 مليون كيلومتر مربع عبر أميركا الشمالية والجنوبية، أوروبا، آسيا وأفريقيا. ويشير مصطلح “الانفجار الهوائي” هنا، إلى تفجير جوي قريب من سطح الأرض بواسطة جسم كوني، نجمت عنه حرارة عالية ونفاثة فائقة السرعة من الغازات المتأينة (من غاز الآيون) والحطام الذي وصل إلى سطح الأرض. بناءً على كمية جديدة من الأدلة الحفرياتية وتفسيرات تدعم الفرضية القائلة بأن شظايا المذنب تسببت في تغيرات شبه عالمية في بداية عصر الهولوسين، تشير دراسة أسباب تدمير قرية أبو هُريرة إلى وجود صلة سببية بين الانفجارات الهوائية خارج كوكب الأرض والتغير البيئي ومسارات التحويل في نمط حياة المجتمعات البشرية. 

ويرجع العلماء عدم إعادة الإعمار المناخي في هذه المنطقة الى سابق عهدها قبل عصر الهولوسين، الى تعقيد المناخ نفسه نسبياً. فالرياح السائدة هي من الغرب، مع تأثير مناخي كبير من شرق البحر الأبيض المتوسط وتضاريس إقليمية متنوعة تؤثر على أنماط دوران الغلاف الجوي المحلية. سهل ساحلي ضيق مدعوم بجبال عالية مع الوادي المتصدع إلى الشرق، وتستمر سلاسل الجبال الإضافية شرقًا قبل أن تستقر المناظر الطبيعية باتجاه وادي الفرات وداخل شبه الجزيرة شمال شرقي سوريا.

باختصار، نجمت عن تحول مناخي كبير ومفاجئ في بداية درياس الأصغر، ظروف مناخية أكثر برودة بشكل عام في جميع أنحاء الشرق الأوسط، تحديداً في مناطقها الداخلية، حيث انخفض المناخ الموسمي بشكل واسع لجهة درجات الحرارة والهطول المطري مع تغير خطوط العرض والبعد عن البحر والتغيرات في التضاريس. 

على الرغم من أن حلقة درياس الأصغر تميزت بتحول مناخي كبير، بما في ذلك انخفاض المناخ الموسمي وانخفاض هطول الأمطار على مدار العام، تشير الأدلة إلى أن ذلك التحول لم يكن موحداً في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط بكاملها؛ أي أنه كان متبايناً. ونشأت تدرجات حادة في درجات الحرارة وهطول الأمطار بين المناطق الساحلية الأكثر رطوبة، بينما أصبحت المناطق الداخلية بين جنوب بلاد الشام والمناطق الشمالية، بما في ذلك جنوب الأناضول، الأكثر جفافاً.  كان مناخ درياس الأصغر جافاً وأكثر برودة بـ 5 درجات مئوية مقارنة بالأناضول. 

لقد قيل منذ فترة طويلة، إن تغير المناخ في فترة درياس الأصغر في الشرق الأوسط ربما يكون قد حفز التغييرات في استراتيجيات الكفاف البشرية. وسجل الكثير من سجلات المناخ القديم من المواقع البحرية والبرية في شرق البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط، تبريداً مفاجئاً وواسع النطاق، ما يشير إلى بداية فترة درياس الأصغر المناخية مع تبريد أكثر تطرفاً في المناطق الداخلية مقارنة بدرجات الحرارة الأكثر اعتدالًا في المناطق الساحلية. 

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.