fbpx

عن آرون بوشنل ويقين النّار

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في واشنطن دي.سي، يمكنك أن تجد ألف مكانٍ عام لكي تضرم النيران في نفسك. لكن في غزّة، أينما وطأت قدمك، أو خبّأت وجهك، أو لجأت، لن تجد فيها مكاناً آمناً من النيران.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فارق آرون بوشنل، الجندي في القوات الجوية الأميركية، الحياة متأثراً بحروقه، بعدما كانت السفارة الإسرائيلية في واشنطن هدفاً للاحتجاجات ضد الحرب في غزة، والتي أدت إلى قيام تظاهرات انقسمت بين مؤيدة للفلسطينيين وأخرى مؤيدة لإسرائيل، بدأت بعد أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. 

طيار عسكري في قيادة القوات الأميركية أضرم النيران في نفسه. فلنهجّيها جيّداً، فلنملأ فراغات اللغة ولنضع نقاطاً على الحروف الناقصة للمنطق شبه الكامل للحدث. طيار، عسكري، في قيادة القوات الأميركية، أحرق نفسه، بالقرب من السفارة الإسرائيلية في واشنطن، احتجاجاً على الإبادة التي تموّلها الولايات المتحدة الأميركية بحقّ الشعب الفلسطيني. 

“الحرية تنير العالم”، أليس هو الاسم الكامل لتمثال الحرية الذي يقف ثابتاً في خليج نيويورك مثل وتد اليقين الذي يثبّت المدينة في البحر خوفاً من الشكّ؟ التمثال الذي أهدته فرنسا لأميركا لمناسبة الذكرى المئوية لاستقلالها، ألا يستحقّ أن يهتزّ اليوم أكثر من أيّ يومٍ مضى؟ 

بإمكان هذه الحادثة المأساوية في بطولتها والبطولية في مأساويتها، أن تشعل في رأسك مئات الحكم والاقتباسات، كلّها متعلقة برمزية موقف طيار عسكريّ أميركيّ عارض جميع المواقف الأميركية السابقة بشأن حرية الشعب الفلسطينيّ.

أحرق آرون بوشنل، 25 عاماً، جسداً هو ملكٌ لمؤسسة عسكرية، وبزّة عسكرية هي ملك للولايات المتحدة الأميركيّة. لقد كان شخصاً واحداً وكانت ذاته متمثّلة بآداء واجبه الوطنيّ، لكنّه أراد أن يحرق تلك الذات، أن يقتلها، أن يسوّي بها الأرض، كأنّ بوشنل فهم في تلك اللحظة أنّ جسد الفرد هو خير دليل على دور السلطة. 

كان الفعل والحدث أكبر منه بكثير، تماماً كالحروب والمجازر، القاتل واحد دائماً، أمّا الضحايا فمجرّد أرقام. ما هو دورنا نحن الأرقام الأحياء إذاً؟ أيّ موت يمكننا أن نُحيي وكم جسداً يجب أن يشتعل لكي يفهم العالم بكامله معنى عبارة “أوقفوا النار”؟!

بدى بوشنل في الفيديو الذي بثّه على الهواء مباشرة عبر منصة Twitch، وكأنه يستعد للقيام بعرض عسكري، إذ إنه مُتوقع من هؤلاء الذين هم في رتبته نفسها، أن يموتوا أبطالاً ومنتصرين فداءً للولايات المتحدة وليس نقمة عليها فداءً لفلسطين. لا أحد يريد أن يموت في النهاية، لكن ثمة من يصرّ على القتل والإبادة. 

موت جنديّ أميركي واحد على الأراضي الأميركية كفيلٌ بأن يقول شيئاً ضد جنون العالم بأسره، أما صرخة آلاف من البشر المجتمعين تحت وابل من الصواريخ وأمام فوهات الدبابات ووابل الرصاص، ليس بإمكان صرخاتهم أن تحدث ولو ملمتراً واحداً من ثقبٍ في جيب العالم المتخم بالأكاذيب.

نُقل بوشنل إلى المستشفى مصاباً بجروح خطرة تهدد حياته، بعدما ظلّت بشرته البيضاء تحترق إلى أن صار وجهه مشابهاً لوجه ضحايا المجزرة التي ترتكبها إسرائيل بحقّ الشعب الفلسطيني. كأنّه قال لبني جلده في واشنطن دي سي، أنا لا أريد أن أكون أنتم، ولا أريد أن أنظر في مرآتي أثناء آدائي واجبي العسكريّ، وبينما تفوح مني رائحة المستعمرين، وأن أرى وجه جلّاد. منذ تلك اللحظة، ارتدى الجنديّ وجه الضحية وتمكّن حينها من الصراخ بصوت حُرّ، معلناً أنه ومن تلك اللحظة ومن ذلك المكان، لا يريد أن يشارك في مذبحة ضد أبرياء.

“لا أريد أسلحة، أريد مطفأة حريق”

أثناء الحضور الفوري لرجال الخدمة السرية، المكلفة حماية الشخصيات البارزة في الدولة الأميركية، وتجمّعهم حول بوشنل لمحاولة إخماد ناره، مذهولين به وكأنه قذيفة سقطت عليهم من السماء، ظهر أحدهم وهو يساعد في إطفاء النيران وأحدهم الآخر يصوّب مسدسه نحو بوشنل بينما هو ملقى على الأرض يختنق بآخر أنفاسه. حينها قال أحد رجال الخدمة السرية جملة فيها من الحقيقة أكثر ما هو موجود في تاريخ أميركا بكامله: لا أريد أسلحة، أريد مطفأة حريق. 

يا للجملة المناسبة. عنوانٌ عريضٌ بحجم فيل، مناسبٌ لوصف قرن كامل من المجازر والاستعمار، إذ هذا هو تماماً ما تصدره الولايات المتحدة، الصواريخ عوضاً عن الحرية. الدعم المالي والفيتو عوضاً عن وقف إطلاق النار. الحرب، عوضاً عن مطفأة الحريق. 

الحقيقة هي أنّ النيران لا تُخمد بالمسدسات. وليس بإمكان أحد أن يستفيد من محاولة قتل شخص ميّت بالفعل أو إخافة شخص يحترق. لكن ما هو السبب الذي يجعل رجل أمنٍ أميركيّ يرفع المسدس في وجه شخص يحترق ويطالب بالحقيقة؟ لأن نيران الحرية ببساطة لا يجب أن تُضرَم على أرض تابعة للولايات المتحدة.

لكن، ماذا تشبه تلك الجملة حقاً… لا أريد الأكاذيب، أريد الحقيقة؟ لا أريد الموت، أريد الحياة؟ لا أريد تمويل الحرب، أريد إيقافها؟ لا أريد نيران الحرب، أريد نيران الحرية؟

الحقيقة بإمكانها أن تجد طريقها دائماً من خلال اللغة، وأحياناً يحدث ذلك من دون علم أو انتباه من قائلها، لهذا السبب نفسه يترجم الشعر المآسي على أنها بطولات والجنون على أنّه منطق. “لا أريد مسدساً، أريد مطفأة حريق”، كانت هي كلّ شيء وكل المعنى. 

في تلك اللحظة، أسرت تلك الجملة العالم بكامله في بضع عبارات، كانت ساذجة وجديّة في آنٍ معاً، ساخرة ومأساوية، ثم وضعت البطولات إلى جانب الوهم، ووقف إطلاق النار إلى جانب عدّاد الموت المتسارع، اختصرت جميع تناقضات العالم بمعناها الضيّق باتساعه، في حدث واحد، في مكان واحد وإلى الأبد.

كان أمام بوشنل كل الوقت في العالم لكي يترك الولّاعة من يده وليشتمّ رائحة البنزين أو الثنر أو أيّاً كان السائل الذي استحمّ به ويندم. كان بإمكانه أن ينجو وأن يظلّ حُرّاً طوال حياته، على أن يعيش ذنباً طفيفاً يؤرق راحته من حين  الى آخر كالصداع، لكن أن يصرّ على إسكات الذنب الكبير الذي يقف على كاهله وأن يرفع صوت الحرية الحقيقية بعدما تعطّلت اللغة لديه عن التعبير عن وجعه الأليم. 

لا بد أنّ آرون بوشنل كان مجنوناً حقيقياً لكي يرفض حقيقة ما تفعله الولايات المتحدة من جنون. لكن ما هو الجنون حقّاً؟

كتب نيتشه عندما تناول شخصية هاملت لويليام شكسبير: “لا ليس الشك، بل اليقين هو الذي يقود الى الجنون”. فإذا كانت نيران الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين هي اليقين الجديد، فإنّ النيران المشتعلة في جسد طيار أميركي نصرة لحرية الشعب الفلسطيني هي الشكّ العقلانيّ الوحيد المتبقي ضد الموت.

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.