fbpx

5 حكايات عن نساء “يكافحن في سبيل الحياة” في العراق

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

نستعرض في هذا التحقيق قصص أربع نساء عراقيات من ذوي الاحتياجات الخاصة، وقصة خامسة لناجية من السرطان، وحكاياتهن في بلاد الرافدين مع تحديات الإعاقة والمرض في ظل التقصير الحكومي والجهود التي بذلنها من أجل الاستمرار في الحياة، وخلق شبكات دعم لبعضهم البعض.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

تعثّر قيام الدولة التي يطمح إليها العراقيون بعد عام 2003، وتفتّتت مفاصل الدولة ومسؤوليتها عن ضمان مقومات حياة المواطنين والمواطنات، ومنذ تلك اللحظة، كان ذوو الاحتياجات الخاصة والمصابون بالسرطان ضحية الإهمال بكل أشكاله في العراق. 

لم تجد هذه الفئة، لا سابقاً ولا اليوم، الاحتضان والرعاية الكافيين ليقع أفرادها ضحية النبذ والاستثناء والرفض: رفض العمل، رفض الاندماج، رفض الدراسة.

يشير الجهاز المركزي للإحصاء في العراق، إلى أن عدد ذوي الاحتياجات الخاصة في 13 محافظة من أصل 18، لعام 2016،  وصل إلى مليون و700 ألف شخص. لكن تقديرات الأمم المتحدة تبين وجود 15 في المئة من ذوي الإعاقة في العراق، وإذا أخذنا بالاعتبار أن آخر إحصاء لعدد سكان البلد هو 40 مليوناً، فالنسبة التقريبية هي 5 ملايين شخص.

أما بالنسبة الى مرض السرطان، فيقدر عدد المصابين به في العراق وإقليم كردستان بأكثر من 33 ألفاً و800 شخص، حسب المرصد العالمي للسرطان، في حين أشارت وزارة الصحة في أحدث تصريح لها في ما يخص السرطان، وجود أكثر من 30 ألف إصابة. 

من بين هذه الإحصاءات، تحضر حكايات خمس نساء، لم تكن تجربتهن مجرد مسارات شخصية نحو الأمل، بل ساهمت كل واحدة منهن في تحقيق إنجازات مهمة، تخص واقعها وواقع الذين يعيشون الظروف نفسها، خصوصاً النساء اللاتي يخضعن لصعوبات مضاعفة، كحال  ملايين العراقيين غير القادرين على تلبية حاجاتهم الأساسية أو حتى تأمين الدواء.

رسل علي… ناجية من السرطان تمدّ جسور العون والدعم

بدأت رسل علي (25 عاماً) رحلتها مع السرطان بسن مبكرة للغاية، لم يكن الأمر سهلاً عليها، لم تكن تعلم أن الإغماء المتكرر الذي يصيبها بعد ممارسة الرياضة في الجامعة، هو بداية إصابتها بالسرطان، لكن “ستتمكن من مهاجمته والقضاء عليه، عندما تشعر بألم الآخرين، وتقرر دعمهم” حسبما تقول.

 ساهمت رسل مع أصدقاء لها من محاربي السرطان، في افتتاح منظمة “صحيح”، وهي أول مؤسسة معنية بحلقات الدعم النفسي لمرضى السرطان، وتوفير العلاج المنقطع، وجمع المال من للعمليات والتفاصيل المتّصلة بها. 

تقول رسل: “كانت الجرعات الوريدية الكيماوية مثل النار في جسدي، وأحياناً لا يستجيب لها سوى شعري، الذي تمشطه لي والدتي وهو يتقطع، وتخبئ الكثير منه تحتها، لتريني القليل منه، تمسح به دموعها وتحتضني، كان مشهد عائلتي المنهارة حافزاً لأن أجعل ابتسامتهم تعود مجدداً”.

أشهر العلاج في المستشفى الخاص، دفع رسل الى التفكير بالانتقال إلى المستشفيات الحكومية. تقول رسل: “الخدمة تكاد تكون معدومة في المستشفيات الحكوميّة، وأحياناً لا يمكننا لوم الممرضة التي عليها -لوحدها- رعاية أكثر من عشرين مصاباً بالسرطان في غرفة واحدة،  بينما راتبها 300 ألف دينار عراقي- 150 دولاراً،  لكني كنت أبحث عن مكان لا أشعر فيه بالوحدة، المستشفى الحكومي ساعدني على التعرف الى مصابين كثر، صرنا نساعد بعضنا، حتى أننا أصبحنا نضع العلاج لبعضنا البعض”. 

أثبت العلاج الكيماوي لاحقاً عدم قدرته على تقليص المرض أو شفائه، إذ أكدت التحاليل شفاء رسل لفترة بسيطة من سرطان الدم، ثم عاد المرض سريعاً بعدها.

 قرر الأطباء أن زراعة النخاع هي الوسيلة الوحيدة كي تعود رسل الى حياتها الطبيعية، تقول: “كانت كلمة غير طبيعية، لم أعد مذاك الى حياتي الطبيعية”.

 توضح رسل أن رحلة خمس سنوات من محاربة السرطان جعلت منها شخصاً آخر، شخصاً يعرف كيف يحب الحياة، ويناضل من أجل يوم إضافي فيها، تقول: “لم أتعامل مع السرطان كمرض شخصي، يصيبني وحدي ثم أشفى منه وأعود الى حياتي، رأيته من وجهة نظر أخرى وعين ثانية، بالمشاركة، أن تشارك بكاءك وتقسمه الى نصفين أو عشرة أنصاف، لم لا؟”.

من الجيد أن نخاع أخت رسل الكبرى كان مطابقاً لحاجتها، تشرح  رسل أن القسوة الحقيقية بدأت فعلياً بعد إجرائها الزراعة، تقول: “هي رحلة قاسية للغاية، كان يحاول الطبيب تخفيفها بالقول إنه مؤقت”. لكن الأمراض بدأت بالتوسع في جسد رسل من دون هوادة، تضيف: “لم يتطابق جلدي مع النخاع الجديد، إذ بدأ بالانسلاخ والتقرح. أما جلد وجهي، فكنت أسلخه بيدي، وأفكر، لعل من الأفضل بقائي في المنزل. إذ كنت أضطر لارتداء خوذة الحدادين عند خروجي لحماية وجهي من تسلخات جديدة، ومن التنمر. ثم تجمعت المياه فوق قلبي وكدت أموت لولا إجراء عملية طارئة، وبعدها أصبت بهشاشة العظام”.

حاولت رسل، على رغم إصابتها بهشاشة العظام لسنتين، العودة إلى جامعتها، لكنها لم تقو على السير من دون  الكرسي المتحرك، تحاول جاهدة، لكن يقع قسمها في الطابق الرابع في الجامعة، ولا يوجد ما يسهل وصول أصحاب الكراسي المتحركة إلى أعلى، لا في الجامعات ولا الشوارع.

 يحملها والدها على ظهره كل يوم، حتى الطابق الرابع، ما يؤذي جسدها وجسده، إذ أصيب هو بألم في فقراته فيما أصيبت هي بخلع في كتفها.

تقول رسل: “هذا الحادث الذي أجبرني على ترك الجامعة مرة أخرى، جعلني اليوم أعمل على إنجاز مشروع سيكون الأول من نوعه في العراق، وهو استيراد سيارات خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، توفر لهم السلام وتدعم دمجهم في المجتمع، وتوفر لهم فرصة العيش بشكل طبيعي”. 

أخذ الأمل بيد رسل على طريق الشفاء، وتعرفت على محمد الذهبي، حمد فراس، وغيرهما من المصابين بالسرطان، الذين يحاولون جاهدين التنبيه والتوعية بخطورته وبنقص الأدوية وقلة اهتمام الحكومة بالمرضى، فكانوا بمثابة حلقة دعم.

لعبت السوشال ميديا أيضاً دوراً في التوعية، هي مكانهم الصغير، يتحدثون داخلها عن أحلامهم وأمنياتهم بالشفاء، يواسون بعضهم البعض، إلى أن توسعت حلقتهم الصغيرة وأصبحوا مجموعة من الأصدقاء الذين يحاولون دعم مصابي السرطان في العراق. هذه المجموعة تطورت لتصبح اليوم “منظمة صحيح”.

ما هي “منظمة صحيح”؟

يقول محمد الذهبي (24 عاماً) وهو مبتكر فكرة المنظمة عام 2023: “في البدء، كنا نشكل حلقات الدعم النفسي لمن هو غير قادر على الخروج من المستشفى، ثم تطور الأمر وصرنا نفكر بمكان آمن يجمعنا سوية، مكان حيث نستطيع أن نعبر فيه عن مشاعرنا من دون خوف ونظرات الآخرين، مكان يمكننا أن نكون فيه خالين من السرطان”. 

بسبب دورية زيارة الى المستشفيات في أوقات مختلفة، يشرح الذهبي كيف أن الناس يريدون من المصاب بالسرطان ترك دراسته، تناول علاجه وانتظار الموت أو الشفاء، وعليه ألا يمارس الرياضة ولا يفكر بحياته.

يقول الذهبي: “لعلنا جميعنا مررنا بهذه الفترة، لكن إن استمر المرض طويلاً، فهل نستسلم؟ جمعنا السرطان والفيسبوك، ثم بدأنا بالخروج سوية، واكتشفنا أن الوقت الذي ينقضي بيننا، ساهم في قدرتنا على مغادرة عوالم الأدوية، وممارسة هواياتنا، وحتى الرجوع الى المقاعد الدراسية، صرنا نتحدث بكل شيء إلا السرطان، وما أفرحنا هو عودة رسل إلى الجامعة وبدئها العمل فعلاً”. 

تعتمد “منظمة صحيح” على دعم مريض السرطان نفسياً، والأعضاء موجودون على مدار الساعة بانتظار الزوار. يقول حمد فراس، أحد الأعضاء، إن هناك أكثر من 50 شخصاً يحضرون وبشكل دوري الى المنظمة، ليكونوا جزءاً من حلقات الدعم النفسي. 

يصف حمد نشاط المنظمة قائلاً: “تعرفنا على مصاب باللوكيميا من خلال مواقع التواصل، ولم تكن لديه القدرة على الخروج، حالته المتقدمة فرضت عليه مكوثاً طويلًا في المستشفى، فقررنا المثابرة على زيارته لتقديم الدعم والضحكات له”. يكمل حمد حديثه قائلاً: “كل مرة نتجه نحوه، كان يظهر تحسناً في مزاجه حتى أنه يؤكد عودة الدم إلى وجهه، لكن والده اعترضنا، لمشاكل سابقة مع ولده، رفض زيارتنا مستقبلًا، وبأسف، فقد الشاب حياته بعد أسبوع فقط. تركت قصته أثراً عميقاً فينا، وجعلتنا نؤمن بفكرة المكان الذي سيكون ملجأنا بصورة جديّة”. 

“ماذا يفعل بك الله بعد أكثر من هذا؟ ألا تفكرين بقتل نفسك بسبب بشرتك هذه؟ ما الذي يعنيه أن تتحدثي عن السرطان بفخر؟”، هذه  الأسئلة ساهمت في جعل رسل أكثر صلابة وقدرة، تقول: “تجرأت وخلعت الحجاب لأنه كان يساهم بزيادة التقرحات في فروة رأسي، أقف لساعات تحت المياه لتبريد جلدة رأسي”، فيديوهات رسل عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، كانت بوابة لتتعرف على زملائها الذين هم اليوم ضمن منظمة “صحيح”.

أرادت رسل أن تتجاوز التوعية بالسوشال ميديا، خصوصاً أن المصاب بالسرطان يملك من الطموح أكثر مما يملكه غير المصاب، هذا الأمر جعلها تفكر -مع محمد- بإنتاج برنامج إذاعي، تطوعي بالكامل، بالتعاون مع إذاعة وزارة الداخلية، ويشمل حوارات مع مصابين بالسرطان، وذوي الإعاقة، ورؤيتهم للحياة، ومحاولاتهم وسط مجتمعات قمعية، لا توفر الدعم.

تقول رسل: “هذا البرنامج ساعد الكثيرين على التواصل معنا. بعضهم كان يخشى التصريح بإصابته للآخرين، ثم بدأ يعرّف نفسه على أنه محارب السرطان”.

كل شيء لدعم الآخرين 

لم تنل رسل وأصدقاؤها أي دعم أو تحفيز، استمروا بالبحث عن مقر صغير، استمر لأشهر. بعد مئات المحاولات، تبرع لهم شخص بإيجار منزل لمدة سنة، أما باقي الأمور الجوهرية فكانت من مسؤولية الفريق. يتحدث محمد الذهبي “لم نفكر، أنا ورسل، والأصدقاء أن يكون مجرد مكان، أردنا أن يكون هذا المكان تجمعاً لدراستهم وإطلاق مواهبهم وهواياتهم، إضافة الى توفير العلاج، ذلك أن الكثير من أدوية السرطان غير متوافرة في العراق، وإن توافرت فإن أسعارها باهظة الثمن، ولا يستطيع الكثيرون توفيره”. 

الأصدقاء الذين افتتحوا المنظمة والبالغ عددهم عشرة، بدأوا فعلاً باستقبال المصابين في المنظمة، حيث تتوافر لهم سبل الراحة والخصوصية والأذن التي تسمع كل شيء، والتي تدعم. يقول حمزة، أحد أعضاء المنظمة، إنه وبلطف حاول إخبار سائق التاكسي إصابته باللوكيميا، فارتعب السائق وطلب منه النزول، كان هذا الحادث كفيلاً بصمت حمزة تجاه مرضه. لكن لقاءه برسل والآخرين، جعله اليوم واحداً من المنظمين.

تسعى منظمة “صحيح” الى جمع التبرعات من المعارف لتأمين العلاج للزائرين. يُعبر محمد عن التحديات، قائلاً: “إذا لم نحصل على تبرعات كافية، نُقدم مدخراتنا ونحتفظ بقدر يسير للحياة اليومية”. 

ما الذي يحتاجه مصاب السرطان؟ 

حمد فراس، البالغ 20 عاماً، والذي شُخِّصت إصابته بسرطان الدم المزمن في صغره، يؤكد أهمية وجود مكان مثل “صحيح”، حيث يُسهل على المصابين التفاعل والشعور بالدعم. يشير إلى أنه خلال حلقات الدعم، يُمكن للشباب مشاركة تجاربهم بحرية، مثلما يُظهر ذلك في الأفلام، ويتساءل: “لماذا لا ننقل هذه الفكرة إلى العراق؟ حيث بإمكان المصاب أن يُعامل في مرضه برفق وليونة، وهو يتحدث عن مخاوفه.

يتذكر حمد اللحظة المؤلمة التي تعرض فيها لإصابة بشظية في رأسه جراء انفجار قبل 12 عاماً، وأدت إلى ظهور سرطان الدم المزمن حسب تأكيد طبيبه بعد أشهر قليلة من إصابته، والذي سأله: هل تعرضت لإصابة أو جرح في رأسك؟ على رغم أن التحاليل أظهرت تماثله للشفاء قبل سنة، إلا أن السرطان عاد بينما هو مُحصن بالحب والدعم من أصدقائه في “صحيح”.”الأيام بوجود أشخاص يحملون نفس مرضك وخوفك وحتى طموحك لمحاربته، يجعلها أسهل بكثير مما تعيشه وحدك” يتحدث حمد.

تضيف ميسرة محمد (21 عاماً) أنها كانت مصابة بسرطان العظام قبل أن تتعرف على أصدقائها؛ “حينما عاد المرض الخبيث هذه المرة الى رئتي، بكيت في بادئ الأمر، تخيلت من أين سأجلب كل هذا المال للعلاج، ذلك أن حالتي تتطلب علاجاً خارج العراق. كان دعم رفاقي بمثابة معجزة، حلقوا شعرهم جميعاً تضامناً معي، ثم ذهب معي محمد، واستقبلوني عند عودتي الى بغداد، وتوافرت لي أدوية كثيرة. هذا كله لم يحصل لي سابقاً. فكرة توسعنا واستقبال أشخاص مثلنا، تساهم في إنقاذ أكبر عدد ممكن من المصابين، وتدعم الآخرين الذين يشعرون على الأقل بالخوف والوحدة.

دعم النساء في المنظمة 

استقبلت المنظمة أكثر من خمسين شخصاً حتى الآن، إذ يجتمع الفريق مع كل القادمين، بيد واحدة، يستمعون الى بعضهم، يحضنون بعضهم، ثم يبدأون بالعمل جدياً على توفير العلاج. تقول رسل علي، إن الكثير من الذين شاركوا حلقات الدعم النفسي هم من النساء اللواتي يحضرن بخيبة بعدما يقرر أزواجهن تطليقهن بسبب إصابتهن بالسرطان أو خوفهن من نبذ المجتمع ورفضه لهن. من سيتزوجني بعد؟ لا أحد يريد إنجاب الأطفال مني، سيصابون به. تحاول المنظمة، عوضاً عن تقديم الدعم، أيضاً، تصحيح المعلومات المغلوطة حول السرطان. 

بالنسبة إلى الإحصاءات، فيقدر عدد المصابين بالسرطان في العراق وإقليم كردستان بأكثر من 33 ألفاً و800 شخص، حسب المرصد العالمي للسرطان، فيما بينت وزارة الصحة بأحدث تصريح لها في ما يخص السرطان وجود أكثر من 30 ألف مصاب. 
وبحسب المرصد العالمي للسرطان، فإن العراق يقع في المركز 108 عالمياً بمعدل الإصابات، بمعدل 133 إصابة لكل 100 ألف شخص، ويحتل المركز السادس في الوطن العربي، ويتقدم سرطان الثدي في نسب الإصابات.

نجلة عماد…لاعبة تنس طاولة تحصد الذهب بيد واحدة

“بحثت عائلتي عن أطرافي المفقودة لأيام، فيما كنت أرقد في المستشفى، جلبها جارنا لنا بعد ثلاثة أيام، سقطت على سطح منزلهم بفعل قوة الانفجار. سألت والدتي كثيراً وأنا أبكي وأبحث عنها؛ أين أطرافي؟ أين ذهبت يدي؟ وماذا حل بساقيّ؟ تجيبني والدتي: سيرجعها إليك الرب حينما تكبرين، أصبري. لم أتخيل أن فقداني أطرافي سيجعلني بطلة آسيا في تنس المنضدة يوماً ما. 

لم يكن سوى يوم عادي، تجلس فيه نجلة عماد (19 عاماً) وهي تنتظر بحماسة عودة والدها المنتسب في الجيش العراقي من العمل. كانت تبلغ أربع سنوات فقط. مدللته وحبيبته، ارتجفت فرحاً عند سماع صوت سيارته وجرت سريعاً، تقول إنه أمر معتاد تفعله كلما يحضر. 

هو يجلب الهدايا لها كل مرة، وهي تحب فكرة أن يضعها في حضنه ويبدأ بقيادة السيارة في الحي من أجلها. تلك المرة، لم تستطع رؤية ما أحضر لها، إذ وبمجرد ما حملها، ووضعها في السيارة، قبل أن يستقلها هو، انفجرت عبوة كانت موضوعة من لقتل والدها. 

طارت يد نجلة اليمنى وساقاها، والهدية. نعود الى الحاضر، وهي تحمل حقيبتها وتتكئ بعكاز على ثانية لتكمل تدريباتها في إحدى قاعات اللجنة البارالمبية، تحضيراً لأولمبياد باريس المقررة إقامته في أغسطس/ آب، كلاعبة العراق الوحيدة. 

تقول نجلة إنها بقيت في مستشفى بعقوبة/ حيث تقيم لأكثر من ستة أشهر، أجرت خلالها عشرات العمليات لأطرافها والشظايا التي اخترقت جسدها الطري من دون رحمة؛ كنت منهارة، نعم صغيرة جداً، لكني أتذكر كل شيء، أنن قبل يوم كنت ألعب في الحي مع صديقاتي، ثم أمرر يدي الباقية الوحيدة على قدمي ولا أشعر بها. أتذكر بكاء والدتي فوقي يبلل وجهي، اعتقدت أن هذه الدموع لعلها تنبت في جسدي شيئاً مجدداً، لكن ما أراح قلبي أن والدي لم يتضرر. 

هل ينتهي الحلم بانفجار؟

نجاتها من الحادث الإرهابي عام 2008، كان طريقاً مشبعاً بأشواك ممتدة على طوال سنوات دراستها، بالحزن والتحديات، استفسارات لا تنتهي لعائلتها، هل من الممكن أن تعود للركض كما زملائها في المدرسة؟ كان مشهد جري أقراني في ساحة المدرسة، فيما أجلس أنا على كرسي يحركه لي أحد من عائلتي، شيئاً يبعث الوجع في روحي، تقابلني أسئلتهم: أين ذهبت أطرافك؟ لم لا تملكين قدمين كما نحن؟ تقول نجلة. 

أرادت كثيراً ترك المدرسة لأكثر من مرة، لكن جملة أمها “سيعوضك الله” كانت كافية لبدئها محاولات النجاة من آثار البقاء حية في السيارة المفخخة. توضح نجلة، التي سرقت منها الحرب أطرافها المهمة، أنها صارت تريد “الانتقام” من الإرهابي بالفوز في الحياة. “بعد انتهاء امتحاناتي النهائية في الخامس الابتدائي، أحضر لي والدي هدية “آيباد”، بالطبع فإن مهمتي الوحيدة فيه أصبحت هي البحث عن رياضات تناسب أشخاص فقدوا 3 أطراف من أصل 4، وأمضيت وقتًا طويلاً أشاهد لاعبين على الكرسي المتحرك، وهم يلعبون تنس المنضدة. قلبي دق وشعرت بشيء ينبض مجدداً في روحي، لكني اكتشفت أن هذه الرياضة غير متوافرة في مدينتي بعقوبة/ وليس هنالك وجود لقاعات تدريبية، تبين نجلة عماد. 

عانت نجلة ولفترة طويلة من عدم القدرة على استخدام يدها اليسرى. ومع ذلك، تمسك بقوة الكرة، وتضربها نحو الحائط بيدها التي تبدأ معها حياة جديدة، تعود لضربها. وتستمر على هذه الحال فترة. فيُقرع الباب، وتأتي الفرصة التي أبرزت موهبتها وقوتها. تقول: “المدرب حسام حسين، وهو مدرب معروف في ديالى، كان يبحث عن أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، ليرى إن كانوا يستطيعون الدخول في معسكرات رياضية تدريبية. “من حسن حظي، أنه سألني ما إذا كنت أريد التدرب على تنس المنضدة، فشعرت وكأن جملة أمي قد تحققت فعلاً”. 

عادت الى الحائط هذه المرة بتدريب حقيقي، صار هو الخصم، مع التدريب في منزل المدرب لأنه يحوي على منضدة، كانا هذان المكانان كفيلين بتدريب نجلة لمدة ستةأشهر وجعلها تدخل بشكل مباشر للمشاركة في بطولة العراق لعام 2015 لتحصد فيها المركز الأول وتنضم بشكل مباشر الى المنتخب الوطني، كأصغر لاعبة في العراق بعمر العشر سنوات فقط. 

“تبدلت حياتي للأجمل، صحتي النفسية أصبحت أفضل بكثير، كنت صغيرة ولم ألحق للاستمتاع بأطرافي، لكن وجدت من تنس المنضدة متعة توازي شعور ما فقدته”. 

من بعقوبة الى بغداد ثم العالم 

لطالما حاول والدها صنع المستحيل من أجلها، إذ وعلى رغم عمله، كان يذهب بها بسيارته الى بغداد ويعود الى بعقوبة في اليوم نفسه، بعد انتهاء تدريباتها، وعلى رغم كبر سنه في الوقت الحالي، إلا أنه ما زال يجلبها بنفسه من محافظة الى أخرى. نجلة تتدرب لأكثر من أربع ساعات لوحدها، ثم تطلب مساعدة إخوتها وأبيها للتدرب ساعتين معهم، وبالطبع فإنها تحتاج الى القاعات الرئيسية في العاصمة لوجود زملاء كثر ومدربين ستستفيد منهم، يقول نائب رئيس اتحاد اللجنة البارالمبية لؤي السراي. 

في البطولة الأولى لها، فازت على لاعبات يغلبن عمرها الكلي، بعمرهن الرياضي مع تنس المنضدة، إنها مثابرة، تأتي الى قاعات التمرين مع مناهجها الدراسية ولم ترسب سنة واحدة، تدرس في فترات الاستراحة. يوضح السراي ويؤكد أن جميع مشاركات نجلة الدولية كانت تحدث أثناء دراستها، تمتحن وتحضر الى المطار بكتب جديدة، تنافس اللاعبات، تفوز، ثم تعود الى مدرستها. 

لأكثر من أربع سنوات من اللعب المحلي والدولي، كانت تحصد نجلة الذهب والمراكز الأولى، عن طريق الكرسي المتحرك. حاولت لعشرات المرات صنع أطراف لها، فعلت ذلك في محافظات عدة من العراق، وكانت كل مرة تأتي بنتائج مختلفة؛ الطرف ضيق، أو عريض، قصير، أو جارح، ومسبب للكثير من الندوب.

ما زالت تحتفظ بمحاولاتها الحصول على ساق، من دون أن تشعر بالألم أو أن تبدأ أطرافها بضخ الدماء. يقول لؤي السراي: قرر الاتحاد الرياضي توفير أطراف مناسبة لها، لتتمكن نجلة وبعد تسع سنوات على إصابتها، من التمرن على بدء حياة جديدة وتخطو الخطوات مرة أخرى.

لم يكن أمراً هيناً أبداً، آخر مرة مشت فيها نجلة كانت في الرابعة، وفجأة عندما أصبحت في الخامسة عشرة. تقول: فكرت بجميع الذين هم غير قادرين على تحمّل تكاليف شراء الأطراف، إنها باهظة الثمن في العراق، ولا توفر المصانع المحلية أي جودة حقيقية، بخاصة لمن يحترف المجال الرياضي، بل تبدو كأنها عقاب إضافي على ما حصل له. 

بالتأكيد، فإن أفضل محطات نجلة تكمن في فوزها على لاعبات مهمات. “أول مرة فزت، تمنيت لو أن لي قدمين. لم أستطع القفز لشدة الفرح، فعلت ذلك بيني وبين نفسي من خلال الكرسي المتحرك. بعد تركيب الأطراف، صرت على الأقل، أستطيع أن أرفع كلتَي يدي محتفية بالنصر. وتمكنت نجلة بمسيرة لا تزال مبكرة للغاية، من المشاركة في أكثر من 30 بطولة عالمية وعربية، غير تلك المحلية، وحصدت في هذه البطولات جميعها، على المركز الأول أو الثاني، كما كنت أصغر لاعبة تشارك في الألعاب الأولمبية، بعمر الخامسة عشرة، وأصغر لاعبة في تاريخ بطولة آسيا تحصد فضيتها، تقول نجلة. 

الفوز على بطلة آسيا 

“نجلة تعرضت لخسارة مرتين من المتربعة على عرش بطولة آسيا لأربع دورات متتالية، وبطلة العالم، اللاعبة لي كونوو، آخرها في بطولة آسيا، وبسببها حصدت الفضية. أخبرتها في المرة الثالثة فيما هي تتدرب بيد وتحاول مسك كتابها لقراءة الامتحانات النهائية بيد ثانية، أخبرتها أنها يجب أن تفوز هذه المرة. كانت حريصة، لا تنام، تتدرب وتقرأ، فلعبت معها في نهائي أسياد آسيا، وتمكنت من النصر عليها بثلاثة أشواط مقابل شوط واحد”، يوضح لؤي السراي، ويضيف أن فوزها في أسياد آسيا، جعلها في المركز الخامس عالمياً.

“لم أكن خائفة، بل متحمسة لاختبار مهارة تدريباتي مع اللاعبة نفسها التي حرمتني من ذهبية آسيا، قلت في سري، سأنتزع الفوز لأجل السلام في بلدي” تقول نجلة، وتبين شعورها بالخيبة، بعدما علمت أن تأجيلها مادة التاريخ سيحرمها من إعادته في ما بعد. “من المحزن أن العالم يبتهج بي فرحاً عند عودتي الى البلد بالذهبية، لكني اكتشفت أن تحميل المواد قد تم إلغاؤها في هذه السنة الدراسية حصراً، أي أنه يجب عليّ أن أعيد السنة الدراسية كاملة، وهي ليست أي مرحلة، أنا طالبة سادس إعدادي”، بحسب قول نجلة. 

لم ترسب طوال فترة دراستها، فخلال سفرها المستمر والمعسكرات التدريبية والبطولات، كانت تحمل في داخلها كتبها وامتحاناتها، لكنها اليوم تشعر بالحيرة، ولا تعلم ما الذي يجب أن تفعله. تقول: ليس لدي اعتراض على إعادة السنة الدراسية، لكن امتحاناتها النهائية ستكون في تموز/ يوليو حيث أولمبياد باريس.

تضيف: “أنا لاعبة دولية، وأحاول في الوقت نفسه الحفاظ على دراستي، وفحوصاتي الطبية وعلاجي خارج العراق، لا أتمنى أن تضيع سنتان من حياتي الدراسية فقط بسبب مادة واحدة، لأن العام المقبل سيحمل امتحانات السادس والأولمبياد في آن، ماذا أفعل؟”، تتساءل نجلة، وتوضح أنها حاولت كثيراً من دون نتيجة. “نعم أنا أحصل على كل الدعم من اللجنة البارالمبية والشباب والرياضة، لكن الأمر ليس بيدهم، الكل يركز على كوني بطلة آسيا، لكن لا أحد يلتفت الى فكرة أني طالبة أيضاً”. 

الأرقام ضعيفة للغاية 

 كانت بيئة العنف السياسي في العراق خصبة لتجريد الآلاف من المواطنين حياتهم وأطرافهم وأحلامهم، المئات. إذ يبين إحصاء لمنظمة ضحايا الحرب في العراق، أن هنالك ما يقارب الـ40 انفجاراً لسيارة مفخخة أو حادثاً إرهابياً أو هجوماً انتحارياً كان يحصل كل شهر بدءاً من عام 2003، ليتطوّر العنف ويزداد ويصبح في ذروته في عام 2007، إذ وصل عدد حوادث العنف شهرياً في العراق الى أكثر من 700 حادث عنف مسجّل، أدت الى قتل ما يقارب 201484 مواطناً، هذا عدا عن حوادث الاغتيال أو الاختطاف أو القتل على الهوية وغيرها. 

تؤكد الأمم المتحدة، -من دون تحديد الإحصاءات الدقيقة- اعتبار العراق إحدى أكثر الدول التي تضم معوّقين وفاقدي أطراف بسبب الإرهاب والحروب، مبينة أن 5 في المئة من إجمالي سكان العراق هم من ذوي الاحتياجات الخاصة.

يوضح موفق الخفاجي، رئيس جمعية المعوّقين في العراق، أن الألغام والسيارات المفخخة ساهمت في ازدياد عدد من حالات البتر، والكثير منهم يحتاجون الى أطراف اصطناعية. ومنذ 2019، ليس هنالك استيراد لهذه الأطراف من الجهات المعنية، الأمر الذي سبّب بتأخير دمج المصابين في المجتمع وزيادة الإحباط النفسي والاجتماعي والاقتصادي والتعليمي لديهم. 

شيماء الهاشمي…رعاية الأطفال من ذوي التوحد

“أنا سعيدة بولديّ، لقد علمانّي كيفية الشعور بالآخرين، كنت أخشى الفشل، كيف لأم مصابين بالتوحد، أن تنجح في مجتمعها؟ لكنهما وبعكس ذلك ساعداني كثيراً”. 

تستعد شيماء الهاشمي (45 عاماً)، وهي أم لطفلين مكفوفين ومصابين بالتوحد، للبدء باللعب مع صغيريها وأطفال آخرين، إذ افتتحت أول مركز مجاني لرعاية ذوي التوحد في العراق، فيما تستمرّ في حملات التوعية به على صفحتها الشخصية على مواقع التواصل.

ظهرت علامات التوحد على آية (17 عاماً) بعد بلوغها الرابعة، كانت تمشي بصورة عادية وتكرر الكلمات التي تقال لها، ثم بدأت تدور حول نفسها وتمشي على أطراف أصابعها، وأحياناً، لا تستجيب لمن يناديها، وكانت أمها تعلل سبب غرابة تصرفاتها بعدم قدرتها على الرؤية، إذ وُلدت مكفوفة. 

لم تتخيّل شيماء أن ابنتها ستكون مصابة بالتوحّد، بخاصة أن أخاها الأكبر منها لم تظهر عليه أي من تلك الأعراض، تقول بحزن: بكيت كثيراً، قصدت كل أطباء بغداد لأجلها، بدلاً من السير بها الى المتنزهات ومدن الألعاب مثل أقرانها، أصبح الأطباء أملها الوحيد، ثم وبعد عام شُخَِّصت  بالتوحد. لم أدرك وقتها ما يجب علي كأم أن أفعله”. 

كانت شيماء قد حصلت على عمل لها في وزارة التجارة، قبل أن تقرر تركه بعد أسبوع واحد من معرفتها بإصابة ابنتها، “فضلّت وضع كل شيء خلفي، الحياة والعمل والأحلام، والتركيز على رعاية ابنتي، أليس هذا عملا”؟ تتساءل شيماء. 

 كانت فكرة أن صغيرتها لن تتعلم أو تدخل المدرسة، مسبباً لألم كبير في روح شيماء، فالتعامل معها لم يكن سهلاً. توضح أن المجتمع يريد من الأم أن تكون بطلة خارقة، لا تخطئ، لا تنهار، وألا تنجب أطفالاً مصابين بالتوحد. الملامة تقع عليها في كل شيء، مهما حاولت استشارة أحدهم أو طلبت معونة. وبحزن توضح أنها لم تكن تعلم من تستشير، كما غالبية الأطباء الذين تراجعهم يمنحونها أدوية وعقاقير فقط، ما يزيد من سوء حالة صغيرتها. 

“حاولت إدخال ابنتي الى معهد خاص بالتوحد، فكانت تعود بانتكاسة جديدة كل يوم، شعرت أن ابنتي تضيع من يديّ، واجهت التنمر والمعاملة السيئة والعنف اللفظي والجسدي من مدرساتها، ما جعلها ترفض دخول أي مكان سوى البيت”، تقول شيماء. 

قلة المراكز الخاصة والدعم 

ليس في العراق سوى معهد حكومي واحد معني بالتوحد، وعشرات المعاهد الأهلية التي لا ترى من العوائل سوى جيوب. فقررت شيماء تولّي مهمة رعاية ابنتها في المنزل فقط. حاولت من خلال الورش التدريبية والقراءات المتكررة والحديث المتواصل مع أطباء خارج العراق، فهم كيفية احتواء آية. تقول إنها حتى بعد هذا القرار، تلقت الكثير من عبارات اللوم والابتزاز العاطفي والاتهام بإهمال ابنتها.

لم تستسلم شيماء، وتقول: “أعتقد أن المرأة في مجتمعنا ولو امتلكت 10 إيادٍ، لن تحمي نفسها من عقاب المجتمع. فبعد قراري رعاية ابنتي في المنزل، اتهموني بالتقصير مع ولدي البكر وزوجي، ودائماً ما يشعرونني بالتأنيب وجلد الذات. أعمل على سبعين جبهة، هم دائمو سوء الظن بأمومتي، لكني كنت أحلم دائماً برؤية ابنتي سعيدة وتبتسم، هذا كل ما كنت أطمح إليه”. 

تجربة شيماء مع ابنتها جعلتها تستبق تشخيص ابنها الثالث محمد (11 عاماً)، فحاولت التعامل معه بالطريقة نفسها حالما لاحظت عليه أعراض آية الأولية نفسها.

استجابة محمد لطرق رعاية والدته، أتت بنتائج أسرع وأكثر ضماناً، فصار يساعد أخته ويحتضنها حينما يهاجمها القلق. شعرت شيماء بالبهجة والأمل، وتطوّرت حالة أولادها نحو الأفضل، فيما ظل المجتمع على نظرته القاسية تجاههم. 

تصادف شيماء الكثير من المواقف الحزينة فيما تسير مع ولديها، نظرات وعبارات المارين، رفضهم لعب أولادهم مع صغيريها، تفاصيل كثيرة ساهمت في جعل شيماء تفكر بإنشاء صفحة طوعية، للتوعية بمرض التوحد. ولم يثنها عن ذلك الرفض الذي واجهته من متابعي الصفحة، اتهامات، وتخوين، وأسئلة على سبيل: هل تفكرين بالربح المادي من خلال ولديك؟ هل تستعرضين مرضهما بتفاخر؟ تقول شيماء: “كثيرات من الأمهات يكتبن لي أنهن يشعرن بالخجل والخوف من نظرة المجتمع، إحداهن بقيت مصرة على وضع ابنها في مدرسة حكومية، فتعرض للتنمر والإساءة من الطلاب والمعلمين، انتكست حالته وأصبحت شديدة، النساء يتعرضن لضغط مجتمعي هائل، يضطررن –لتخفيفه- الى تجميل الحقيقة بالكذب”.

صعوبة التقبّل المجتمعي 

كانت الصفحة التي أنشاتها شيماء بمثابة دعم جماعي ونصائح متبادلة وخبرات يحتاجها ذوو المصابين بالتوحد، هكذا رأتها شيماء، التي لم تكن تنشر صور ولديها على صفحتها، بل تكتفي بنشر فيديوات تصوّرها في استوديو وتدفع الكثير من المال، فقط لإيصال المعلومات بشكل مجاني. تبين في حديثها أنها فكرت في نساء أخريات وأمهات قد لا يجدن الدعم. فيما هي وجدته من زوجها وابنها البكر، “خفف عليّ ذلك كثيراً ضغط الآخرين، بينما تواجه الأخريات صعوبات مضاعفة من المجتمع والعائلة والأقارب وحتى الزوج”، تشرح شيماء.

تتابع: “أحياناً، أشعر بضغط هائل وأبكي لساعات حين أشعر بأن التواصل بيني وبين ابنتي قد توقف، بعدما ترفض إحدى طرقي التعليمية، حينها أحس بأن عليّ البدء من الصفر”.

حلمها واضح وواحد ومرتبط بأمومتها، وهو أن ترى ولديها قادرين على الاعتماد على نفسيهما مستقبلاً. تتساءل شيماء، “أفكر كثيراً، ما الذي قد يحصل لهما، لو أني صرت بعيدة بجسدي عنهما؟ هذه الفكرة تؤرقني، وتدفعني الى تعليمهما أكثر ما استطعت”.

دفعها هذا الحلم، في ظل كل الظروف التي تواجهها شيماء يومياً، الى التفتيش عن مكان تستطيع تحويله الى مؤسسة مجانية معنية بمصابي التوحد. تقول إنها وبعد ثلاث سنوات من المناشدات والتوعية على صفحتها، تأكدت أن هذا الدعم من الممكن تحويله الى شيء على أرض الواقع، أن تلمس الصغار فعلاً، وتسير بهم، تعلّمهم وتقوم بحملات توعية لذويهم وجهاً لوجه. 

تلفت شيماء: “ظللت لأكثر من سنة أبحث عن راعٍ للجمعية، جميع الوزارات والمؤسسات تعد ولا أحد يفي، لا أحد يعلم ما الذي يحصل لذوي التوحد في العراق، المعاناة تسكن قلوب الأمهات والآباء وحدهم، كان الأمر محبطاً وشاقاً للغاية، لكني أصريت”.

مؤسسة تدعم المصابين التوحد مجاناً 

افتتحت شيماء الهاشمي مؤسسة “مميزون” المجانية لمصابي التوحد، وهي الأولى من نوعها في العراق. تستقبل المؤسسة يومياً عشرات الحالات، وتقدم بيئة مريحة للأطفال مع تنوع في البرامج، بوجود مدربات هنَّ في الحقيقة، أخوات أو أمهات لأطفال التوحد، وتم اختيارهن بعد اختبارات دقيقة لضمان احترافيتهن في التعامل مع مختلف الحالات.

توضح شيماء، أنها تركت عملها يوماً من أجل صغيرتها، لذا افتتحت اليوم مقراً مرتبطاً بولديها، تقول وهي تضحك: “ابتكرت مكان عمل يستقبل ولديّ ويتقبل حالتهما الصحية. مكان لا أرى فيه نظرات تشعرني أو تشعر الأمهات العاملات بالسوء. 

في البداية، كنت أضغط كثيراً على نفسي، فلا أنام لأيام لأثبت للآخرين أني أم حقيقية وقادرة. أما اليوم، فأشعر بتصالح هائل مع توحد ولديّ، وسعيدة بالمرحلة التي وصلا إليها، فهما يعتمدان على نفسيهما بنسبة 70 في المئة؜ لآية، و90 في المئة لمحمد الذي يعزف على البيانو ويغني. ليست لدي أحلام شخصية، كل حياتي مرتبطة بهما وأنا ممتنة لوجودهما في حياتي، فهما علماني الكثير. حلمي هو أن يكونا قادرين كلياً على حماية نفسيهما من وحشية البعض في المجتمع، وأن يستمرا بحب الناس رغم كل شيء”. 

انعدام التثقيف وإهمال حكومي

يبيّن طبيب علم النفس التربوي السلوكي، أحمد نصر، أن بعض الأطباء وبمجرد أن ينظروا الى حركات الطفل، يقررون إصابته بالتوحد، فيما قد لا يكون ذلك صحيحاً.  ويقول إن عائلات كثيرة يتصرفون بعاطفة، لذا يختارون الطبيب الخطأ، وإن الإهمال الحكومي ساهم في ازدهار عمل الأطباء في غير اختصاصهم، وهم بذلك قادرون على إنهاء حياة الكثير من الأطفال بسبب التشخيص الخاطئ. يضيف أن هنالك أطباء أسنان أو باطنية، يعتمدون علاجات تدمّر المصابين بالتوحد، مشيراً الى أن “الحكومة لا تدرك حقيقة ما يجري بحق الأطفال، يجب أن تمنع بعض الأدوية التي تُعطى للمرضى، إذ يعطي قسم من الأطباء مضادات اكتئاب خاصة بالكبار، كما أن بعض الآباء يرفضون الاعتراف بحالة أولادهم، والضحية دائماً هي الأطفال، ويجب حمايتهم”.

المفارقة، هي غياب الإحصاءات الدقيقة حول نسب المصابين بالتوحد، والتي تظهر أن العراق يحتل المرتبة 193 عالمياً في انتشار التوحد بين الأطفال، بمعدل حالة واحدة بين كل 300 طفل حسب موقع “وايس فوتر”. لكن الجهاز المركزي للإحصاء، أكد وجود أكثر من 350 ألف شخص معوّق بالفهم والإدراك، من دون تحديد نوع الإعاقة وما إذا كان التوحد يشمله. 

في إقليم كردستان، وبحسب إحصاء جمعية كردستان للتوحد، سُجل وجود حوالى 3300 طفل مصاب، وكانت نسبة الإصابة واحداً لكل 150 طفلًا قبل أن ترتفع لتصبح حالة واحدة من بين كل 90 طفلًا. 

ويؤكد رئيس الجمعية تسجيل 25 حالة انفصال أزواج خلال الثلاث سنوات الأخيرة بسبب إصابة أطفالهم بالتوحد.

مينا رغيد…فقدان البصر لا يهدد الحلم

“كان حلمي دراسة الفضاء والفلك، دخلت الفرع العلمي في الثانوية من أجله، وهو صعب للغاية، أخبروني قبل تخرجي في الجامعة بأيام، أني فاقدة للبصر، والقانون العراقي يمنع ذوي الاحتياجات الخاصة من دراسة التخصصات العلمية في الجامعة”، تقول مينا رغيد.

تسير مينا (30 عاماً) نحو مكتبها في جامعة الموصل من دون الارتكاز إلى أحد. قررت أن تحفظ المكان وتمشي بهدوء، على رغم فقدانها البصر. تبدو سعيدة بكونها الأولى على جامعتها لأربع سنوات متتالية، ما مكّنها من أن تصبح معيدة فيها، وسيمكنها قريباً من أن تصبح أستاذة اللغة العربية في كلية الآداب. 

ولدت مينا بفقدان تام للبصر، لم تر الأشياء ولا تعرف كيف يكون شكلها، اعتمدت -منذ صغرها- على يدها، التي كانت بمثابة عين تصلها بالعالم الخارجي وتعرّفها بشكل الأشياء. تقول إنها كانت تتخيل أشكال زملائها في المدرسة ومدرسيها، وتصف لهم كيف تتخيّلهم. 

تضيف: “كانت إحدى المدرسات تطلب مني أن أتجه نحو مدرسة خاصة، وكان هذا الطلب يؤذيني للغاية، لأني لم أحمّل يوماً أحداً عبئاً، كنت طالبة مجتهدة للغاية، وأطمح الى النجاح وإيصال فكرة أن فاقد البصر قادر على إعطاء المجتمع شيئاً ما، شيئاً مهماً”. 

تتابع: “المدرسة الخاصة تضم أشخاصاً مختلفين من ذوي الإعاقة، متلازمة داون، التوحد، والمتأخرين عقلياً، ومن غير المعقول أن يجتمعوا في مكان واحد، فكل شخص يحتاج الى عناية وطرق تدريس مختلفة، فكيف لي أن أدخل مكاناً يحدّ من قدرتنا جميعنا على الدراسة؟”.

لا تزال تذكر مينا كيف أنها تخيلت مستقبلها، عالمة فضاء وفلك. وقد أثرت فيها كثيراً العالمة مريم شديد، التي رأتها على إحدى المحطات الوثائقية تعتمد حاسة السمع في ذهابها الى أبرد وأحر نقطتين في الأرض. 

الحلم الذي لا ينتظر 

ليس هناك علاج لحالة مينا، فالطب لم يتوصّل حتى هذه اللحظة الى زراعة شبكية العين، ولا تنتظر مينا تلك اللحظة حتى تباشر بترتيب أحلامها، إذ طمحت الى دراسة اختصاص تحبه، ثم اكتشفت أن دراسة الفرع العلمي في الإعدادي لثلاث سنوات لن يخدم أحلامها بشيء. لن تستطيع دراسة الهندسة مثلاً، ولا الطب، أو الصيدلة، أو أي شيء يتعلق بالعلوم، ومنها الفضاء. كان عليها أن تختار تخصصاً أدبياً. تقول: “ما أحزنني هو طريقة التعامل معنا نحن فاقدي البصر، على أننا غير ذي جدوى، العشرات من الأمنيات تسقط عند باب الجامعة، فقط لأننا لا نرى مثل الآخرين”. 

كانت مينا تعشق القصائد، فأصبح هذا العشق بمثابة ملاذٍ لها. وفي إحدى المرات، أدّت قصيدة أمام جمع من الطلاب، فاندثر الخوف في نفسها. تقول إنها انغمست كلياً في الإلقاء وفي إيقاع القصيدة، وفجأةً، تبدد كل شيء من حولها. “هذا الإحساس العميق بالتواصل مع القصيدة جعلني أجد نفسي مُلهمةً بمتابعة دراسة الآداب بعد تلك التجربة”.

منذ وطأت قدماها الابتدائية حتى وصلت الى الجامعة، اعتمدت مينا على والدتها لقراءة النصوص والمناهج، تقول إن مسجلات الصوت الكلاسيكية ثم خانة التسجيل في الهواتف بعد تطور التكنولوجيا، كانتا عينها بعد صوت أمها. تلفت: “درست النحو والصرف، فقه اللغة، القواعد، ومناهج تحتاج الى عينين، تفسر لي والدتي الحركات في الجمل أثناء نطقها لها، تلك الحركات التي لا تعيش من دونها اللغة العربية، كنت أستمتع بتخيلها ورسمها بأصابعي في الهواء عند سماعي طريقة نطقها”.

الجميع متعاونون مع مينا، فالزملاء أصبحوا سنداً لها في الجامعة، والأساتذة كذلك. لكن الكارثة بدأت حين احتلّ “داعش” الموصل عام 2014، واستولى على منزلهم ومحل والدها للنجارة. حدث ذلك فيما كانت تتحضّر لامتحاناتها النهائية للمرحلة الأولى. تقول مينا: “هربنا لدهوك. غالبية زملائي بدأوا فعلياً بتأجيل السنة الدراسية، أما أنا فأردت أن أنجح، شعرت أن كل شيء قادر على أن يُسرق مني بلحظة، بصري، بيتي وجامعتي كذلك، وأن خوضي الامتحانات هو محاولة لمواجهة أيام موجعة مقبلة. حدثت الاختبارات في ظروف صعبة للغاية، لكني نجحت وكنت الأولى على الجامعة كلها”.

كانت الأولى دائماً 

كانت سنوات مينا الدراسية الثلاث في ما بعد، في دهوك. تشير مينا: “المئات من الزملاء تركوا الجامعة، وبدأوا رحلة البحث عن النجاة، كلنا اعتقدنا أن ما حدث سينتهي بعد يوم أو يومين، لكنه استمر طويلاً.

على رغم كل الصعوبات، تمكّنت مينا وبشجاعة من أن تكون الأولى -من دون منافسة- على دفعتها في الجامعة للسنوات الثلاث المتتالية، كان هدفها الذي تراه في خيالها، أن تقف أمام الطلاب في القاعة الدراسية وأن تكون معيدة في جامعتها، وأن تعود الى التدريس في مكانها الحقيقي داخل قلب الموصل. توضح: تخرّجت في الجامعة بالتزامن مع تحرير الموصل في 2017، وكنت أنتظر لفارغ الصبر لحظة عودتي إليها كمعيدة”.

قبل أن تحصل مينا على وظيفتها المنتظرة، كان بانتظارها فحص طبي لدقائق ستُدوّن نتيجته في سجّلها. نسي الجميع أنها فاقدة البصر وبحاجة الى استثناء من الفحص الذي قد يحرمها من هذه الفرصة؛ كان الطبيب مجحفاً وعنصرياً للغاية فقال لها: أنت عمياء، لن تعملي في الجامعة وأمر تعيينك لن يمر، حتى لو كنت الأولى على جامعات العالم، ولو وقف الجميع معك، بمجرد توقيع مني، لن تصبحي معيدة، فلم تحصل مينا فعلاً على التعيين. تقول: “يكون أحد أسوأ أيام حياتك، حينما تدرك أنك ركلت كل سنين التعب والسهر والأمراض التي أُصبت بها بسبب قلة نومك من للاستماع الى التسجيلات والحفظ، كل شيء انهار وكأني كنت أبني جبلاً من رمال في هذه البلاد”. 

غياب الدعم الحكومة

حكاية مينا تحولت الى قضية رأي عام؛ فساندها المئات وطالبوا بنيل حقها، حتى أن المطران العام للسريان الأرثوذكس في العراق، نيقوديموس داوود، أصدر بياناً يطلب فيه من الحكومة العراقية إعادة مينا الى الجامعة. يقول في البيان: “حباً بالرب، فقدنا كل حياتنا وماضينا وأحبتنا بسبب الحرب، لا تُفقدوا أولادنا مستقبلهم كذلك”. يضيف: “تمكنت الطالبة من نيل كرسيها واستحقاقها بعد فترة حاولت فيها ألا تستسلم، لأنها لم تكن الأولى على كليتها وحسب بل الأولى على جميع كليات جامعة الموصل وأقسامها”.

وفي رحلة جديدة، تقدمت مينا الى دراسة الماجستير، واختارت تخصصاً صعباً للغاية، كانت تستمتع به حسب قولها، ولم ترد إلا إنجازه، وهو الجملة الشرطية الجازمة في شعر الأخطل الصغير، مع تركيبها ودلالاتها. تقول: “بالتأكيد وددت دراسة الجمل غير الجازمة أيضاً، لكن ديوانه يضم 500 صفحة من القصائد، التي تناوب على تسجيلها والداي، وأعدت قراءة الكتاب خمس مرات متتالية، وتوصلت الى قصائد مسموعة في الإنترنت، بالإضافة الى مصادر طلبتها من دول عدة. بدأت بعدها رحلة الرد والتلقين مع والديّ لكي يكتبا أطروحتي التي بلغت 160 صفحة، وهي الأولى من نوعها كدراسة. استغرقت سنة ونصف السنة، نلت بعدها درجة الامتياز على رسالتي”. 

تخطو مينا اليوم نحو دراسة الدكتوراه، بالإضافة الى استعدادها وتحضيرها لصفها الأول المقبل مع الطلاب. 

“استنفدتني الدراسة بشكل لا يمكن شرحه، وصل طبيبي الى مرحلة لم يعد قادراً فيها على وصف أدوية تخفّف عني الأوجاع التي أشعر بها” بحسب مينا.

تشرح مها أحمد، وهي عضوة في منظمة “برايل” لتأهيل المكفوفين، أن فاقد البصر ليس فاقداً للأهلية، لكن الدوائر الرسمية وغير الرسمية تتعامل معه على هذا الأساس. السبب بالطبع يعود الى إهمال الحكومة ونسيانها هذه الشريحة كلياً. 

تضيف: “من الجيد أن لدينا منظمات تقوم بحملات توعية بشكل دوري، وتحاول تسليط الضوء على مشكلة “فقدان البصر” والتأكيد على وجودنا ضمن هذا المجتمع”. وتلفت الى أن “المجتمع يحرّض على كرهنا أنفسنا، ونحاول كنساء مكفوفات أن ندعم بعضنا، لكن هناك من هو غير قادر على الخروج من المنزل،  بسبب رفض العائلة، والخوف من تنمر الآخرين”. 

ما الذي يحتاجه المكفوف في العراق؟ سؤال لا يطرحه أحد على نفسه، وكأن البلد خال منهم كلياً، ليس هنالك تمثيل لهم، ولا دعم أو حتى توفير أبسط الأمور لهم. بينما في كل دول العالم حتى المتأخرة منها، ثمة مناهج بلغة برايل للطلاب المكفوفين في المدارس الحكومية، لكن يبدو أن الحكومة والمجتمع يغفلان عن حقوق المكفوفين وغيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة. ففي الطرقات، المباني، ومواقف السيارات، يواجهون صعوبات كبيرة عندما يتنقلون من دون مرافق. 

في هذا السياق، يوضح حامد العقابي، رئيس الجمعية الوطنية لرعاية المكفوفين في العراق، أن البلد متخم بالمنظمات الخاصة بفاقدي البصر، ويتساءل: ما الفائدة؟ المئات من حاملي الشهادات العليا كالماجستير والدكتوراه، لم ينالوا حتى اليوم فرصاً للتعيين أو العمل، بعضهم بلغ سن التقاعد وهو لا يزال من دون عمل أو راتب. 

يضيف العقابي: “آلاف الطلاب من فاقدي البصر حُرموا من مستقبلهم الدراسي بسبب الكثير من التعقيدات، سواء في المدارس أو الجامعات أو الدوائر الرسمية”.

بشرى كنو…النضال لأجل قصيري القامة

“حلمت بأن أصبح طبيبة حتى اصطدمت بسؤال مديرة معهد التمريض: “هل بطولك هذه ستصلين لتشكيل مغذي الدواء للمرضى؟ أرجوك، قدمي خدمة للبشرية واتركي المدرسة، لن تنفعي نفسك ولا المجتمع”. 

لم تكن بشرى كنو (38 عاماً) تعلم ما يعني “قصر القامة”، لكن عبارات التنمر عليها كانت كافية لكي تشعر أنها مختلفة. على رغم ذلك، جعلها هذا الأمر أكثر تعاطفاً مع شريحة قصيري القامة في مدينتها ذي قار- جنوب العراق، ما دفعها الى إنشاء أول جمعية معنية بهذه الفئة وتقديم الدعم المادي والنفسي لها. 

محاولات الاندماج 

لا أحد يعلم بشعور الأب وهو – في فترة الحصار الاقتصادي على العراق (1990-2003) – يتنقل كل أسبوع من قريته في أطراف محافظة الناصرية، الى بغداد، بحثاً عن علاج لأولاده. توضح بشرى أن والدها أحبها وإخوتها كما خُلقوا، لكنه كان يريد إنقاذهم من ألسنة الناس. تقول: “كان يحملني على كتف، وأخي الثاني على كتف آخر، يسأل الأطباء ويجري كل الفحوصات المطلوبة لنا، إنها طفرة وراثية، لا وجود لقصيري القامة في كل عائلتنا، هذه إرادة الله، يقول الدكتور، ويرفض إعطاءنا أي إبر، لكن والدي كان يدفع كل ما يملك من أجل إبر الهرمونات ويحاول جاهداً لإسكات لوم الآخرين، يبكي ويقول؛ أريد أن أموت وأنا أحاول على الأقل حمايتكم من ظلم المجتمع”.

حتى المكان التربوي كان قاسياً مع بشرى، لكن بوجود والدها، لم تسمح للكثير من الألم بولوج قلبها. ولم تستطع أيضاً، أن تقف يوماً لتكتب على السبورة، تضع كتبها الدراسية تحتها وتكتب، تطلب من أحد أن يحملها لتنزل على الأرض، حينما ترفع يدها للمشاركة في الدرس تتم السخرية منها. لم يكن أي شيء يدفعها الى الاستمرار في الدراسة؛ تقول: “أدت وفاة والدي الى انكسار كبير في روحي، لكن من حسن حظي، أن لي أكثر من عشرة أبناء عم، يجتمعون حولي في ساحة المدرسة ويشكلون دائرة تمنع اقتراب أحد مني للسخرية”.

  تشير بشرى الى أنها انتقلت من القرية إلى المدينة حيث يقيم عمها، من أجل استكمال دراستها، لكن حتى هذا الأمر لم يدم طويلاً. إذ توضح أن ما من مصدر دخل كان يدخل المنزل بعد وفاة والدها، فاعتمد عمها على راتب إعالة لا يكفي للعائلة المكونة من أربعة صغار وأم، تقول”أمي تعيش على فطرتها، هي طيبة للغاية وودودة، لا تقرأ أو تكتب، بدأ اخوتي يكبرون فعلياً، وعليهم دخول المدرسة. أعمامي أبلغوني أنهم غير قادرين على رعايتنا، وقد لا يتمكنون من صنع مستقبلنا، كان الأمر محبطاً بالنسبة لي. وما زاد الطين بلة، أنهم أكدوا عدم جاهزيتهم لرعايتي في المدرسة، وطلبوا مني تركها، لكني أحب الدراسة بشكل لا يوصف”.

العمل المبكر للنجاة  

لم يتمكن الخوف من فرض سطوته على بشرى. استطاعت على رغم صغر سنه، إذ كانت تبلغ آنذاك 11 عاماً فقط، إيجاد فرصة لضمان مستقبل إخوتها وإدخالهم المدارس؛ “لم يكن لي خيار آخر، إما أن أترك وإخوتي التعليم وأعود الى القرية ونعيش تحت إعالة الدولة، أو أعمل، وهذا ما فعلته. حاولت التعلم على أصول الخياطة وطرقها، ومن ثم بدأت العمل. أخطرت الجيران بعملي الجديد”. تكمل بشرى حديثها قائلة: “بدأت بتجميع المال لتعليم أخوتي، ولم أكن أترك ماكنة الخياطة حتى الثالثة فجراً، ثم أبدأ بالقراءة لمدة ساعتين، وصباحاً أذهب الى المدرسة. وهكذا كان روتين حياتي، تعب شديد كنت أنساه مع نجاح إخوتي في المدرسة. 

استمرت بشرى في العمل على ماكينتها التي صممتها خصيصاً لتناسب طولها، حتى محاولتها الدخول قسم التمريض، لتتفاجأ برفضها بسبب قصر قامتها. كما أن حرب 2003 جعلتها تفكر بترك الدراسة والعمل لضمان دخلها الشهري واستمرار دراسة إخوتها. 

تلفت: “كان لا يزال شغفي بالطب قائماً، تقدمت للعمل في وزارة الصحة، كإدارية حين بدأت الحرب، رجعت الى الريف حيث عشت لسنة ونصف السنة”. ومع غياب أي دعم لفئة قصيري القامة، بدأت بشرى تفكر ملياً بهم، وكيف يعيشون في محافظتها. تقول: “بدأت التواصل مع بعضهم، حاولنا إنشاء جمعية معنية بقصيري القامة في الناصرية، بعد التواصل مع الجمعية المركزية داخل بغداد. بالطبع لم يدعمنا أحد، وكانت لقاءاتنا تتم في الأماكن العامة وفي بيوتنا، وبعد الإحصاء تبيّن لنا أن عدد الأشخاص من قصيري القامة 209، 85 في المئة منهم لم يستطيعوا إكمال التعليم بسبب حالتهم”.

جمعية لقصيري القامة 

تمكّنت بشرى من تأسيس الجمعية عام 2014 مع عضوين آخرين في الناصرية، غايتها الرئيسية نيل هذه الفئة حقوقها. تقول بشرى إنها لم تكن تعلم أن قصار القامة ليسوا مشمولين مع ذوي الإعاقة، وفي الوقت ذاته لا يلقون معاملة الناس العاديين نفسها.

تشير بشرى: “بدأت بجمع المعلومات وملء الاستمارات الخاصة من أجل ضمان حقوق قصيري القامة”، الذين يعانون في غالبيتهم من أمراض مزمنة، متروكين ومهملين، يضطرون لمزاولة مهن شاقة جسدياً ولا تناسب بنيتهم الجسمانية، فقط من أجل العيش، “كنت أبحث عنهم، وأتواصل مع الجمعية الأم في بغداد لفعل أي شيء يضمن بحمايتهم”. 

استطاعت بشرى مع رفيقيها مقابلة مدير صحة ذي قار، الذي أكد لهم أنه غير قادر على فعل شيء سوى تقديم أسمائهم للحصول على أرقام السيارات بشكل مجاني، وهذا هو أحد القوانين المفعلة لذوي الاحتياجات الخاصة في العراق. استطاعت بشرى الحصول على استثناء يمكّن قصار القامة من دراسة التخصصات كالطب والتمريض، حلمها الذي لم تتمكن من تحقيقه.

كانت للنساء قصيري القامة حصة كبيرة من اهتمام بشرى، خصوصاً أنهن في غالبيتهن لم يكمل دراستهن. فأصبحن حبيسات المنازل، ينتظرن الرحمة، غير قادرات على الخروج، لا يستقبلهن أي مكان للعمل. تتابع: “درّبت العشرات في ورش لتعليم الخياطة والحرف اليدوية وتعلم مهارات المكياج وتصفيف الشعر للنساء، بتن يشعرن بحرية أكبر، على الرغم من خوف غالبيتهن في البداية. أحاول جاهدة فهم ما يمكننا ـن نكونه من خلال دعم بعضنا البعض”.  

واجهت بشرى بشجاعة التنمّر الذي لاحقها كظلّها. تدرّبت على التمريض في وزارة الصحة حيث تعمل، وداوت المرضى في قريتها ووقفت الى جانبهم. وساعدت إخوتها الى أن أنهوا دراستهم وتزوجوا واستقروا.

على رغم ذلك، لم تكن بشرى تدرك أن ماكينة الخياطة التي ظلت صديقتها لسنوات طويلة، ستسبّب لها نخراً في رأس الفخذ وكسراً في الجانب الأيسر، وهي الآن بحاجة الى عملية تبديل مفصل، كلفتها أكثر من 5 ملايين دينار عراقي (3 آلاف دولار). ومنذ سنتين، قدّمت طلب إخلاء طبي، لتتمكن من إجراء عمليّتها على نفقة الدولة ووزارة الصحة، وما من مجيب. تقول: “تمكن أشخاص كثر -بالواسطة- من إجراء عملياتهم، وحالتهم أقل خطورة مني. فأنا اليوم ممنوعة من السير والحراك، ولا أريد سوى الإنصاف”. 

عشرة آلاف شخص بلا رعاية 

رئيس جمعية “قصير” العراقية، محمد عيدان جبار، يوضح أنه لا يوجد إحصاء رسمي في العراق لشريحة قصيري القامة، نتيجة إهمال الدولة ومؤسساتها لهم، ولكن يُقدر عددهم بأكثر من عشرة آلاف. جبار، هو أول عراقي يرشح نفسه للانتخابات البرلمانية، من قصيري القامة، بعدما ملّ من وعود البرلمانيين بتقديم الدعم النفسي والمعنوي والمادي لهم.

يطمح جبار الى توفير فرص عمل وتأمين صحي لهم، مع التأكيد على أهمية الاعتراف بحقوق المواطنة، بالإضافة الى رفع الوعي حول قبول هذه الشريحة في المجتمع.

يتابع جبار: “العقلية السائدة تجاه قصيري القامة أدت إلى عزلتهم اجتماعياً، إذ مُنعوا من المشاركة في الحياة العملية ومن الزواج أيضاً، في ظل غياب الاهتمام بتأهيلهم وتنمية قدراتهم النفسية والبدنية. فيما ينبغي تحفيزهم على الإبداع والمواهب من خلال تطوير مهاراتهم، ناهيك بالعمل على وقف التنمر الذي يحد من فرصهم في العمل ويقوض حياتهم الاجتماعية”. 

جلبير الأشقر - كاتب وأكاديمي لبناني | 06.05.2024

بحجة “اللاساميّة” تترافق إبادة شعب فلسطين مع محاولة إبادة قضيّته 

ظهور حركة جماهيرية متعاطفة مع القضية الفلسطينية في الغرب، لا سيما في عقر دار القوة العظمى التي لولاها لما كانت الدولة الصهيونية قادرة على خوض حرب الإبادة الراهنة، يشكّل تطوراً مقلقاً للغاية في نظر اللوبي المؤيد لإسرائيل.