fbpx

عن عنف “ولاد بديعة” الذي يعرفه السوريون جيداً 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

 قد يبدو العنف في “ولاد بديعة” زائداً عن حده أو استعراضياً أو غير موجود، هذا ما نراه من الخارج، لكن أعتقد، وبالنسبة لكثير من السوريين، فهذا العنف بصرف النظر عن حيثيات قصة بعينها هو عنف منطقيٌّ جداً لا بل معروفٌ على نطاق واسع وهو متعلق بالبنية السياسية الديكتاتورية للبلد.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في نقاشات مع الأصدقاء، من غير السوريين، كان أول تعليق لهم على مسلسل “ولاد بديعة” المعروض ضمن الدراما الرمضانية هذا العام أنّ به عنفاً كبير، وشطحات في أشكال هذا العنف وطرقه.

والمسلسل يروي قصة عائلة عبر زمنين مختلفين، في منطقة الدبّاغات بدمشق، وتحديداً من رجل ميسور له ثقله وأنجب أبناء بعضهم من سيدة لديها قصور ذهني. المسلسل عبارة عن مسيرة طويلة من الأحداث الدموية، والعنف المجتمعي والأمني، والقسوة حتى بدا هذا العنف سمة بارزة في العمل. 

 قد يبدو العنف في “ولاد بديعة” زائداً عن حده أو استعراضياً أو غير موجود، هذا ما نراه من الخارج، لكن أعتقد، وبالنسبة لكثير من السوريين، فهذا العنف بصرف النظر عن حيثيات قصة بعينها هو عنف منطقيٌّ جداً لا بل معروفٌ على نطاق واسع وهو متعلق بالبنية السياسية الديكتاتورية للبلد.

حاولت الشرح للأصدقاء المستغربين أن العنف في “ولاد بديعة” ليس من خارج السياق المحلي بل بدا لي وكأنه مبرر ومنطقي وليس غريباً عن البيئة السورية على الأقل في العقد الأخير. عصابات تخطف، علاقات عائلية محطمة، سرقة، قتل بدم بارد، والكثير من العنف الذي بات من يوميات الحياة. 

وهذا الكلام ليس لمديح المسلسل الذي عليه علامات استفهام كبرى بشأن من يقف خلفه وعلاقاتهم في الداخل السوري، لكن نقاشي هو حصراً في مشهدية العنف الذي احتواه. 

بدت لي مشاهد العنف في المسلسل كأنها لا تنحصر بـ 13 عاماً من الحرب والقتل وسهولة خروج المجرمين عن القانون بل بـ 50 سنة من حكم عائلة الأسد، العهد الذي كثّف العنف في حياة السوريين ومفاصل كل مؤسسة، حتى طبّعنا العنف في حياتنا وتحولنا إلى شعب يتكيف بشكل إجباري مع القسوة والانتهازية. هذا الكلام ليس من باب التعميم ولكن هناك سمة عامة من التعايش القسري مع اللامبالاة بمحنة الغير، حتى حين يكون الشخص مسكيناً أو سبق وتعرض للظلم لا بل يمكن أن يمرّ الشخص بمرحلة يختبر فيها كيف يتحول في مراحل الى شخص عنيف نوعاً ما..

هذا ما حصل معي على الأقل…

حين استعيد أشكال العنف الذي مررتُ به منذ طفولتي حتى خروجي من سوريا، أستطيع استذكار أشكالٍ من العنف توازي ما مرّ في المسلسل.

في طفولتي، ما بين عمر الـ6 سنوات وحتى 12 سنة، تعرضتُ وأصدقائي في المدرسة لممارسات مؤذية ومرعبة في سننا الصغيرة. في الصف الأول أمسكت المعلمة صديقتي من شعرها وشدّتها به وتركتها تدور حول نفسها عدة مرات بينما تستمر في شدّ شعرها للأعلى بغية معاقبتها. لاحقاً أخبرتني صديقتي أنها وخلال استحمامها كان رأسها يؤلمها، بقي هكذا لعدة أيام!

عندما كنت “مستمعة” في الصف الأول، والمستمعة مرحلة تعليمية توازي الروضة، لكن ولأن رياض الأطفال لم تنتشر في كل مكان حينها كان الأهالي يضعون أطفالهم ذوي الخمس سنوات مع طلاب الصف الأول ليتعلموا الأحرف على الأقل. حينها، كان المعلم يتجاهل وجودي فأنا مستمعة ولا يجب أن أتحدث وتعليم باقي الطلاب بدا له ربما أهم من تعليمي. في مرة لم أتحمل تجاهل المعلم لي وعدم مشاركتي في الحصة، فوقفت من دون سابق إنذار وصرختُ في وجهه، أتذكر جيداً صفعته دون سابق إنذار أيضاً. شعرت بخدر في وجهي وأصدرت أذني أزيزاً لشدة الضربة، بكيتُ كثيراً يومها ومن حينها خشيت التعبير عن نفسي أو الجدال.لازمني وقتٌ طويل حتى استعدت جرأتي وقوتي التي خطفها مني عنف المعلم حين كان عمري 5 سنوات.

كانت المدارس حتى وقت قريب بؤرة مثالية للتعنيف والأذى وأشكال القمع والترهيب، وهذا أقل ما يمكن أن نصف به المدارس السورية. 

المدارس في مرحلة ما هي عبارة عن معسكر تحديداً في حصة تدعى “حصة الفتوّة” التي يتعلم الطلاب فيها مهاماً عسكرية من بينها إطلاق النار وكيفية فكّ البندقية وتركيبها. عادت مرة أختي وقد أذت يدها بينما كانت تركب البندقية، لحسن الحظ أُلغيت حصة “الفتوة” قبل أن أجربها!

الأهم من كل هذا العنف هو مصدره، كيف باتت المدارس، المؤسسات التربوية والتي من المفترض أن تبني جيلاً واثقاً لا جيلاً خائفاً عانى من الترهيب، إلى أماكن يأخذ فيها الاستبداد مجده؟

حين تحولت بذلات المدرسة إلى تلك الشبيهة ببذلات الجنود، بلونها الأخضر العفني الثقيل، كان نظام الأسد متربعاً على سدة الحكم في سوريا، النظام الذي ضرب بيد من حديد ودم، سرّب بطريقة متعمدة عنفه وديكتاتوريته إلى المنازل والمدارس والمؤسسات والأفراد.

حين استعيد أشكال العنف الذي مررتُ به منذ طفولتي حتى خروجي من سوريا، أستطيع استذكار أشكالٍ من العنف توازي ما مرّ في المسلسل.

أحد معارفنا بقي في سجن تدمر لـ 25 عاماً خرج بعدها بشعر أبيض بالكامل، أخبرنا أنهم وفي مرحلة ما كانوا يخبرونه في كل صباحٍ أنه يوم إعدامه، وبالفعل يصطحبونه إلى  المشنقة وفي اللحظة الأخيرة يقولون أنهم لن يشنقوه اليوم، كنتُ أنظر إلى وجهه النحيل وأشعر أنه مازال يعتقد أنه سيسير إلى المشنقة في نهاية اليوم.

ما يحصل في ولاد بديعة هو جزء من حلقة عنف طويلة ومعقدة وبشعة تمسّنا جميعاً، وربما تمسني بطريقة أخاف تذكرها، لأني كنت طفلة والأطفال لا يدركون حجم العنف الذي يمارسونه.

لكن النقطة المهمة هي كيفية تقديم كل هذا في المسلسل، وكأن العنف جاء من العدم، في البناء الدرامي من المهم إقناع المشاهد كيف وصلت هذه الشخصية إلى هذه الحالة بالعودة إلى أعمق الجذور وليس مجرد سردٍ للأحداث الفاصلة، في المسلسل يروون ما يحصل مع الأفراد، بعض الذكريات، مع غياب كامل لأي مؤسسة حكومية أو عسكرية أو رسمية وكأن هذا الشر المطلق وجِد من تلقاء نفسه، مثلاً مختار هو شخصية عنيفة ومريضة بسبب معاملة والده له، لكن والده أيضاً ضحية نظام ما، بنية اجتماعية وثقافية وسياسية، وهي غائبة في المسلسل كما غياب تاريخ بديعة، المشردة المجنونة التي تأتي من العدم.

لكن هل يعقل أن يصل العنف حد أن يقتل طفلٌ ثلاث قطط؟ وهو ما فعله مختار خلال طفولته انتقاماً من أخوته في المسلسل؟ 

مارس رفاقي هذا الأمر وقتلو قططاً وجائوا يخبروننا في المدرسة كيف فعلوا ذلك، في طفولتي أيضاً قتلتُ حيوانات لكن لم أقصد ذلك، كان جدي قد ربى بطاً في القرية لكي نستخدم لحمها في الطعام، أعتقد أني كنتُ في الرابعة عشرة. في العطلة نترك المدينة مع والديَّ ونذهب إلى القرية لزيارتهما، لسبب ما لا أعلم لماذا كان والدي يدعاني أنا وأخي نشق أعناق البط وننظف أمعائها، كانت تمتلئ يداي بالدم، أشعر بدفء المخلوقات التي تهمد بين يدينا شيئاً فشيئاً.

هل كان والداي مذنبين بأن سمحا لطفلين أن يقتلا الحيوانات دون أي تفكير؟ لكن والدايَّ كانا أيضاص نتاج نظام سياسي واجتماعي أباح كل أنواع العنف وجعلها أمراً شائعاً وطبيعياً.

استلزمني وقتاً طويلاً لكي أخرج  من حلقة العنف هذه ولا أدري إن نجوتُ فعلاً.

نمط الحياة في سوريا يدفعك لارتكاب الكثير من “الانتهاكات” والتجاوزات والظلم حتى بحق من حولك، وربما أقربهم. 

محاولات النجاة في بلد محكوم بالقسوة تبدو مستحيلة. إن لم تكن قوياً سيُسلب حقك، حتى حين يخنقك التدافع لركوب الباص أو الميكروباص، لا يهم أن تترك عجوزاً خلفك تنتظر ساعات لأنها لا تستطيع التدافع، المهم أن تصل لمنزلك بأقل مبلغ من المال. القانون مجرد كذبة. 

حين نصب أحدهم على عمي بمبلغ كبير، لم يجرؤ على المطالبة أو الشكوى لأن من نصب عليه لديه عصابة قد تؤذيه، وصله تهديد غير مباشر عن طريق صديق مشترك، قال له: “شو بدك بهالشغلة هدول زعران إذا ضربوك سكين شو بتستفيد؟”. صمت بعدها عمي ولم يطالب بحقه، والسؤال هنا: ما الذي تختلف به العصابة التي هددت عمي عن عصابة “أبو الهول” في المسلسل؟

ذاكرتي بشأن العنف الذي مورس علي وعلى عائلتي وأقاربي وأصدقائي لم تنتهِ وحتى العنف الذي مارسه أقرب الناس على آخرين لن ينتهي. هناك الكثير ليروى في بلد يهان فيه الناس كل يوم على حواجز التفتيش وفي أقبية المعتقلات وفي المدارس وفي المؤسسات الرسمية، بلد فيه من العنف أكثر مما تحويه ثلاثون حلقة من مسلسل ما.