fbpx

صلاح السعدني ابن زمن “ليالي الحلمية”: رحيل “الصعلوك” و”العمدة” في عصر الدراما الذهبي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

صلاح السعدني ابن زمن “ليالي الحلمية” و”أرابيسك” و”النوة” و”سفر الأحلام” و”حلم الجنوبي”، زمن راسخ في الذاكرة لسبب ما.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لماذا تثير وفاة ممثل ما فينا شعوراً معيناً ليتحوّل نعيه إلى ما هو أكبر من واجب أو تأثر طبيعي بالموت، فيصير نعياً لجزء منا، أو لذاكرتنا، بل ما هو أكثر يصير نعياً لأخ أو لأب أو لصديق أو قريب من الدرجة الأولى. لا يستأثر جميع الممثلين بهذا الشعور العفوي عند موتهم لدى جماهيرهم، لكن صلاح السعدني فعل ذلك، على رغم انزوائه عن المشهد الفني والحضور الإعلامي لما يزيد على العشر سنوات، معتكفاً على كنبته، يراقب منها العالم.

التفسير البسيط هو إدراك ذلك الجمهور ما هو فوق الحضور أو الموهبة أو الكاريزما، وهو أن ذلك الممثل بالذات كان متصلاً بهم عبر أدواره، أو كما يقول الكاتب حاتم حافظ:

“الناس مدركة لقيمة الالتزام الفني ليس فقط بقضايا الناس، لكن أيضاً الالتزام الفني تجاه الفن نفسه… والالتزام الفني تجاه جمهور الفن… المجتمع في العقود الأخيرة لم يفقد إيمانه بالفن بسبب التطرف الديني فقط لكن أيضاً بسبب الفنانين الذين أهانوا الفن سواء بالاشتراك في أعمال رديئة أو بافتعال ضجة تافهة كل فترة أو بتصريحات معيبة في حق الفن”.

بوفاة صلاح السعدني، نودع رمزاً لزمن ارتبطنا فيه بالاختراع المصري الذي غزا العالم العربي، “مسلسلات السابعة”، إذ كانت الأسرة تلتفّ حول عمل فني ناجح، زمن له مشاكله وأزماته، بالطبع، وكما يحق لنا أن نحذر من الوقوع في أفخاخ النوستالجيا، لنا أن نتذكر أيضاً أن جيل عادل إمام ومحمود عبد العزيز ويحيى الفخراني وأحمد زكي ونور الشريف وسمير غانم وصلاح السعدني، هو جيل من الفنانين الموهوبين لم يكن ظهوره وليد مصادفة سعيدة، بل ابن سياق متراكم بدأ من جيل الممثلين الأوائل في بدايات القرن الماضي، ثم تداخلت معه تطلعات ثورة يوليو وانكسارها، حتى وصل إلى ذروته على أيدى هؤلاء في ثمانينات القرن الماضي. 

جيل كان متصلاً بأطراف عدة تقف بعضها على أطراف نقيض، إلا أنها كانت تغذي موهبته، كتتلمذه وتشربه الصنعة على يد من سبقوه، أو الاتصال بعالم المثقفين والشارع في آن، والأهم رؤيته للفن كالتزام ناحية الجمهور لا الضابط، وانحياز الى المحكومين لا الحكام.

صلاح السعدني ابن زمن “ليالي الحلمية” و”أرابيسك” و”النوة” و”سفر الأحلام” و”حلم الجنوبي”، زمن راسخ في الذاكرة لسبب ما.

في كتابه “المضحكون” الذي صدر عام 1967، كتب محمود السعدني بروفايلات عن الممثلين الكوميديين المخضرمين في ذلك العصر، والناشئين كذلك كعادل إمام وسعيد صالح ويونس شلبي والثلاثي سمير وجورج سيدهم والضيف أحمد، الذين وصفهم وصفاً أبوياً بـ”العيال”، وكان هذا ما كتبه عن شقيقه صلاح السعدني:

“صلاح السعدني ممثل موهوب وحساس ولا بد أن يشق طريقه يوماً إلى القمة، على رغم وقوفه الآن محلك سر في سرداب الفن الطويل، ولعل وقوفه هذا مرجعه إلى عوامل صنعتها أنا بنفسي، وعوامل صنعها هو بنفسه، ولو استمرت هذه العوامل ستقضي عليه يوماً ما.

ورث صلاح السعدني عداء كل السينمائيين بسببي، وأسدلوا عليه ستاراً من الإهمال والنسيان انتقاماً مني، ثم حالة الصياعة والضياعة التي يعيشها باختياره، وشلل الأنس التي تجرها خلفه أو يجرها خلفه، ثم أزمته الشخصية بسبب الهوة السحيقة بين ثقافته الفنية والأعمال التافهة التي يقوم بها لدواعي أكل العيش، والتي جعلته يقف محلك سر، ولكنه أيضاً معبود الشباب بين شلة المضحكين، وأكثرهم قدرة على تجسيد أي دور مثلما حدث في الضحية والرحيل”.

من خلال هذا المقطع الصغير، بالإمكان قراءة كل ماضي صلاح السعدني ومستقبله وتاريخه الفني، إذ يرتبط بعالم المثقفين بحكم شقيقه الكاتب الكبير محمود السعدني، حتى إنه لم يكن يعد نفسه ليكون ممثلاً حتى فترة الجامعة ودخوله كلية الزراعة، حيث قابل صديقه التاريخي عادل إمام، رئيس فرقة التمثيل في الكلية، بل ليصير كاتباً. وعلى رغم أن المصير تغير ليصبح ممثلاً من العيار الثقيل، يضج بالحيوية والعفوية منذ ظهوره الأول في مسلسل “الضحية” لنور الدمرداش، أو دوره في فيلم “الأرض” مع يوسف شاهين، إلا أن ما تبقى من أثر الكتابة والثقافة كان واضحاً في رؤيته للفن ولاختياراته الفنية، وأيضاً في أسلوب حديثه الشخصي، كحكاء من الطراز الأول أو بتعبير الناقد الفني آدم مكيوي: “يمزج بين روح الدعابة والحذلقة واللغة العربية المنتمية لروح ظرفاء العصور القديمة”.

ونظرية “الشبهية” هي براءة اختراع لصلاح السعدني، ومسجّلة في واحد من حواراته التلفزيونية التي يتحدث فيها عن فكرة التأسيس والتلمذة من مثقفين وفنانين، ونظرية الشبهية باختصار كما أوضحها:

“إحنا في الأمة العربية عندنا كل حاجة زي ما موجودة في العالم، لدينا اتحاد لكرة القدم، ومدرجات وجمهور وحكام، لكن ما يلعب ليس كرة القدم بل يشبه كرة القدم، وفي السينما لدينا كل شيء، الأفلام والممثلين والكاميرات وصالات السينما، لكنها تشبه السينما وليست سينما… فإحنا في حياتنا كلها في العالم العربي في اقتصادنا في زراعتنا في صناعتنا، كأننا بالظبط بس إحنا شبه”.

في كتابه “حديقة المضحكين”، يقول الروائي الراحل خيري شلبي عن صلاح السعدني: “تحس كأنه مخلوق ليضحك فحسب، كأنما هو في حالة إحساس دائم بالتفوق على الواقع والناس وحركة الحياة، لكن ضحكه في العادة لا يكون خالصاً أبداً، تُحس وكأنه قد أدرك بعد طول تفوق على الواقع والحياة، أنه مجرد جزء ضئيل جداً من هذا الواقع وهذه الحياة”.

ما يعيبه الشقيق الأكبر على الأصغر من انجراره وراء شلل الأنس أو الصعلكة، هو بالضبط ما صنع تفرّده، في واحدة من القصص الموجودة على ساوند كلاود تحت عنوان “صلاح السعدني في موقف طريف مع سعيد صالح وعادل إمام”. 

يحكي صلاح بأسلوبه قصة طريفة عن مغامرة خاضها مع صديقيه عادل وسعيد، رفيقي دربه في شبابهم، بعدما انتهوا من العمل في المسرح بعد منتصف الليل، وقرروا أن يستقلوا سيارة أجرة إلى طنطا من دون هدف، على رغم أن كل ما كان معهم هو 25 قرشاً.

من خلال تفاصيل الحكاية، التي تنضم بجدارة عبر أسلوب حكي صلاح السعدني الممتع وبلغته ذات التراكيب البليغة التي تجمع بين الفصاحة والعامية، إلى قصص الظرفاء والصعاليك، الذين خبروا الحياة حقاً وفهموها بعمق قبل أن يصيروا نجوماً، لم تنقطع صلتهم بالناس إلا في أواخر أعمارهم، وهو ما لا يحدث مع نجوم الأجيال التالية، التي لا هي خبرت الناس بعمق، ولا اتصلت بعوالم مثقفين، لتجمع بين نبض الناس والوعي، وانفصلت سريعاً في كمباوندات مسوّرة عن تيار الشارع، وهو ما يفسر سقوطهم الفني السريع في مقابل جيل تمكّن من الحفاظ على رسوخه لأطول فترة ممكنة سواء في الحضور أو الذاكرة.

تلك الخفة التي عامل بها صلاح نفسه، كما يصفها بلال فضل، الصديق المقرب له، جعلته من نوعية النجوم الذين “يأخذون عملهم بجدية أكثر من اللازم، لكنهم لا يأخذون أنفسهم أو نجوميتهم بجدية أكثر من اللازم، وهو ما حفظ له توازناً نفسياً، أفلته من أفخاخ كثيرة”، من بينها فخ الإيقاف عن العمل لسنوات بسبب موقفه السياسي، ما أثر على انطلاقته نحو نجومية مستحقة، تأخرت كثيراً.

على عكس ما هو شائع، لم يعاقب صلاح السعدني بسبب حبس شقيقه في قضية مراكز القوى في عهد السادات، لتورطه في سرد نكتة قبيحة عن الرئيس سُجلت هاتفياً، لكن في الأساس بسبب توقيعه على بيان إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم قبيل حرب أكتوبر عام 1973، وهو بيان وقعه عدد كبير من المثقفين والصحافيين والأدباء. لكن كان صلاح السعدني ومحسنة توفيق هما الممثلين الوحيدين اللذين وقعا على بيان، فأصدر السادات قراراً بإيقافهما عن هيئة المسرح، ضمن من نكل بهم من الموقعين على البيان.

 لكن بحسب بلال فضل، كان التنكيل الأشد وطأة هو منعه من التمثيل في المسلسلات والأفلام، مصدر رزقه الحقيقي، الذي شهد من خلاله انطلاقة لامعة أوقفها قرار السادات، ما اضطره إلى العمل من الباطن كمدير لفرقة الفنانين المتحدين. كما تسبب تولي محمود السعدني رئاسة تحرير مجلة “صباح الخير”، في عقاب شقيقه من العاملين في السينما، بسبب هجومه اللاذع في المجلة على المخرجين ومؤسسة السينما.

في ندوة عام 1972، أقيمت في كلية الآداب جامعة القاهرة، عن فيلم “أغنية على الممر” الذي شارك السعدني في بطولته، كان هناك نقد من الطلاب لفيلم “خلي بالك من زوزو” كمخدر للجماهير، وضغطت عليه واحدة من الطالبات للرد، متهمة إياه بالخوف بسبب سجن شقيقه، فأجابها السعدني: “المجتمع المصري من سنة 1967، عايش في كارثة، سببها أن التربة نفسها غير صالحة، لا بد من قلبها وإعادة غرسها لتنبت من جديد”، فاستُدعي الى أمن الدولة بتهمة قلب نظام الحكم.

يقول صلاح السعدني في حوار أجراه عام 1994 للتلفزيون التونسي، إنه يؤمن بأن الفن ليس للتسلية، وإن الدراما أخطر في تأثيرها من الكلمة المكتوبة؛ بسبب انتشار الأمية في الوطن العربي: “لأن القراء قليلون… كان نجيب محفوظ الحاصل على نوبل إلى عهد قريب يطبع من كتبه ستة آلاف نسخة فقط لا غير، إنما المسلسل يصل إلى أعماق أعماق القرى والدساكر والدروب العربية من المغرب العربي وحتى الخليج”.

بإمكاننا أن نجادل تلك النظرة الآن، لكنها تكشف عن فنان مهموم بشيء ما، واعٍ لواقعه ومأساة ذلك الواقع، ويبني اختياراته بناء على هذا الوعي.