fbpx

“بوش دو نويل” في الضاحية الجنوبية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أهل الضاحية لا يحتفلون فقط ب”الشهداء” ولا تنتهي أبجديتهم الغذائية عند الهريسة وكعك العباس. هم أيضا يأكلون البوش دو نويل

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]
شجرة ميلاد قرب صورة لهادي نصرالله

علاقتي بالطعام غريبة، إن لم أقل معقدة. هي تجمع بين الشوق والملل، الرغبة والزهد، الحب والنفور… عامةً، لا أشعر بالجوع سريعاً، وشهيتي ليست دائما مفتوحة. لكنّ الأكل يحتلّ حيزا مهماً في حياتي. الطعام عندي له قاموس خاص، مثقل بالدلالات والرموز.

المائدة عندي تُعادل العائلة. تلك اللقمة التي يتناولها شخصان معا بعد يوم عمل متعب هي أساس العلاقة المتينة بينهما. إنها السرّ الأقوى والأبقى في حياة الشريكين.

الأعياد أيضا لا تتحقق خارج مفهوم “المائدة”. العيدُ في تصوّري له شكل دائري كطبق. ولكلّ عيد رائحته ونكهته. صباح عيد الفطر السعيد مثلا ارتبط دوماً في ذاكرتي برائحة “السودة” (القصبة) المقلية مع الحامض والنعناع الطازج. شهر رمضان يحمل رائحة الفتوش وشوربة العدس. أما الأعياد الخاصة فلها رائحة المشاوي والتبولة…

وثمة أطباقٍ أخرى قد تُحيل أيامنا العادية أعياداً، كرائحة السحلب الساخن والقرفة أو الكستناء المشوي على الموقدة في ليالي المطر الشديد، تماما كما يمكن لرائحة البطيخ في أيام الحرّ أن تصنع مهرجاناً من البهجة والانتعاش.

أمّا عيد الميلاد فلا يكتمل عندي من دون قالب Bûche de noël.

أحد متاجر الحلويات في الضاحية

لا أذكر متى كانت أول مرة أتناول فيها “حطب الميلاد” او “البوش دو نويل”، لكنني أذكر كيف. في مثل هذه الأيام، قبل عقدين تقريبا، شاهدت تقريرا عن تحضير قالب “البوش”. أحببته قبل أن أتذوقه. اسمه مجبول بسحر الحواديت الطفولية. طلبتُ من أمي أن تصنعه لي، لكنها وجدت فكرة شرائه أسهل. ذهبنا معاً لنشتري قالبا من “باتيسري الربيع” القريب من منزلنا. كان عليّ أن أعيد اسم القالب خمس مرات، من دون جدوى. استعان العامل بصاحب المحلّ لعلّه يفهم ما أقوله، لكنه أجابني ضاحكا: “عنّا بابا نويل صغير لتزيين القوالب، بس  Bouche (قاصدا به الفم) بابا نويل ما في عنا. تمّه ضايع بلحيته”.

اعتبرتُ نكتته سمجة. مسكت يد أمي وخرجنا. ذهبنا الى محل ثانٍ وثالث… عبثاً. كان علينا أن نركب “التاكسي” ونخرج من الضاحية لكي نحصل على ما أريد.

قبل يومين، استوقفتني قوالب حلوى الميلاد التي تزيّن واجهات “الباتيسري” في الضاحية. بل ان الافران العادية صارت تهتم بتحضير هذه الحلوى قبل أيام من عيد الميلاد.

الفرق بين الأمس واليوم كبير. ولا أظنّ التحوّل هذا قد أصاب عقلية اهل الضاحية أو طينتهم. هم في الأصل يشكلون بيئة مرنة، منفتحة وقابلة للتحوّل. مذ كنتُ صغيرة، كانت شجرة الميلاد حاضرة في بيوتنا ومدارسنا. لم يكن أهلنا يهتمون ببعدها الديني، لكنهم يستعينون بها كجزء من احتفالية آخر العام، لكونها تبعث في القلوب شيئا من الفرحة والدفء. لكنّ شيوع حلوى الميلاد في الضاحية دليل على تحولات ثقافية واجتماعية ارتبطت خلال السنوات الماضية بارتفاع نسبة التعليم وزيادة المردود الاقتصادي، والأهمّ السيل المعلوماتي الذي فاق كلّ تصوّراتنا جرّاء انتشار وسائل التواصل التي هدّمت جدران عازلة بنتها شاشات محلية عمقّت الانعزالية ورسخت النمطية.

أهل الضاحية لا يحتفلون فقط ب”الشهداء” ولا تنتهي أبجديتهم الغذائية عند الهريسة وكعك العباس. هم أيضا يأكلون البوش دو نويل ويغنون mon beau sapin بفرنسية لا تشوبها شائبة أحياناً…