fbpx

“مرضي … رفيقي الدائم” : قصتي مع اضطراب ثنائي القطب

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

حاولت كثيراً أن أخفي مرض ثنائي القطب الذي يلازمني، لكنه أصبح صديقي الدائم الذي يرافقني في كل المراحل. يفرحني تارةً ويحزنني طوراً. تصالحتُ معه وقررنا المضي قدماً في جميع تأرجحاتن

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

 

يجري هذه الأيام الاحتفاء باليوم العالمي للصحة النفسية، واختارت منظمة الصحة العالمية “الانتحار” الموضوع الرئيسي لهذا العام، وذكرت أنه يتسبب في وفاة شخص كل 40 ثانية. في هذا المقال تروي شابة لبنانية هي سينتيا تجربتها مع المرض النفسي ومع محاولات الانتحار المتكرر وكيف قاومت الأمر

 

أكثر من 7 سنواتٍ مرَّت على تجربتي الأولى مع محاولة الانتحار، لكنها لم تكن الأخيرة، فقد تلتها تجارب أخرى. بعد محاولات فاشلة لتخطي الصعوبات، اعترفت للمرة الأولى، وبطريقة جديّة، بوجوب زيارة الطبيب والتزام العلاج. 

نعم، اقتنعت بوجوب الذهاب إلى ذاك الطبيب الذي اعتدنا، في مجتمعنا، على الخوف من ذكره، هرباً من اتهامات محيطنا، وتفادياً لنظرات الأقربين والأبعدين، المتراوحة بين الشفقة والاستهجان.

يبدو غريباً أن تدخل إلى غرفة لم تطأها من قبل، لتتكلم مع شخص لا يعرف عنك شيئاً، فتقابله للمرّة الأولى وإذ بك تُفرغ أمامه كل ما لديك، بثقةٍ وإصرارٍ على عدم نسيان أي تفصيلٍ صغير.

تخبرُه عن التقلّبات المزاجيّة، عن نوبات البكاء والضحك من دون سبب، عن عدم رغبتك في الحياة، عن انعزالك عن الآخرين، عن ذلك كله وأكثر… تجد أن باستطاعتك أن تقول له ما تريده، فهو لن يطلق أحكاماً ولن ينظّر بتحليلاته.

كل ما قاله حين أنهيت حديثي، “أن تكوني من أولئك المميزين بثنائيّة القطب هو من أجمل التجارب”.

إنه الوحيد الذي عرف تماماً أن هذه الاضطرابات تتحكّم بنا ولسنا نحنا من يتحكم بها، الوحيد الذي أصرّ على أن النوبات والتقلّبات المزاجيّة هي الأجمل، وأقنعني بأننا نستطيع أن نحوّل اضطراباتنا إلى طاقات ايجابيّة. فهو الوحيد الذي لم ينطلق، في محاولته لفهم ما أمرُّ به، من أحكامٍ مسبقة أو أفكارٍ معلّبة، فلم ينزلق في متاهات التكهّنات والإسقاطات.

وفي الحقيقة، فإن رحلتي الطويلة مع اضطراب ثنائي القطب لم تنته.

إنه مرض نفسي يسبب تقلبات مزاجية وحالات اكتئاب حادة.

 

ما زلت أذكر ما شعرتُ به من خجل جراء ما تربينا عليه في مقولة: “عيب نروح عند حكيم نفسي شو مجانين نحنا؟”.

تلك التربية التي دفعت إحدى قريباتي، حين علمت بمحاولتي الانتحار، للاتصال بوالدتي تطلب منها إخفاء الموضوع خشية مما سيُقال: “شو بدن يحكو علينا العالم؟ ليش شو صاير عليها؟”.

 

أفقدتني رحلتي مع هذا المرض أشياء وأشخاصاً أحببتهم، ولكنها أكسبتني -وإن بوتيرة أبطأ- أموراً وأناساً أحببتهم أيضاً.

حالة تأرجح المزاج تتفاوت بين الارتفاع والانخفاض، والجميع يسأل: لماذا؟

لو أن الجواب معروف، لكنت اكتنزتُ تلك المعرفة، وأخبرتُ الصادقين الذين يسألون… أو لعلّني كنتُ سأسعى إلى المحافظة على الوسطية بين قطبَي المزاج.

عوارض الاكتئاب والهوس باتت مزعجةً، ورحلات العلاج أصبحت أكثر إزعاجاً.

يحاول البعض التفهُّم والمساعدة، أما الغالبية فتُسقِط الأحكام بعباراتٍ لم تَعُد تعني لي شيئاً. الصحة النفسيّة في النهاية لا تختلف عن الصحة الجسديّة، فهي ليست اختياريّة أو ثانويّة.

نحتاج أن يفهم الجميع أن الاضطرابات النفسيّة مؤلمة، وأن المصابين باضطرابات من هذا النوع لا يستطيعون التحكّم بها، فهي كالسرطان تستدعي مرحلة علاج طويلة، ونتيجتها ليست محسومة، فإما أن تتغلب علينا أو نتغلب عليها.

في شباط/ فبراير 2011، كانت الزيارة الأولى إلى عيادة الطبيب النفسي، وبعد مشوار طويل مع العلاجات والإقلاع عنها، والعودة إليها مجدداً ومراراً، ها أنا اليوم أكتب بكل راحة عن تلك التجربة.

شباط 2011 يومٌ حُفِرَ في ذاكرتي، ولعله سيلازمني لأنه كان يوم المحاولة الأولى. كنت في الثانية والعشرين آنذاك، استجمعتُ قواي لأبتلعَ جرعةً زائدة من حبوبِ الدواء بحثاً عن الراحة في الموت.

انتهى النهار في غرفة العناية الفائقة، ثمّ بدأت الرحلة.

لا أنسى الزيارة الأولى إلى عيادة الطبيب النفسي، ما زلت أذكر ما شعرتُ به من خجل جراء ما تربينا عليه في مقولة: “عيب نروح عند حكيم نفسي شو مجانين نحنا؟”.

تلك التربية التي دفعت إحدى قريباتي، حين علمت بمحاولتي الانتحار، للاتصال بوالدتي تطلب منها إخفاء الموضوع خشية مما سيُقال: “شو بدن يحكو علينا العالم؟ ليش شو صاير عليها؟”.

مرت السنوات وما زالت زيارة الطبيب النفسي والمعالج هي الأمل الذي أتمسك به لأستطيع الاستمرار.

الزيارة الأخيرة كانت الأصدق، فمجرّد إقرار المرء واعترافه بحاجته إلى المساعدة هو انتصار بذاته.

‎أخبرني طبيبي أن حالتي النفسية تدهورت، وأنني على حافة دوامة جديدة من الاكتئاب.

‎أخبرته أنني اعتدت الأمر، ولا أشعر بشيء جديد سوى الخذلان، وأن الاكتئاب أصبح رفيقاً لي في كل أيام الأسبوع السبعة، أتصالح معه أحياناً وأشعر بأن له فضلاً في التجارب والنضج، وفي أحيان أخرى أنفر منه بالمهدئات والنوم الكثير.

‎أخبرني أن الحالة أصبحت دقيقة ومتعلقة بعدم الثقة وبشعور بعدم الأمان، وأن محاولات الإنكار التي أعيشها هي مجرد محاولات فاشلة، لا تفيدني بشيء.

‎توقفت عن الحديث معه، لأحاول السيطرة على الموقف، فأنا لا أريد البكاء الآن، فلا بد أن أنهي الجلسة ثم أذهب لأبكي في غرفتي، لم أستطع التوقف عن البكاء، فبكيت كثيراً وأنا أسأله: ماذا فعلت طول حياتي ليصادفني هذا الحظ السيئ؟ 

‎نصحني بزيادة جرعة الدواء لعله يساعد في تهدئة الوضع. أنا أعلم أن الدواء سيقلل الكوابيس ونوبات الفزع، ولكنه سيزيد عدد ساعات النوم، وأنا الآن لا أملك رفاهية عدم الذهاب إلى العمل.

‎بالأمس، شعرت بألم حاد، يكاد يكون أسوأ ألم شعرت به حتى الآن، انتفض جسمي كثيراً من شدته، تمنيت الموت لأهرب، بالأمس شعرت بالضعف والقوة، بالوحدة والخوف، مشاعر متناقضة تليق بعبثية الحياة ومواقفها.

مرّت 7 سنوات على الزيارة الأولى، تمكّنتُ خلالَها من التصالح مع فكرة أن الأمراض النفسيّة ليست وصمةَ عار.

أمراضنا واضطراباتنا النفسية تبحث أيضاً عن فسحة لنتكلم عنها، ولنفصح عما يحصل في دوائرنا الصغيرة، لا تبريراً أو استعطافاً، بل من أجل التوعية بأنها كمرض السكري مثلاً، تتطلب علاجاً ودعماً لنواصل المسير.

حاولت كثيراً أن أخفي ثنائي القطب، لكنه أصبح صديقي الدائم الذي يرافقني في كل المراحل. يفرحني تارةً ويحزنني طوراً.

تصالحتُ معه وقررنا المضي قدماً في جميع تأرجحاتنا، والأهم هو أنني قررتُ أن أُحجِم عن الاعتذارات والتبريرات.

فلنتذكّر دائماً، “الأمراض النفسيّة مش جرصة، ومش عيب!”.

منتحر كل 40 ثانية… ماذا نفعل؟