fbpx

اقرؤوا لا تقرأوا أو العكس

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

ليس الضمير من أصل الفعل. هو غَريب. في البداية غريب. بعد مدّة، لن يبقَ كذلك. سيُكسَر الجليد بين الاثنين. ربّما سيبتسم الضمير للفعل بدايةً، بخجل، ربّما العكس. ربّما سيلتقيان صدفةً في تظاهرة تحت قنابل الغاز

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

منذ عامَين بالتّمام، 18 أيّار/ مايو 2018 – فجراً، كنتُ أجول ورَفيقَين لي في شوارع بيروت والمحيط مع عبوة سبراي أسود، و stencil لِوجه الرَفيق مهدي عامل مع عبارة “اقرؤوا مهدي عامل”، في ذكرى استشهاده الـ31. عدنا أدراجنا ملطّخين بالأسوَد، فخورين بإعادة مَهدينا بصريّاً إلى شوارع بيروت. كَلّمني صديق في النهار التالي بعدما راجَتْ صوَر المرشوشات على وسائل التواصل، قال: “هيدا أكيد انتَ. حلوين، بس لازم ترجع تبرم عليهم وحدة وحدة وتصلّحهم: اقرأوا، مش اقرؤوا! “. شعرتُ بغيظٍ شديد، يا لحماقتي. كيف لي أن أرتكب خطأ لغوياً بهذه الفظاعة. راجعتُ نفسي، “يا عمّي لأ”، دائماً أكتب “اقرؤوا”. قصدتُ محرّك غوغل لأتأكّد. اطمأنَّ عقلي: يجوز الوجهان، وكل صيغة تعود إلى مدرسة مختلفة في اللغة، الدمشقيّة والمصريّة بحسب ما أذكر. وتَبيَّن أنّني لا أتّبع تلك الرائجة لبنانيّاً. وما زلت كلّما صادفتُ فعلاً آخره مهموز وصِيغَ بالجَمع، أتذكّر ليلة الرشّ وملاحظة صديقي، وأصرّفهُ مع “ؤوا” وليس “أوا”، وأشرح لمن يحاول التصحيح أنّه يجوز الوجهان…

منذ أيّامٍ، “سَردتها” على موقع شباب السفير، من باب النوستالجيا، إذ منذ أعوام، كنت أعدّ أوّل مقال لي لأنشره هناك، وأقفَلَت الجريدة – على حظّي. اخترتُ قراءة المقالات بحسب الأكثر مشاهدة. في المرتبة الأولى مقال لصَباح جلّول: “حقل أحلامنا الموجّهة والسائبة”. كنتُ أتلذّذ بقراءته، مادّة سلسة وصادقة، إلى أن حَطَّت عَيني على كلمة “املأوا”. انزعجتُ لا شعوريّاً. “املؤوا”، قلتُ في ذهني. تذكّرتُ مسألة الشعار: “اقرؤوا مهدي عامل”. توقّفتُ عن القراءة وفكّرت، أريد أن أحلّ الإشكاليّة مرّة واحدة وأخيرة. Once and for all يا سمير! تُقلَب الألف المهموزة واواً مهموزة أم تبقى على حالها؟ تفسير لغوي يُجيز الوجهَين وفقاً للمدرسة الرائجة لم يعد مُقنعاً. أحتاج مسوّغاً منطقيّاً، عقلانيّاً. من يَعرفني جيّداً سيضحك هنا. “مش ضروري كل شي يكون منطقي. باي”، هكذا عاتَبَتني صديقتي بعدما صَحَّحتُ نكتةً قالتها، من دون أن أضحك، فقط لأنّها “مش منطقيّة”. “أوك أوك معك حق، لازم خفّف”. لكن لم أُخَفّف، ها أنا أبحث عن مسوّغٍ منطقيّ لمسألة لغويّة بحتة.

إذاً، بحثتُ بأمر “الفعل المهموز إن دَخَلتهُ واو الجماعة”: نقول “اقرؤوا” بحسب قاعدة أقوى الحركتَين للهمزة الوسطى. نقول “اقرأوا” حيثُ اعتَبرَها بعض اللغويّين ما زالت متطرّفة، على رغم اتّصالها بالضمير، لهذا كتبوها كما كانت أصلاً. لمفاجأتي، وجدتُ من يكتبها “اقرءوا” لما يكنّه العرب من كره توالي الأمثال، أي حرفَين متماثلَين متتاليَين في الكلمة ذاتها (لهؤلاء نقول: تباً لكم، لا ضرورة لهذه الدرجة من الفصاحة). حسناً، هكذا تقول القواعد، مفهوم. ماذا يقول المنطق؟

ربّما حان وقت التخلّي عن المقاربة الأفلاطونيّة للعلاقات، وتقبّل أن الفعل ثابت لا يتغيّر ولن يتغيّر يوماً، بينما الضمائر تتغيّر مع اختلاف الظروف، ربّما تختفي، ربّما تُحذَف، وربّما تستَتر فيه.

ليس الضمير من أصل الفعل. هو غَريب. في البداية غريب. بعد مدّة، لن يبقَ كذلك. سيُكسَر الجليد بين الاثنين. ربّما سيبتسم الضمير للفعل بدايةً، بخجل، ربّما العكس. ربّما سيلتقيان صدفةً في تظاهرة تحت قنابل الغاز، وسيأتي صديقٌ مشترك ليعرّفهما: الضمير، الفعل، هيّا تصافحا. “اه، أعرفه من الفايسبوك”. بسمة، نكتة طريفة ربّما، وسيَحتلّ الأوّل خواطر الثاني والعكس. ثم سيتآلفان سويّاً، وسيُلاحظ القارئ أنّ الفعل أصبح أغنى وأرشق بعدما دخله الضمير، تغَيَّرت حاله، سيقول: الفعل في هذه الحال، يختلف كلّياً عن الحال الأصليّة، انظروا كيف تغيّر بعد التعارف، أيُعقل إذاً أن نكتبه كما كان؟ لا. سنكتب إذاً “اقرؤوا”، لأنّ الضمير استطاع أن يغيّر الفعل بعد أن دخل عليه. إذاً، قدّمنا لكم التسويغ المنطقي للمسألة، بعيداً من اللّغة-لوجي. وعليه، كَوني “أتمسّك بالتصوّرات الأفلاطونيّة (أي المثاليّة) للعلاقات” (كما أخبرني عالمٌ بشؤون النَفس مرّة)، أتبنّى هذه المقاربة الورديّة في لا وعيي، ولذلك كتبت حينها “اقرؤوا مهدي عامل”.

قد تظنَّنَّ أنّ السجال انتهى. لكن لا، إليكم الحجّة المضادّة. سيقول أحدهم: من أخبر القارئ أنّ الفعل يشعر بارتياح لدخول غريبٍ عليه؟ ربّما لم يسر السيناريو كما وُصف سابقاً. أو ربّما فعل، مرحليّاً. ربّما، تبادلا الابتسامات وكل ذاك السرد المُبتذَل، لكن ما إن جلسا واحدهما قرب الآخر، حتّى شَعرا بغرابة فائقة. “كتير غريب الموقف”، قد يقول أحدهما. فما عسى الفعل أن يفعل؟ سيتمسّك أكثر بشكله الأصلي بعد أن زَعجه التناقض بين الابتسامة الأولى وبين غرابة الموقف الحالي. وهذا مفهوم سيكولوجيّاً: أوّليّات الدفاع mécanisme de défense . كلّما حاوَل أحدهم أن يتقرّب منّا، أو أن يُغيّر شيئاً بتكويننا، إمّا أن نتقبّل الأمر، أو نتمسّك بحالتنا الراهنة أكثر، ونرفع جدراناً حول أنفسنا. يقول المخرج السويدي برغمان إنّنا “نرسم دوائر سحريّة حولنا لنبقي خارجها كل ما لا يُطابق ألعابنا السريّة”. وسنرسم دوائر إضافية كلّما حاول أحدهم اختراقها، كي لا يتعرّفوا إلى هذه الألعاب، فهي أغلى ما نملك. عليه، سيحتفظ الفعل بألفه مهموزةً: “اقرأوا”. لا يعنيه بعد اليوم دخول أي ضمير عليه، فهو أصلاً اعتاد أن يأتيه الضمير ثم يغادر ما أن تتغيّر صياغة الجملة. عليه، سيبقى الفعل ثابتاً، وتأتي الضمائر وترحل.

والآن يقف المنطق مشطوراً، “إجر بالوعر وإجر بالبورة”. اقرؤوا أم اقرأوا؟ يجوز الوجهان. نعم أعلم. لكن لا يهم. أصلاً، ما الذي يهم؟ أقتبس من مقالي السابق – مقتبساً من أرسطو: لماذا هناك شيء بدلاً من لا شيء؟ ربّما المهم أن “تقرأوا مهدي عامل”. أها… هذه المرّة كتبتها “اقرأوا”. ربّما اقتنعت بالمقاربة الثانية. ربّما حان وقت التخلّي عن المقاربة الأفلاطونيّة للعلاقات، وتقبّل أن الفعل ثابت لا يتغيّر ولن يتغيّر يوماً، بينما الضمائر تتغيّر مع اختلاف الظروف، ربّما تختفي، ربّما تُحذَف، وربّما تستَتر فيه.