في شارع ميثم التمار في أحد أزقته الضيقة، كان علاء مشذوب يقود دراجته الهوائية عائداً من جلسة لاتحاد الأدباء والكتاب في كربلاء، متجهاً الى منزله. لم يكن يعلم أن ثلاث عشرة رصاصة ستدخل جسده قبل أن يدخل هو بيته..قتله مجهولون وانطلقوا هاربين بدراجاتهم النارية حاملين أسلحتهم وذابوا في مدينة محصنة تراقبها أكثر من ستة آلاف كاميرا..
لم يكن للروائي علاء مشذوب عداوات حسب ذويه و لم يتلقَّ تهديداً، لكنه لم يتردد يوماً في انتقاد الوضع العام في العراق، او في كربلاء حيث يعيش.
يقول مقربون منه أنه كان لعلاء انشغال كبير بما يحصل في العراق خصوصاً ما يعيشه البلد من تخبط وتراجع. لكن كان أيضاً لعلاء اهتمام وشغف خاص بكربلاء، فقد كان ساخطاً على ما تتعرض له مدينته من ضياع لهويتها وتاريخها. هذا ما ظهر في مؤلفاته الأخيرة “حمام اليهود” و”جمهورية باب الخان” التي أرشف من خلالها لحياة المدينة القديمة في كربلاء وأزقتها القريبة من ضريحَي الإمام الحسين وأخيه العباس. وكان بطريقه لإصدار رواية أخرى عن “طرف المخيم” المحلّة التي ازيل منها التل الزينبي وسوق المخيم ومدرسة السجاد في اطار توسيع العتبتين، و تم بناء “صحن العقيلة” بطراز عمراني فارسي بدلاً من الصروح القديمة.
دولة مصغرة
تحظى كربلاء بخصوصية في الوجدان الشيعي، نظراً لوجود مرقد حفيد الرسول الحسين بن علي، واخيه العباس. يقصد المدينة زائرون من مختلف مدن العراق ومن دول كإيران وباكستان والهند وبعض الدول العربية، وتعيش المدينة ذروة زيارتها في ذكرى أربعين مقتل الحسين، حيث تستقبل المدينة في هذا التاريخ ملايين الزائرين.
اعتاد الزائرون عند دخولهم للمرقدين وضعَ الهبات كتعبير عن الولاء أو ايفاء بالنذور، وتشكل هذه الهبات واردات ضخمة تذهب إلى الأمانتين العامتين للعتبتين الحسينية والعباسية، وقد بدأت تظهر في السنوات الاخيرة على شكل استثمارات وشركات ضخمة.
يمنع القانون دخول “المتبرجات” و يفرض ارتداء الحجاب على النساء، ويُجرّم عرض الملابس النسائية في واجهات المحال التجارية بحجة أنها “فاضحة” ويجرّم أيضاً سماع الاغاني، واقامة الاحتفالات سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، كما يحظر بيع أو تداول أو شرب الكحول، و يحاسبُ من يلعب “القمار” و يحاسب من يستخدم ما وصفه القانون بـ “اللغة البذيئة”..
في العراق، تتوزع مناطق النفوذ على الأحزاب أو الجهات النافذة حسب الثقل الجماهيري، او حسب الاتفاقات السياسية التحاصصية، لكن لكربلاء خصوصية اخرى، نظراً لوجود قبري الامام الحسين واخيه العباس فيها، و لما تلعبه دور امتدادي لحوزة النجف.
يخشى الكربلائيون الإشارة علناً للجهة التي تتحكم بمسارات الحياة الكربلائية، لكن مقربين من الفقيد مشذوب أكدوا أنها جهة اسلامية يفوق نفوذها نفوذَ القانون، وتسيطر على مفاصل المحافظة الاقتصادية.
المدينة السجن
كبقية محافظات الوسط والجنوب، شهدت كربلاء صيف2017 مظاهرات تطالب بالقصاص من الفاسدين و تحسين الخدمات، لكنها سرعان ما انطفأت فورتُها، من خلال ممارسة قمع وتضييق أمني.
يصف الشاعر الكربلائي وائل السلطاني حياته وحياة الكربلائيين في المدينة بأنها “سجن”، ويقول في حديثه ل”درج”: “مهما كبرت أجنحتنا فلن نطير خارج هذا القفص”.
تشهد كربلاء بين الحين و الآخر نشاطات ثقافية، لكنها تبقى في اطار خجول، فهي تراعي، رغماً عنها، اعتبارتِ النفوذ الديني للجهات المتحكمة بالمحافظة و تتجنب الاقتراب من قضبانها. ويصل التضييق في كربلاء الى منع مظاهر الفرح والاحتفال علناً، وفرض حجاب الرأس على السيدات تحت ذريعة خصوصية المحافظة وقدسيتها..
قانون القدسية” اللاقانوني”
في 2012 شرّع مجلسُ محافظة كربلاء قانونَ “قدسية محافظة كربلاء” على أن يدخل حيز التنفيذ في العام 2017، إلا أنه ووجِه بحملات تنكيل ورفض شعبية، أرجأت تفعيله حتى عام 2018..
يمنع القانون دخول “المتبرجات” و يفرض ارتداء الحجاب على النساء، ويُجرّم عرض الملابس النسائية في واجهات المحال التجارية بحجة أنها “فاضحة” ويجرّم أيضاً سماع الاغاني، واقامة الاحتفالات سواء في الأماكن العامة أو الخاصة، كما يحظر بيع أو تداول أو شرب الكحول، و يحاسبُ من يلعب “القمار” و يحاسب من يستخدم ما وصفه القانون بـ “اللغة البذيئة”..
يقع القانون في مطبات تجرّده من صبغته القانونية، أولها أنه صادر من جهة لا تمتلك شرعية دستورية لإصدار القوانين، بينما ينحصر هذا الدور في مجلس النواب وفق المادة 61 من الدستور العراقي، ويجب أن يمر القانون بمراحل الصياغة والقراءتين ثم التصويت، و لا يصير نافذاً إلا بعد نشره في جريدة الوقائع العراقية، ويتعارض القانون مع الدستور العراقي الذي كفل الحريات الشخصية، حيث تعتبر فقراته تضييقاً للحريات..
انفلات مجتمع الظل
في ظل سياسات وممارسات التضييق، تظهر وتتكاثر مشكلات اجتماعية لا حصر لها، فانفلات السلاح وتفاقم حضوره في الحياة اليومية هو وجه من وجوه مقلقة تعيشها المدينة. انتشار السلاح ساهم في تضخيم سلطة العشيرة مقابل الدولة، وتفشي الرشوة، وانتشار المخدرات الوجه الأكثر قبحاً. وما هذه الوجوه إلا نتيجة حتمية للتضييق الذي يعيشه المجتمع الكربلائي.
يمرّ طريق المخدرات عبر الحدود العراقية الايرانية، ويُعتقد أن العراق بعد سقوط صدام 2003 تحول من طريق للمخدرات الى محطة نهائية لها، بحيث يتزايد تعاطيها في المحافظات التي تمنع بيع وتداول الخمور، وكربلاء احدى هذه المحافظات.
تتردد حكايات بين الأهالي هنا أنهم وخلال مواسم الزيارات الدينية تجري عمليات بيع زوار ايرانيين لمواد مخدرة كالحشيشة والكريستال، هذه الحالات يتم التعامل مع بعضها من قبل الجهات الامنية في المحافظة، لكن هناك الكثير مما لا يعلن عنه ومع سياسة التضييق الأمني والرقابة يصبح الأمر أكثر صعوبة في رصده..
إقرأ أيضاً: