fbpx

ساعَدَ اللاجئةَ العراقيّة في الهروب من داعش والآن هو مَن يحتاج المساعدة

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في تلك الليلة الصيفية، فتح عبد الجبّار ووالده البوابة ببطء، ليَجِدا أمامهما فتاة صغيرة الحجم، ترتدي النقاب الأسود من رأسها إلى أخمص قدميها. توسّلت إليهما “من فضلِكما ساعِداني”، وأضافت “إنهم يغتصبُونني”. أدخلها عبد الجبّار إلى المنزل آملاً ألا يكون أحدٌ قد رآها. تحدّثت بهدوء، وكان خوفها واضحاً. قالت إن اسمها نادية وأنها كانت من بلدة كوشو -بلدة يزيدية واقعة على الطرف الجنوبي لجبل سنجار…

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كان الوقت يقترب من منتصف الليل عندما سمع عمر عبد الجبّار طرقاً على باب منزله في مدينة الموصل في العراق. تجمّدت عائلته من الصوت. كان ذلك في أواخر صيف عام 2014، وكانت داعش وقتها قد استولت على المدينة منذ ثلاثة أشهر. كان زوّار الليل وقتها نادرين، وخشت العائلة أن يكون الطارق من المسلّحين. ثم جاء طرقٌ آخر.

قبل بضعة أشهر فقط، كان عبد الجبّار يعيش حياة طبيعية إلى حدٍ ما في ثاني أكبر مدن العراق. كان يعمل نجّاراً ويعيش في بيت بسيط مريح من طابقين في حي من أحياء الطبقة الوسطى في الموصل، مع زوجته وابنه ووالديه وأربع إخوة أصغر منه. كانت زوجته قد حملت لتوّها بطفلهما الثاني.

لكن في يونيو/حزيران 2014، استولى تنظيم داعش الجهادي السني على مدينته ومساحات شاسعة من شمال العراق، وفرّ آلاف الجنود من القوّات العراقية من مواقعهم مع تقدّم المسلّحين نحوهم. في الموصل، حيث كانت النسبة الأكبر من السكان من السُنة، أدّى انعدام الثقة المتأصل تجاه الجيش والاستياء الشديد من الحكومة ذات القيادة الشيعية في بغداد، إلى سقوط المدينة بسهولةٍ نسبياً في يد داعش. هربت آلاف العائلات، ولكن مثل العديد من العائلات العربية السنية الأخرى، بقيت عائلة عبد الجبّار. ويقول الأخير إن عائلته لم تؤيد داعش قط “لكننا لم نملك مكاناً نذهب إليه”.

في تلك الليلة الصيفية، فتح عبد الجبّار ووالده البوابة ببطء، ليَجِدا أمامهما فتاة صغيرة الحجم، ترتدي النقاب الأسود من رأسها إلى أخمص قدميها. توسّلت إليهما “من فضلِكما ساعِداني”، وأضافت “إنهم يغتصبُونني”. أدخلها عبد الجبّار إلى المنزل آملاً ألا يكون أحدٌ قد رآها.

تحدّثت بهدوء، وكان خوفها واضحاً. قالت إن اسمها نادية وأنها كانت من بلدة كوشو -بلدة يزيدية واقعة على الطرف الجنوبي لجبل سنجار- التي كانت داعش تسيطر عليها. أخبرتهم أنها أُسرت من قبل المسلّحين، وأُحضرت إلى الموصل وبيعت في سوق للعبيد مع معظم النساء والفتيات من قريتها. تعرّضت الفتاة البالغة من العمر 19 سنة للاغتصاب والضرب وبيعت عدة مرّات خلال أسابيع، قبل أن تهرب من المنزل الذي احتُجزت فيه، بفضل بابٍ غير مقفل.

“كانت الملصقات المنتشرة في الخارج تعرض مكافأة قدرها 5000 دولار للمواطنين الذين يعيدون سبية هاربة”

قتلت داعش آلاف اليزيديين واختطفت آلافاً أكثر، راغمةً العديد من النساء والأطفال على العبودية. غير أن قصة نادية معروفة للآلاف حول العالم. صارت الفتاة معروفة على صعيد دولي بكونها ناجية من الأعمال الوحشية لداعش، وسفيرة النوايا الحسنة للأمم المتحدة التي حازت على جائزة نوبل للسلام. في كتابها “الفتاة الأخيرة: قصتي في الأسر ومعركتي ضد تنظيم داعش”، تسرد نادية مراد تفاصيلاً مزعجة عن كيف تم اغتصابها وبيعها وإساءة معاملتها من قبل المتطرّفين والقلق والمخاطر التي صاحبت هروبها. (رفضت مراد إجراء مقابلةٍ لهذا المقال).

في كتابها، تعرب مراد عن امتنانها لعبد الجبّار وعائلته “لا أعرف لماذا كان طيباً… كثير من الآخرين في الموصل كانوا شديدي السوء”. لكن قرار عبد الجبّار سيأتي باهظ الثمن. ومصيره هو، عند مقارنته بمصيرها، يُسلّط الضوء على العشوائية القاسية لسياسات اللاجئين – على أن الأرواح القادمة معاً يمكن أن تفترق في اتجاهاتٍ عشوائية متعارضة.

هروب نادية

مشت مراد على قدميها لساعاتٍ في شوارع الموصل قبل أن تطرق باب عبد الجبّار. وهي تصف في كتابها كيف صارت الشوارع أكثر فقراً والبيوت أكثر بساطة.

لا تختلف بوابة بيت عائلة عبد الجبّار البرتقالية الثقيلة عن البوابات الأخرى المُصطفة على جانبي الشارع، لكن الاختيار سيكون حاسماً.

في ذلك الوقت، كان الحي يمتلئ بالعائلات المتعاطفة مع الجماعة الجهادية، ولم تكن داعش قد فرضت بعد نسختها الصارمة من الشريعة الإسلامية، أو بدأت عمليات الإعدام العلنية التي جاءت بمثابة تمييز لحكمها الاستبدادي. بدلاً من ذلك، استغل المسلّحون العداء الطائفي وفازوا برضا السكان السنيين من خلال إزالتهم نقاط التفتيش العسكرية المكروهة التي أقامتها الحكومة ذات القيادة الشيعية في بغداد.

كان الإمساك به يساعد سبية -وهو الاسم الذي تطلقه داعش على آلاف النساء والفتيات اللاتي تستعبدهنّ- له ثمن باهظ، ربما الموت، وكانت الملصقات المنتشرة في الخارج تعرض مكافأة قدرها 5000 دولار للمواطنين الذين يعيدون سبية هاربة.

في صباح اليوم التالي استيقظت مراد شاعرة بالرعب، تذكر في كتابها “كان أول ما خطر ببالي هو أن عليّ الخروج من هناك”. فمعظم النساء اليزيديات اللاتي فررن من آسريهنّ في الموصل، أعادتهنّ العائلات التي توجَّهنَ إليها للمساعدة، وبالنسبة للعديد من جيران عبد الجبّار الذين هلّلوا لوصول المسلّحين، كانت المكافأة ستُغريهم للغاية.

يقول عبد الجبّار “لم نفكّر في ذلك أبداً”. كان ذلك ببساطة هو الشيء الصحيح الذي ينبغي عمله. أخبرت العائلة مراد أن تبقى في المنزل وألا تجازف بالخروج إلى فناء المنزل حتى.

كان إخفاؤها في منزلهم مخاطرة، ولكن إخراجها من الموصل سيثبت كونه أكثر خطورة. اتصلت العائلة بشقيق مراد الذي يعيش في مخيم للاجئين على بعد 80 ميلاً، ووضعوا خطة لتهريبها.

صنع قريب عبد الجبّار بطاقة هوية لمراد تحمل اسماً عربياً سنياً. وهي وفقاً لهذه البطاقة، من مدينة كركوك التي تبعد حوالي 100 كيلومتر، ولا تزال تحت سيطرة القوات الكردية الموالية للغرب. وقتها كانت داعش قد سيطرت على جميع الطرق داخل و خارج الموصل. وكانوا يعتزمون إخبار المسلّحين بأنها زوجة عبد الجبّار وأنهم في زيارة إلى والديها في كركوك.

تروي مراد في كتابها كيف قضت ليلتها تحفظ هويتها الجديدة – اسمها العربي السني، واسم والدها، وتاريخ ميلادها، وتفاصيل عن مدينة كركوك، التي لم تزرها من قبل. خطأ واحد صغير يمكن أن يكون قاتلاً.

عند نقطة التفتيش الأولى خارج المدينة، أوقف مقاتلو داعش سياراة الأجرة التي استقلتها مراد وعبد الجبّار، وبدأوا يفتشون السيارة. خفق قلب عبد الجبّار بشدة، إذا أمسكوا بهما، ستُعاد مراد إلى العبودية وتعاقب على محاولتها الفرار، وعلى الأرجح سيكون مصيره هو أسوأ بكثير.

يقول عبد الجبّار، “كان عليك رؤية السعادة على وجه أسرتها… أيّ شخصٍ كان سيفعل ما فعلته”

جلست مراد هادئة في المقعد الخلفي، لا تظهر سوى عينيها تحت النقاب، بينما أجاب عبد الجبّار على الأسئلة. أخذ المسلّحون بطاقات الهوية وبدأوا الاستجواب: إلى أين يتوجّهان؟ لماذا يتوجّهان إلى كركوك؟ متى سيعودان؟ تقول، “شعرتُ بالرعب”، إذ رأت من السيارة صورتها، إلى جانب امرأتين يزيديتين أُخريين في مركز الحراسة، وتضيف “رؤية صورتي أكد لي أنهم يبحثون عني بشكلٍ جدي”.

ربما كانت قواعد داعش المتشدّدة هي ما سمحت لهم بالمرور. لم يطلبوا من مراد رفع نقابها وإظهار وجهها، وهو ما كان سيكشفهما بالتأكيد. استجوبوا عبد الجبّار ولكنهم لم يوجّهوا لها مباشرةً إلا أسئلة قليلة. يستطيع معظم العراقيين تمييز لهجة عربي من كركوك ويزيدي من كوشو. كتبت مراد “لم تكن عندي أدني فكرة كيف يُفترض أن يتكلم شخصٌ من كركوك”.

مرّا بعدة نقاط تفتيش أخرى تديرها داعش قبل أن يتوقف سائق الأجرة ويطلب منهم النزول. سارا بعد ذلك حول حاجزٍ ثم بطول الطريق الفارغ الواصل بين آخر نقطة تفتيش تابعة لداعش والأخرى التي تسيطر عليها القوات الكردية.

ودعا بعضهما البعض في اليوم التالي في فندقٍ في أربيل، عاصمة الإقليم الكردي شبه المستقل. ستكون هذه هي آخر مرة يريان بعضهما. في اليوم التالي لعودة عبد الجبّار إلى الموصل، كان هناك طرق ثقيل على الباب، وكان الطارقون من داعش هذه المرة.

العواقب

في منزل عائلة عبد الجبّار في الموصل، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، يصعد والده الدرجَ الضيّق إلى السطح حيث قام ابنه بهروبٍ دراميّ. يقول الوالد لمجلة TIME “لقد قفز إلى هناك”، مشيراً إلى سطح أحد الجيران بالأسفل. ومن هناك، هرب عبد الجبّار من أحد الأزقّة. كان واضحاً أنّ العراق لم يعُد آمناً له.

في الأسابيع التي تلت هروب عبد الجبّار من الموصل، قامت داعش باستجواب عائلته، إلّا أنّ العائلة تمكّنت من إقناع المسلَّحين بأنّ عبد الجبّار كان يتصرّف من تلقاء نفسه، ووعدَت أن تتبرَّأ من ابنها. في أكتوبر/تشرين الأول، عندما زارت مجلة TIME الموصل، كانت العائلة لا تزال متوتّرة، مُعرِبةً عن عدم رغبتها في نشر صور لها أو للمنزل. لقد خبّأوا مراد هنا قبل نقلها إلى منزل شقيقة عبد الجبّار في الجانب الآخر من المدينة، خوفاً من أنْ يكونَ أحدٌ قد رآها. تعرَّض ذلك المنزل لقَصفٍ جَوّيٍّ، قامت به القوات العراقيّة المدعومَة من الولايات المتّحدة، في قتالِها ضدّ داعش لإخراجِها من الموصل، ما أدَّى إلى مقتل شقيقة عبد الجبّار وعائلتها. واليوم، في الوقت الذي لم تعُد داعش تسيطر على المدينة، وبعد أنْ تمَّ إنزال العلَم الأسود الشهير، يقول العديد من العراقيّين إنّ المتعاطفين مع داعش والخلايا النائمة لا تزال موجودة.

اقترَض عبد الجبّار ما يقرب من سبعة آلاف دولار من عمّ له، وتكلَّف صديقٌ بتهريبه وزوجتِه الحامل وابنِه من الموصل في ناقلة وقود. كانت أوروبا هي الوجهة، حيث لا تستطيع داعش الوصول إليه. ولكن ستتضحّ صعوبة الرحلة على ابن عبد الجبّار الصغير وزوجتِه الحامل، رَندَة، التي عادت إلى الموصل في نوفمبر/تشرين الثاني 2014. خلال زيارة مجلة TIME في أكتوبر/تشرين الأول عام 2017، جلست رَندَة هادئةً على الأريكة بجوار طفلَيهما، بينما أخرَج والد عبد الجبّار تقريراً من المسؤولين الأكراد يؤكّد دورَ عبد الجبّار في إنقاذ مراد.

بعد قضاء عدة أسابيع في تركيا، توجَّه عبد الجبّار إلى الحدود البلغاريّة. وفي العاصمة صوفيا، تمّ اعتقالُه مع غيرِه من طالبي اللجوء العراقيّين والسوريّين. لم يكن عمله البطوليّ والتهديد الحقيقيّ الذي يواجهه إذا ما عاد إلى العراق يَعنيان شيئاً بالنسبة للشرطة البلغاريّة. يقول عبد الجبّار “هنا انهار كلُّ شيء”.

بينما مكَثَ عبد الجبّار لثلاثة أشهر في زنزانة سجن بلغاريّ، بدأت مراد تروي قصتَها للصحافيّين في مخيّمٍ للاجئين في شمال العراق، حيث أقامت مع ناجين من أفراد عائلتها. قتلت داعش آلافَ اليزيديين وشرَّدَت عشرات الآلاف من ديارهم، تذكُر مراد في كتابها “بكيتُ كلَّ يوم… كنتُ عندما أحلم، يتعلّق الحلمُ دوماً بالعودة إلى داعش والاضطرار للهروب مرّة أخرى”، وتضيف “لقد تعلّمنا كيف نحقّق الاستفادة القصوَى مما تقدِّمه وكالاتُ الإغاثة”.

عام 2015، كانت مراد واحدة من بين ألف امرأة تم اختيارهنّ للانتقال إلى ألمانيا في برنامجٍ تديره حكومة بادن-فورتمبيرغ الإقليمية. وكان الهدف هو مساعدة بعض أولئك الذين عانوا أكثرَ مِن غيرهم على أيدي داعش. وتُرك آلاف الناجين اليزيديّين الآخَرين.

في ديسمبر/كانون الأوّل 2015، روت مراد قصّتها للأمم المتّحدة في سويسرا، في محاولةٍ لرفعِ درجة الوعي بجرائم داعش، قالت “كان هدفهم هو القضاء على جميع اليزيديّين بدعوى أنّهم كفّار”.

عائلاتٌ مُشتّتة

في كتابها، تصِف مراد حياتَها البسيطة السعيدة التي عاشتها قبل وصول داعش إلى سنجار. كانت تذهَب إلى المدرسة وحلُمَت أنْ تصير معلّمة في يوم من الأيام، أو أنْ تعمل في صالون تجميل. كانت تُمضِي وقتَها مع ابنة أخيها كاثرين، تضعان مستحضرات التجميل وتُبدِيان إعجابَهما بالنساء في حفلات الزفاف العائليّة. وكتبَت مراد “بعد ذلك، كنت أطلب صورةً مع العروس، أضيفها إلى مجموعةٍ احتفظتُ بها في ألبوم صور سميك أخضر”، وأضافت “كنتُ أتخيّل أنّني عندما أفتح صالون التجميل، ستتصفّح النساء هذا الألبوم، ويَبحَثن عن تصفيفةِ الشعرِ المثاليّة”.

الآن وهي في الخامسة والعشرين من العمر، لا تشبه حياتُها أيَّ شيءٍ حلُمَت به، فقد كتبت مراد “عندما وصلتُ إلى ألمانيا في البداية، كنت أتوسَّل إلى حِسني، أخي، طوال الوقت لِيَدَعني أعود، لكنّه طلَب منّي أنْ أمنحَ ألمانيا فرصة”.

التقت مراد بشخصيّاتٍ أجنبيّة مرموقة ورؤساء دول، وقامت بحملةٍ مع محامية حقوق الإنسان أمل كلوني لمحاكمة داعش على جرائم الحرب التي ارتكبَتها؛ والآن يعرف الملايين تفاصيلَ معاناتها. وكما كتبَت مراد “أريد أن أكونَ آخرَ فتاة في العالم يكون لها قصّة مثل قصّتي”.

تفضّل مراد حالياً أنْ تركِّزَ على المستقبل. تقول ممثلةٌ مِن منظّمتها، Nadia’s Initiative، أنّ الحديث عن الماضي صعبٌ للغاية وله آثار ضارّة على صحتها، وأنّها تفضّل التركيزَ على العمل الذي تقوم به للمساعدة في إصلاح المجتمع اليزيديّ الممزّق.

أما قصّة عبد الجبّار، فهي على النقيض من ذلك، لا يَعرفُها أحدٌ تقريباً. لقد وصل إلى ألمانيا وتقدَّم بطلبِ لجوءٍ في مارس/آذار 2015، وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات، لم يُمنَح بعد وضع اللاجئ. لكنّه يملك نوعاً من الحماية المؤقّتة أعطَته تأشيرةً للبقاء في ألمانيا. وهو حالياً متقدِّم بطلب للحصول على تجديد، لكنّ السلطات الألمانيّة طلبَت جوازَ سفره العراقيّ، وهو شيء لا يملكه. لا يعرف عبد الجبّار ما سيحدث.

في الشقّة ذات الغرفة الواحدة، حيث يعيش حاليّاً في تورجاو بألمانيا، يتّصل عبد الجبّار بعائلته في الموصل بواسطة الفيديو. بالكاد يتعرّف أبناؤه عليه، تحمل زوجته رَندَة ابنَهما الأصغرَ -يحيى، البالغَ من العمر الآن ثلاثَ سنواتٍ- أمامَ الشاشة، وتحثّه “قُل مرحباً يا بابا”، ويكتفي يحيى بالتحديق. لَم يلتقِ عبد الجبّار ابنَه من قبل، ولم تُتَح له أبداً فرصة أنْ يَحملَه. كانت زوجته لا تزال حاملاً به عندما هَرَب.

يأخذ عبد الجبّار الهاتف ليُرِيَ يحيى دُمية دُبّ على الرفّ، كان قد اشتراها لعيد ميلاده الثاني، لكنّه لم يجد وسيلةً للوصول إلى الموصل بعد. يبتسم يحيى ويضحك قليلاً على مرأى اللعبة المحشوّة. يقول عبد الجبّار “قبل بضعة أيّام سألني: هل أنت أبي؟”.

الواقعية السياسية في قضية اللاجئين

استقبلت ألمانيا مليون لاجئ تقريباً عام 2015، ومنذ ذلك الوقت وهي تعاني من أجل البت والنظر في العدد الهائل من طلبات تقديم اللجوء. تقول فولكر ماريا هوغل، إحدى مؤسسي مؤسسة GGUA، لمساعدة اللاجئين، “تتم عملية اختيار اللاجئين بطريقة عشوائية.. مثل لعبة روليت، إذ أن إجراءات اللجوء ليست عادلة ولا جيدة، وتُرفض طلبات بعض الأشخاص عندما ينبغي أن يحصلوا على حماية”.

تقول هوغل أن من يتخذون قرارات استقبال اللاجئين ليسوا مُدرّبين بما يكفي، ولا يملكون القدر المطلوب من المعرفة لتحديد مصير لاجئين مثل عبد الجبّار. وقد تغيّر المناخ السياسي أيضاً منذ عام 2015، حين وقف الألمان حاملين لافتاتٍ في الشوارع مكتوبٌ عليها “مرحباً باللاجئين”. ثم إن أنغيلا ميركل تشعر برد فعل عنيف جراء سياستها المرحبّة باللاجئين في 2015، وتشهد البلاد تصاعداً في تأييد حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني والمناهض للاجئين.

والآن، يهدد الخلاف حول سياسات اللجوء بإسقاط حكومة ميركل الائتلافية. إذ يرى بعض من شركائها في الحكومة أن عليها تبني سياسة أشد حزماً مع اللاجئين، وبالتحديد أولئك الذين لم يسجلوا بعد تحت صفة لاجئين. ويدرك عبد الجبّار أنّ هذا يزيد من تزعزع وضعه. إذ يقول في حواره مع المجلة، “يواجه العراقيون المزيد من الرفض… ميركل تتراجع عن سياساتها”.

سافر غيرد مولر، وزير التنمية الألماني إلى العراق، في أبريل/نيسان، لتأمين تعاون الحكومة العراقية في استقبال وإعادة دمج اللاجئين العراقيين. تقول هوغل، “لا يمكن الفوز في الانتخابات حين تنادي بحماية اللاجئين”.

يخشى البعض أنه ومع إعلان الحكومة العراقية تخلّصها من داعش، يمكن أن يُعاد عراقيون مثل عبد الجبّار إلى البلاد. إلا أنه بالنسبة لعبد الجبّار فإن العودة للعراق ليست خياراً، فهو يقول إنه تلقى مكالمات ورسائل تهديد على الإنترنت من أنصار داعش، حتى اضطر إلى تغيير رقم هاتفه وكل حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي. وتقول عائلته إنهم أيضاً حتى وقت قريب كانوا يتلقون مكالمات في الموصل، تتوعدهم بالنيل من ابنهم إن هو عاد إلى العراق. يقول عبد الجبّار، “قال لي أصدقائي لا تأتي حتى إلى تركيا، فهم يستطيعون الوصول إليك هنا”.

حتى في ألمانيا، لا يشعر عبد الجبّار بأمان مطلق. إذ يقول أنه تلقّى، في العام الماضي، رسالة من مجهول تقول إنهم يعلمون أنه في ألمانيا وأنهم قادمون للنيل منه. يقول عبد الجبّار، “أنا لا أترك المنزل كثيراً… أغلب الأوقات أذهب إلى الصف الدراسي ثم أعود بعده إلى المنزل”.

تغطي جدران منزله صورٌ لأبنائه وأسرته، صورٌ لأطفال ضاحكين، وأوقات أسعد من تلك. ربما لم تعد داعش تسيطر على الموصل؛ لكنها لا زالت تسيطر على حياته. يقول حسان سالم، صديق عبد الجبّار، وهو أيضاً من الموصل ويعيش في ألمانيا، “كلنا نعلم أن داعش لم تندثر حقاً، هناك خلايا نائمة. جميعنا يعلم ذلك”.

الناجية والناشطة نادية مراد خلال مؤتمر صحافي بعد حصولها على جائزة نوبل للسلام

ما زال عبد الجبّار لا يعرف هوية من أخبر داعش بما قام به. وبينما كان يحاول هو ونادية مراد الوصول إلى عائلتها في مدينة أربيل ذاك اليوم من عام 2014، صورتهم المخابرات الكردية على شريط فيديو عند نقطة التفتيش وهم يَروون قصة هروبها، ثمّ أذاعوا القصة فيما بعد على التلفزيون المحلي. وبالرغم من أنّ وجهه مُغَبّش في الشريط؛ يقول عبد الجبّار إنّ أولئك الذين يعرفونه ويعرفون عائلته في الموصل سيكون بإمكانهم التعرف عليه.

يقول عبد الجبّار إنّ كل ما يريده، هو أن تنضمّ عائلته إليه في ألمانيا. إذ أنّ حياته في المدينة الألمانية الصغيرة -التي يبلغ تعداد سكانها 20 ألف شخص- منعزلة وتُشعره بالوحدة. يقول، “فقط أريدهم أن يكونوا بالقرب مني”. لا يمكنه حتى المطالبة بلمِّ شمل عائلته ما لم يحمل صفة اللاجئ بشكلٍ رسميّ.

يقول، إنّ سكان مدينة تورغاو هم في الغالب ودودون، لكن بالقرب من النهر تُرسم علامات “الصلبان المعقوفة” على جدران المباني المجاورة لمقر حركة “بيغيدا – PEGIDA” السياسية الألمانية -اختصاراً لـ “وطنيون أوروبيون ضد أسلمة الغرب”- وهي مجموعة مناهضة للهجرة.

يسحب عبد الجبّار مجلّداً مليئاً بمستندات اللجوء، وخطابات ووثائق من محاميه. من ضمنها رسالة من مراد إلى محامي عبد الجبّار. مكتوب على الرسالة أنّ محتواها “سريٌ للغاية”، وهي تقرُّ بالمخاطر التي واجهها عبد الجبّار في سبيل إنقاذها.

يُعدّ عبد الجبّار شخصية محورية في كتابها، ومعروفٌ فيها باسمٍ مستعار هو ناصر. لأنه وبينما كان تنظيم داعش لا يزال يسيطر على الموصل، كان كشف هوية عبد الجبّار وعائلته يعرّضهم لخطر القصاص. كتبت مراد، “عندما أنظر إلى الماضي وإلى هروبي، وإلى الباب المفتوح والفناء الهادئ، وإلى ناصر وعائلته المتواجدين في الحي المليء بالأشخاص المتعاطفين مع تنظيم الدولة الإسلامية؛ أرتعد من فكرة أن الأمر كله كان يمكن بسهولة أن يفشل”.

يبدو المستقبل قاتماً بالنسبة لعبد الجبّار. يقول إنّه يفكر كثيراً في إنهاء حياته. ويقول صديقه سالم إنّه منعه مرّتين من القيام بذلك. تبدو فرص منحه اللجوء أو انضمام عائلته إليه في ألمانيا في القريب العاجل ضئيلة. يقول عبد الجبّار إنّه لم يتحدث إلى مراد منذ أشهر. هم يعيشون الآن في ألمانيا وتفصل بينهم فقط بضع مئات من الأميال، وهي مسافة ليست أبعد بكثير من المسافة بين قريتها كوجو ومنزله بالموصل في العراق. تحدّثوا مراتٍ قليلة خلال السنوات الأخيرة؛ لكن عبد الجبّار يقول إن رقم هاتفها الذي كان لديه يبدو أنه قد فُصل عن الخدمة.

مع ذلك، يقول إنّه ليس نادماً على ما قام به هو وعائلته. يقول عبد الجبّار، “كان عليك رؤية السعادة على وجه أسرتها… أيّ شخصٍ كان سيفعل ما فعلته”.

مقال للكاتبة ريبيكا كولارد، وهي صحافية تعمل لصالح منصّات إخبارية عديدة وتغطّي أحداث الشرق الأوسط وأفريقيا.

هذا المقال مترجم عن مجلّةTime ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
نادية مراد… من داعش إلى جائزة النوبل

سامر المحمود- صحفي سوري | 23.04.2024

“مافيات” الفصائل المسلّحة شمال سوريا… تهريب مخدرات وإتجار بالبشر واغتيال الشهود

بالتزامن مع تجارة المخدرات، تنشط تجارة البشر عبر خطوط التهريب، إذ أكد شهود لـ"درج" رفضوا الكشف عن أسمائهم لأسباب أمنية، أن نقاط التهريب ممتدة من عفرين إلى جرابلس بإشراف فصائل الجيش الوطني، وتبلغ تكلفة الشخص الواحد نحو 800 دولار أميركي، والأشخاص في غالبيتهم خارجون من مناطق سيطرة النظام، متوجهون إلى تركيا ثم أوروبا.