fbpx

في اليوم العالمي للأرشيف: درويش الحريري… كنز الموشّحات الذي أهملناه!

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الأرشيف في المنطقة العربيّة مأساة لا يمكن الخوض فيها هنا، إذ ضاع وسُرق الكثير، وأُحرق آخر عمداً أو مصادفةً، وهناك بالطبع ما هو ممنوع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يصادف 9 حزيران/ يونيو اليوم العالميّ للأرشيف، التاريخ الذي اعتمدته اليونيسكو والمجلس العالمي للأرشيف عام 2007، والذي يصادف أيضاً إنشاء المجلس العالميّ للأرشيف عام 1948.

الأرشيف في المنطقة العربيّة مأساة لا يمكن الخوض فيها هنا، إذ ضاع وسُرق  الكثير، وأُحرق آخر عمداً أو مصادفةً، وهناك بالطبع ما هو ممنوع، وكأن هناك جهوداً مقصودة أو غير مقصودة للوقوف بوجه الأرشيف وما يحمله من سطوة سياسيّة وثقافيّة.

لا يعني ذلك غياب الجهود الرسميّة أحياناً لحفظ الأرشيف، أو تلك غير الرسميّة التي تسعى الى إنشاء أرشيفات رقميّة متاحة للجميع، في محاولة لجمع ما هو متوافر وموجود وحفظه من الضياع، خصوصاً حين الحديث عن الموسيقى، تلك التي خسرنا الكثير من تاريخها لا فقط لأسباب تجاريّة وسياسية، بل بسبب الإهمال أيضاً، وضياع الكثير من التسجيلات إلى الأبد.

لا أعرف لماذا تبادر إلى ذهني – على الفور – اسم الشيخ درويش الحريري (24/8/1881 – 8/1/1957) بمجرد أن قرأت عن الفاعليات الكثيرة التي تقيمها بعض المؤسسات الفنية العربية لمناسبة اليوم العالمي للأرشيف.

وعلى رغم تعدد الأسباب المنطقية التي تجعل الشيخ درويش أهلاً للاحتفاء والكتابة، فإنه من النادر أن تجد عنه مقالة مستفيضة تتعرض لمسيرة الرجل أو تتناول دوره البارز في حركة الموسيقى العربية خلال القرن العشرين أو حتى توثق جزءاً من نتاجه الموسيقي؛ الذي أعدّه الموسيقيون والنقّاد بمثابة المرجع الذي لا غنى عنه وبخاصة في قالبي الموشح والدور. هذا الغياب ربما يعزى إلى الأرشيف نفسه، وأسلوب الجمع والترتيب الذي قد يُبرز أسماء على حساب أخرى، ومن هذا الهمّ الأرشيفي بالذات، عدت إلى الشيخ درويش الحريري.

عتبات الفن الأولى

شهد المنزل رقم 5 بشارع بهاء الدين في قسم الجمالية، وتحديداً عطفة المدبح، مولد الشيخ درويش الحريري. وقد فقد إحدى عينيه في طفولته المبكرة، قبل أن يلتحق بكُتّاب الشيخ سيد أبي هاشم. وفي التاسعة من عمره، كان قد أتم حفظ القرآن الكريم. وبعد مدة من الزمن، التحق بالأزهر وتلّقى العلم فيه على يد الشيخ عبد القادر المازني. 

كان أول ما تبادر إلى سمعه، موشحاً نظمه كامل أفندي الخلعي. وقد أُعجب به فحفظ كلماته وأخذ “يدندنه” على قهوة في شارع محمد علي. وكان ذلك سبباً في انتباه أحد “الآلاتية” في المكان إلى موهبة هذا الشيخ ومهارته في حفظ الكلمات ونطقها بشكل سليم. وكان ذلك سبباً في عشقه لعالم الموشحات، فراح يحفظ كل ما يُصادفه منها. 

هناك حادثة طريفة رواها الشيخ الحريري للكاتب الصحافي محمد علي غريب في حوار أجراه معه لمجلة “الكواكب” (منشور في 18 أيلول/ سبتمبر 1956)، حينما سأله عن الشخص الذي يفوقه في حفظ الموشحّات، فأخبره أحد الأصدقاء بأنه حسين بك والي. وعندما ذهب إليه الحريري، أحضر له الرجل كل ما حفظ من الموشحات، لكنّه لم يجد بينها ما يجهله! وعندها أشار إليه الرجل بأنه إذا رغب في المزيد فعليه بشيخ جليل يجلس على مقهى “الأفندية” في حي الحسين ويُدعى درويش الحريري! فكانت المفاجأة عندما أخبره الحريري بأنه لا يوجد رجل يجلس على المقهى المذكور ويحفظ الموشّحات بهذا الاسم سواي ولكن عمري 18 عاماً فقط!.

الأرشيف في المنطقة العربيّة مأساة لا يمكن الخوض فيها هنا، إذ ضاع وسُرق  الكثير، وأُحرق آخر عمداً أو مصادفةً، وهناك بالطبع ما هو ممنوع، وكأن هناك جهوداً مقصودة أو غير مقصودة للوقوف بوجه الأرشيف وما يحمله من سطوة سياسيّة وثقافيّة.

كنز الموشحّات

كان الشيخ درويش الحريري بمثابة “السحّارة” التي تحفظ بداخلها كنوز الموشّحات التي تغنّى بها المطربون من شرق البلاد إلى غربها. وعلى رغم أنه لم يكن صاحب صوت حسن، فإن مهاراته في الحفظ والإلقاء كانت استثنائية. 

أما أول ما لحنّه من الموشّحات فكان قطعة مطلعها: “رقّ النسيمُ ورقّت الأقداحُ” وهي من كلماته أيضاً. وعندما سُئِل عن هؤلاء الذين تتلمذ على يديهم كانت إجابته: “إبراهيم المغربي” و”عبد الرحيم المسلوب”، وقد أخذ عنهما الموشّحات؛ حسبما أشار في حديث له مع مجلة مصر الحديثة المصوّرة (منشور في 30 كانون الثاني/ يناير 1930).

أستاذ الأساتذة

 كان الموقف السابق سبباً في أن أصبح الحريري أستاذاً في دروس الموسيقى للكثير من أبناء البيوت الأرستقراطية، فراح يعلمهم قواعد الموسيقى والأوزان والموشّحات والأدوار مقابل الجنيهات الذهبية. فأخذ عن علمه كل من: صالح باشا ثابت رئيس محكمة الاستئناف، ومصطفى رضا بك وحسن بك أنور وجميع مدرسي وزارة الموسيقى للمعارف من دون استثناء. وقد أخذ عن علمه أيضاً كل من الشيخ زكريا أحمد والأستاذ محمد عبد الوهاب.

أصوات في القلب

كان الحريري من المعجبين بأصوات فتحية أحمد وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. وعلى رغم تحفّظه على الجهر بمن يحب أصواتهم، نجده يقول في حوار له مع دوارة مندوب مجلة “أهل الفن” (منشور في 24 أيار/ مايو 1954) إنه يرى في أم كلثوم امتداداً لعهد الغناء القديم وميزتها أنها تغنّي كما كانوا يغنون من عشرات السنين. فالغناء لديها شرقي خالص وصوتها ممتاز ولديه قدرة على أداء جميع الألحان في سهولة ويُسر.

ملحنون في المرآة

 لم يعرف درويش الحريري المجاملة في آرائه التي ذهب إليها، وبخاصة حول الملحنين. فكان يرى أن كلاً من محمد عبد الوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطي جميعهم في مستوى واحد وإن كان يفضّل بينهم عبد الوهاب في نهجه القديم. كما أنه كان معجباً بحفاظ الشيخ زكريا على الروح الشرقية الأصيلة في ألحانه. وقديماً، كان يرى في محمد عثمان أكثر علماً ومعرفةً في الموسيقى عن عبده الحمولي، لكن صوته كان أقلّ عذوبةً كما أن الحامولي كان أكثر روحانية في موسيقاه. أما الشيخ سيد درويش بالنسبة إليه، فكان ملحناً للتخت والمسرح ولم يكن ممتازاً أو خارقاً للعادة شأنه كشأن باقي الملحنين! حسبما تحدّث في الحوار ذاته مع مجلة “أهل الفن”. سواء اتفقنا أو اختلفنا مع آراء الرجل، فلا يمكننا – بكل تأكيد – أن نختلف على براعته العالية في حفظ الموشّحات وأدق النغمات.

تسجيلات المؤتمر

كان درويش الحريري من بين الذين شاركوا في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عُقد في القاهرة خلال العام 1932. وقد سجّل موشّحات كثيرة أُدرجت ضمن كتاب المؤتمر الرسمي، وقامت شركة الغرامافون بتعبئتها في أسطوانات حجرية. ولم تتوقف مشاركته عند هذا الحدّ، بل كانت له آراء جادة كثيرة ضمن الجلسات والنقاشات التي أُثيرت حول النغمات والسلم الموسيقي في المؤتمر. فقد سأله مندوب مجلة “الصباح” (حسبما ورد في كتاب: مؤتمر الموسيقى العربية الأول – القاهرة 1932، للدكتور فكتور سحّاب) عن رأيه في مشكلة السلم الموسيقي. فكانت إجابته: “إن مشكلة السلم الموسيقي انتهينا منها إلى استقرار نهائي، وهو أن يكون 24 ربعاً… أما ما كان قد حدث في الجلسة الفنية وانضمامي إلى رأي الأستاذ منصور عوض، فتفصيل ذلك أن مصطفى بك رضا رئيس المعهد كان قد قال إن الكورد نوعان، نوع يصلح للحجاز وغيره وآخر هو النهاوند وغيره. ولما أثبت ذلك أمامنا عملياً، عرفت أن الفرق طفيف جداً. فقلت لهم إننا يمكننا أن نتنازل عن هذه الفروقات الصغيرة، إذ إنها لا تضر. وعلى ذلك، أجمع الجميع رأيهم على أن السلم الموسيقي 24 ربعاً”.

الموسيقى الشرقيّة في الميزان

 لم يكن درويش الحريري من بين الذين يؤمنون بالتزاوج بين الموسيقى الشرقية والغربية. فقد عارض بشدة الاقتباس من الغرب، إذ كان يرى أن الموسيقى قادرة بذاتها على التطور، وإن كان هناك عجزاً فهو من الملحن!، ومن الأفضل دراسة آثار القُدامى من الموسيقيين وجعلها وحياً يجب الإفادة منه في الإنتاج الحديث.

مقالة واحدة لا تكفي – بالطبع – للحديث عن أثر الشيخ درويش الحريري ومكانته في عالم الموسيقى الشرقية، لكن حسبنا هنا أن نكتفي بما كتبه عنه المؤرخ الموسيقي عبد المنعم عرفة في كتابه “تاريخ أعلام الموسيقى الشرقية” (1947) بقوله: “وقد عُرف في هذا الوسط بحُسن الخُلق يجيب كل طالب لطلبه، محباً للخير عطوفاً على أهله وإخوانه، لا يبخل بماله عليهم حتى كان ذلك سبباً في ضيق يده فهو لا يملك إلا قوت يومه”.